على مدى اكثر من قرنين، وقعت منطقة الشرق متوسطية / العربية، تحت طائلة ووطاة حال من الخروج عن الذات، لصالح الظاهرة الغربية الحداثية المستجده، ومنجزها الكبير الشامل نموذجا وتفكرا، واذ التقت حالة الانقطاع الانحداري المهيمنه على المنطقة منذ 1258 ، تاريخ سقوط بغداد عاصمة الإمبراطورية الكبرى، على يد المغول، مع ما اعقب ذلك من الاشعاع الأوربي الحديث، والانقلاب الالي، فلقد صار مما لامهرب منه الخضوع لاحكام طور اخر من الانهيارية الانحطاطية، جاء مغلفا بالايهام، وبالتماهي مع الاخر، خارج الاليات التاريخيه، والكينونه البنيوية، ليصير لهذا الطور الملحق، تسمية من نوعه الايهامي، تعزز مقبوليته، عرفته على انه “نهضة”، ليس هنالك مايبررها، او يحيز اطلاقها بحسب ماهو حاصل، سوى محاولة التعرف على الاخر، وتوهم إمكانية نقل منجزه، في الوقت الذي كان ينبغي استخدام تسميه اكثر انطباقا عليه، مثل، او من نوع: “الانحطاط الثاني”.
واغرب واكثر ماله دلاله من بين خاصيات خطاب النهضة المزعومه، عزوفها واستقالتها الكلية عن أي نوع من أنواع التعرف على الذات كديناميات، فضلا عن محاولة استحضارمنجزها من دون خلفياته، فقط كدالة تبريرية، تقول ان المنطقة قابله لان تلحق بالغرب، بدليل ماضيها الزاهر، ونهضتها العظمى المتهاوية، حتى وان باليات غير الياتها، ولم تنبت في ارضها، وبينما كانت ترد أسئلة من نوع ” لماذا تقدم الغرب وتاخرنا؟”، فان أحدا لم يخطر له البحث عن الإجابة عن طريق الانكباب على الكينونه، والتصير التاريخي، ونوع الاليات التي جعلت المنطقة تنهض في التاريخ لمرتين، قبل ان تنهار انهيارها الحالي الذي عرف متاخرا نهوض الغرب، وانقلابيته الحالية الكبرى.
هذا عنى ويعني ببساطة، ان العالم الشرق متوسطي العربي عاش من القرن التاسع عشر، الى اليوم بلا “فعالية عقلية”، مع غلبة وسيادة “النقلية” على تعدد صنوفها، ومدارسها المختلفة، ولم يكن توقف العقل هذا معزولا عن مبعثه الواقعي، كما يتمثل في توقف، او تباطؤ الديناميات التاريخيه الذاتيه مثلما حصل مع نهاية الدورة التاريخية الأولى، تلك التي ارتبطت بالتاسيسات البدئية البكورية للمجتمعات النهرية الشرق متوسطية، ومنجزها الهائل، قبل ان تنتكس وتقع تحت وطاة الاحتلالات الشرقية والغربية، الرومانيه، الفارسية، حين تبلورت وقتها واثناءها الخاصيات التعبيرية المطابقة للكينونة التاريخيه، كما تمثلت بالابراهيميه وقراءاتها العملية الكبرى الثلاث، واختراقها للامبراطورية الرومانية ابتداء، والفارسية، مع التحرير الذاهب الى حدود الصين الى الشرق، واوربا الى الغرب، قبل قيام المركز الامبراطوري الكوني البغدادي وريث البابلي، واستمراره على مدى خمسة قرون.كرست الحاق الدائرة الشرقية بالابراهيميه النبوية
وبالمقارنه بالعبقريات النبوية الحدسية الابراهيمه، وفعاليتها البنائية للمنظور السماوي اللاارضوي و”مملكة الله على الأرض”، يبدو العقل هنا اليوم بغاية التهافت والشلل الكلي الأقرب للببغاوي، لا إزاء الاخر والغرب تحديدا، بل إزاء الذات، الامر الذي يتولد عنه تعد احتمالي كوني للمكان، قياسا الى نوع منجزه، ومقدار تطابقة مع المضمر في الظاهرة المجتمعية، ومسار صيرورتها، ومآلاتها المقررة على مستوى المعمورة، أي على صعيد الدور الكوني المناط بالمنطقة التي نقصدها ونحن نعاين سياقات ونطاق حضور منجزها تاريخيا على مستوى المعمورة، ونوعه.
وقد يكون الاشكال الاكبر على هذا الصعيد، كامن ليس فقط في قوة حضور الغرب وسطوته النموذجية، بل وفي ماهو متبق من اشكال التعبيرية الذاتيه الرئيسية، كما هي ممثلة في الابراهيميه الالهامية الحدسية، واحتمالية انتهاء مفعولها بعد تاديتها الدور المطلوب منها، وواكب حضورها، ما من شانه وضع العقل المتردي الحالي، امام تحد اقرب للاستحالة المطلقة، فلا يمكن مثلا اليوم تخيل ابراهيمه ثانيه “جديدة”،مابعد ابراهيميه نبوية، طابعها الرئيسي “ادراكي”، بدل الحدسي، و “علّي” محل الالهامي، بالاخص مع مايلازم بنية الابراهيمه من ايمانيه تقديسيه، هي احدى ضرورتها وقتها، ولوازم بقاءها ابان تبلوراتها الأولى، وقراءاتها الكبرى، مايمنع تماما الاعتقاد بانتهاء مفعولها التاريخي منذ القرن الرابع الهجري، قبل قرابة الف عام مع الإعلان “المهدوي/ الانتظاري” من سامراء، أي إحالة المهمة الكبرى الانتهائية، الى زمن وطور اخر، غير الختامي الحالي الذي ثبت قصوره بإزاء المهمة التحولية العظمى .
وثمة اشكال اكثر وطاة وثقلا على التفكرية الاعقالية، في حال تهيأت لها الأسباب للحضور الحي، يتاتى من ضرورة الربط بين الأساس المادي، للتعبيرية السماوية عموما، مقابل المصدر المتعارف عليه، بما هو حالة الهامية “شخصية” اجتبائية، مفرده، مايقصي من اللوحة، التصيرية التاريخية المجتمعية، وجوهرها التحولي النهائي، ويبقيها مبهمه “ابدية”، بلا نهاية، وبلا احتمالية انتهائية، تجرؤ على الاعلام بان المجتمعية ظاهرة يسري عليها قانون انتهاء الصلاحية، وانها لحظة منطوية على مابعدها.
وهذا مانصير مجبرين وقت التنبه له، على البحث له عن دالة تفسيريه، ومبرر قابل للمعاينه، ان لم يكن اللمس، متمثلا ب”اللاارضوية” المجتمعية الأصل، تلك التي قامت في اصل الظاهرة المجتمعية في سومر في ارض مابين النهرين، محكومة لقانون “العيش على حافة الفناء”، قبل ان تتحول لحالة “ازدواج” تصارعي مجتمعية، من تكوين اعلى ارضوي احادي، وكينونه لاارضوية غير قابله للتجسد كيانيا، لانتفاء الأسباب/ الارضوية، لنجد انفسنا بإزاء حالة تعبيرية مزدوجة: أرضية امبراطورية، هي خاصية ملازمه لكيانيه مابين النهرين منذ الإمبراطورية الاكدية في الاف الثالث قبل الميلاد، الى العباسية، بما هي تعبير اعلى ارضوي، تقابلها، سماوية هي شكل التعبيرية اللاارضوي المتجلي بحكم الكينونه والطبيعة، خارج ارضه، هذا ولابد لاكتمال عناصر المشهد ابتداء ومنطلقا تاسيسيا، من التعرف على الكيانيه الازدواجية بما هي كيانيه متعدية للكيانيه، أي “لاوطنيه” محلوية على النسق المصري الأحادي التجلي، او ذلك الأوربي الحديث باعلى حالات تشكله الكيانية ل ( الدولة / الامة) القومية.
لكن اللاارضوية لاوجود لها وعيا ونموذجا على مستوى الادراك العقلي، وهي داله صارخه على تدني الإمكانات العقلية، واستمرار نكوصها إزاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، الامر المستمر منذ الاف السنين، مرت على المجتمعات، فلم تظهر بينها دالات او لية ابتدائية على التحسس بامكانيه او ضرورة تجاوز النقص الادراكي العقلي بإزاء المجتمعية، الا مع منتصف القرن التاسع عشر مع “اخر العلوم”، الامر الذي يراكم اذا ركزنا على الظاهرة المقصودة التي نحن بصددها، جمله من الابهامات ومواطن العجز، في مقدمها حتما، احتمال “تاريخانيه” لا ارضوية مقصية كليا، مخططها الاولي العام : ماقبل ابراهيمه وتبلوراتها المجتمعية، الى الابراهيمه وحضورها الأعلى، ممثلا في القراءات الكبرى ومفعولها التاريخي الكوني، وصولا الى انتهاء فعاليتها بعد انتهائها دورها، وصولا الى الطور الحالي الراهن مابعد النبوي “العلّي”.
تبدأ ظاهرة المجتمعات “لاارضوية” غير قابلة للتحقق في حينه، مايؤدي لغلبة الارضوية واستمرار هيمنتها المفهومية والنموذجيه، لانتشارها الكاسح نمطا على مستوى المعمورة، ولافتقاد العمليه المجتمعية اللاارضوية للوسائل التحولية الضرورية المادية، وفي مقدمها الالة والتكنولوجيا، علما بان الارضوية محكومة بقانون انتهاء، وفقدان للأسباب الموجبه للاستمرار كما هو حاصل اليوم على مستوى المعمورة، مع بدء شمول قانون “العيش على حافة الفناء” للعالم، وحلول الالحاحية التحولية لمابعد مجتمعية.
قد تجد أمريكا اليوم من ضمن انحدارها، وبدايات تازمها الاقصى، نفسها معنية باستعمال طبعة مستهلكه منتهية الصلاحية من اللاارضوية الابراهيميه، في حين تلح على الكيان الأمريكي “المفقس خارج رحم التاريخ”، ضرورة أخرى مختلفة، تتزايد تبلورا، بعدما جرت مصادرة نزوعها الابراهيمي الأول، النبوي المنتهي الصلاحية في ارضه، التاريخي، الذي لازم وجودها، والهجرة الأولى اليها، وهو مافعله الراسمال الأوربي، ليحوله الى “رسالية” ايديلوجية خادعة، بخدمة، وتامينا لأغراضه الامبريالية، ماقد بدا اليوم، ومن هنا فصاعدا بالانطفاء، قبل الانهيار الذي بدات علائمه تلوح في الأفق، لينتهي طور المصادرة الغربية للقارة الجديده، ومعه الغرب نفسه، بعدما قام بما هو موكل بادائه من إيصال المجتمعية الارضوية الى قمة ومنتهى تجليها، قبل فقدانها أسباب الاستمرار.
تعود فتلقى على عائق المنطقة البدئية البكورية اللاارضوية من هنا فصاعدا، مهمة كانت وظلت تضطلع بها عبر الدورات وفترات الانقطاع والغياب الارضوي، وبعدما وضعت هي أسس الاعقال البكورية للوجود، ومنحت العالم الرؤية الشاملة الكونيه الابقى، كما اسهمت بصورة اكيده في تهيئة الأسباب لانتقال الطرف الأوربي الى الثورة البرجوازية، والالة، بما اوجدته من اشتراطات اقتصادية عالميه ريعيه تجارية، ونظام اقتصادي عالمي موحد ممتد من الصين الى اوربا، قبل ان تقع اليوم تحت طائلة ووطاة الظاهرة الغربيه الحداثية، وما تعنية، كونها المحطة الأخيرة، والعتبه المفضية الى مابعد مجتمعية، بينما ليس ثمه ولا وجود لمن بامكانه، او من يمتك الأسباب والكينونة البنيوية الضرورية التي تؤهله لكي ينطق بعد طول خرس تاريخي وتاجيل طويل، غيرها.
انتهى عهد وزمن من تاريخ المنطقة والعالم، لنغدو اليوم على مشارف “مابعد غرب”، ومابعد مجتمعية، فماذا، وكيف سيكون، وأين؟ مكان العقل الشرق متوسطي من هنا فصاعدا، وكيف وأين سيقف من متبقيات ايهاميتة ونموذجه المنقول افتراضا باسم “اللحاق بالغرب”؟، من قبل من يفترض بالغرب ان يلحق بهم.
ـ يتبع ـ
ثوره على -النهضوية الحداثية الزائفه-؟/1
اترك تعليقا