توظيف الأغنية في الشعر السياسي.. موفق محمد أنموذجا
محمد علي محيي الدين
صدر ديوان جديد للشاعر العراقي الكبير موفق محمد بعنوان( سعدي الحلي في جنائنه) عن المركز الثقافي للطباعة والنشر/ العراق سوريا، والديوان بانوراما استلهم خلالها الشاعر أغاني المطرب سعدي الحلي وضمنها في هذه القصيدة المطولة التي صدرت بديوان مستقل ب(66) صفحة من القطع المتوسط.
في هذه القصيدة أستطاع الشاعر توظيف مقاطع من أغاني سعدي الحلي في قصيدته، والقارئ يعجب لهذه المزاوجة بين الأغنية الشعبية والشعر الفصيح، فالتضمين المألوف في الشعر العربي هو قيام الشاعر باستلال بيت أو شطر بيت يضمنه قصيدته ليأتي مكملا لمعناها دون نبو أو خروج عن الموضوع، والتضمين قد يكون خارجا عن السياق لدى البعض في الوقت الذي يستطيع آخرون توظيفه ليكون جزءا من القصيدة حتى يخال القارئ والسامع أنه جزء منها وضمن سياقها وهذا نابع من قدرة الشاعر وإمكاناته في التوظيف الفني لهذا التضمين، ولكن أن يوظف الشاعر النص الشعبي فهو ضرب من الجدة يدل على اعتداد الشاعر وقدرته على التوظيف الفني والجمالي للمفردات الشعبية في النصوص الفصيحة.
نعم هناك شعراء وظفوا الأسطورة والموروث الشعبي في قصائدهم كالسياب والبياتي وسعدي يوسف وعلى العلاق وغيرهم ولكنهم اعتمدوا نماذج قليلة ومحددة فيما أستطاع الشاعر موفق محمد بما يمتلك من قدرات فنية ومهارات شعرية توظيف عشرات النصوص الشعبية في مطولته هذه، بل زاد عليها بتوظيف مفردات شعبية وجدت مكانها في قصيدته فأضفت عليها من الإبداع والأصالة الشيء الكثير، وسارت بانسيابية عالية جعلت من هذا التزاوج بابا للتلاقح بين الشعبي والفصيح.
وليست هذه هي المحاولة الأولى التي خاضها فالكثير من قصائده ضمت في ثناياها مقاطع ومفردات شعبية وظفها في قصائده فأعطت شعره بعدا آخر جعله في الذروة من القبول في منابر الشعر وهذا التوظيف الجيد أعطى للشعر الفصيح زخما لم يصله شعراء ابتعدوا عن هذه التضمينات فكانت قصائدهم تمر مرورا سريعا دون أن تجعل القارئ والسامع يتفاعل معها كما هو الحال في قصائد موفق التي رددها الجمهور وحفظها وأخذت طريقها للشهرة التي يفتقدها الشعر الفصيح.
في قصيدته هذه أنتقى صور كثيرة لا يمكن لمقالة استيعابها أو الإحاطة بها وربما تحتاج لدراسة توازي الديوان أو تزيد عليه لذلك سأحاول اختيار الأنساق المختلفة التي أستمدها الشاعر واستعان بها في تبيان المفاهيم والرؤى المختلفة وإعطائها الشكل المؤطر برؤيته لما خلف كلماتها من زخم وإيحاء ومداليل وأفكار لم يكن في بال شاعر الأغنية أو في تصوره المرور بها أو الإشارة إليها ومن هنا تبدوا قيمة التضمين الفني المؤدلج في الرؤية التي يراها الشاعر من خلال توظيف النص الشعبي في أطار جديد.
والاغاني وان غناها مطرب الشجن العراقي سعدي الحلي الا انها تخفي بين طياتها رؤى وأفكار الشاعر الذي صاغ كلماتها فليس لسعدي منها غير الأداء الشجي فيما يكون للشاعر رؤيته وأفكاره التي أستطاع توظيفها في أغنية عاطفية كان لها تأثيرها على المتلقي لما حوت من معان ومضامين وصور اخذت حيزها في التفكير الشعبي ومكانها في الذائقة الشعبية بما أضفى عليها الحلي من شجن بابلي وطبقة صوتيه لاءمت المفردة وساوقت اللحن فكان لها تأثيرها العاطفي في المتلقين رغم تباين ثقافاتهم وانحدارهم واختلاف اذواقهم.
وتضمين النص الشعبي او المفردة الشعبية في شعر موفق محمد تجاوز الاطر التقليدية للتضمين فالأغنية وظفت اساسا للتطريب واشاعة اجواء الفرح والبهجة ولكنه وظفها هنا سياسيا فكان لها تأثير أكبر في ايصال الفكرة وتفاعل الجمهور معها.
فعندما يشدو سعدي الحلي متغزلا بمن يحب واصفا معاناته والقلق الذي استحوذ على تفكيره والحيرة التي جعلته عاجزا عن أتخاذ القرار فيقول:
“حاير ممتحن شرتكب يا راي فكري كله يمك”
فيكمل هذه الحيرة موفق محمد باستذكار فترة عصيبة عندما هرب جنرالات الجيش العراقي ليموت الجنود المساكين ويكونوا ضحية الفاشلين من قادتهم الذين لاذوا بالفرار بعد أن ارتدوا الدشاديش ليخفوا حقيقتهم فحيرة الشاعر من هذه المفارقة تتساوق وحيرة الفنان سعدي الحلي من الحبيب الذي جعله في حيرة من امره لا يستطيع اتخاذ قرار او فعل حيال ما جرى فيقول:
“حاير ممتحن شرتكب يا راي
فكري كله يمك”
لم يبق شيء في الربايا
الجنود –وهذا هو حظ أولاد الملحة- ميتون
والجنرالات الاسود على أبناء جلدتهم
أصحاب السيوف المتقاطعة
والتيجان الراجفة على الأكتاف
يلبسون الدشاديش
ويسوقون سياراتهم الرباعية الدفع
منذ الطلقة الأولى
وهنا استطاع الشاعر تحويل النص الغنائي برؤاه وأخيلته البعيدة عن السياق المألوف لقصيدة الحرب ليكون فاتحة لرؤية جديدة أضفت على النص بعدا جديدا واعطت المعنى انسيابية ما كان لها أن تكون كما أراد لولا القدرة على التعامل مع النص وفق رؤية أسبغها خياله لتشكل نسقا جديدا في توليف المعاني وفق رؤية تتعامل مع المفردة في سياقها المألوف.
وفي منحى آخر يستلهم من أغنية أخرى تناولت مفردة الموت في سياقه العام ليخلق منها صورة جديدة يحاكم فيها القتلة الذين استمرئوا الموت وجعلوا منه ميسما لحياتنا اليومية فكان لنزيف الدم وحشرجات القتلى وأزيز الرصاص صوته في جنبات الحياة العراقية بفعل من جعلوا من الموت سلما لتحقيق مطامعهم وتنفيذ أجنداتهم تحت مسميات وفرضيات جعلت الموت حالة صحية مقننة بشرائع وقوانين علوية متسائلا أين هي السماء التي في ظلها يكون القتل غاية:
وغن لي الآن:
“لطمهه.. گلت بالموت هالغبره لطمها
بجه منها وشكه وردها عليه”
وأضرب بصوتك بطن الأرض
فانشقت من القتلى السماء
ومدت سلما تتسلقه الأرواح المشوية
في جحيم اللحى
وجحيم الوحوش
التي تخبط المودة صافية في رقابنا
وتصلي
والرب يرى
والسماء تضيء
فسعدي الذي جعله الشوق يلوذ بالموت حلا لقضيته فيرفضه الموت لعدم قدرته على تحمل أعباء ما سيواجه في أستلاب الروح والابتلاء بما سيكون من هذه الروح لو أرادت فرض ما تريد في عالم الموت الساكن، يقابلها ما طرحه الشاعر من مجاراة الموت لهؤلاء الذين جعلوا الموت وسيلة لحياتهم تجلى في ضحك السماء لاستقبال هذه الأرواح التي قننت برغبات الإله المزعوم في الوقت الذي رفض الموت استقبال روح عاشق أضر به الهوى، فأين هي العدالة في ملكوت الموت وأين يكمن السر في هذه الازدواجية في التعامل مع موقفين.
والحب الطاغي لموفق محمد هو حب نقي طاهر لا يشبه حب أبن أبي ربيعة أو وله قيس أو عشق ابو نوأس أنه من طراز خاص يتموضع في فكره ويعشعش في ثناياه ويتشرب في ذاته ، حب يبعد عن الذات ويهرب عن الأنا ويغفو في الثنايا طاهرا معربدا في ملكوت لا يعرفه الا من عرف هذا العشق، فالوطن له صوره التي تجسدت في مخياله بأم طالما لهج بها في شعره وغنى لها في سكره، وعشقه سرمدي لمن تجذر في مساربها وتمشى في شرايينها عبق ارض تمرغ على ترابها حمورابي وغفى على أديمها نبوخذنصر، وتمرجحت أوميت متسلقة جبال وهمية صنعتها ارادة الانسان، بعبق حضاري لم يرق له عالمنا القديم، وتحولت فيه شقائق النعمان الى وردة بيضاء تتأرجح في شتلات الباقلاء الحلية الخالدة :
واللبوة تزأر في صوتك
وانت تروضها
تفلتر هذا الالم النازف في قلبها
وتشرب مرها فيغفو العسل على شفتيك
وتتلون وردة الباكلة في راحتيك
“امك طاغية يا زين الاوصاف تتباهه بجمالك”
فأي قطاة هذه الام التي تقفز
من ساقية لساقية
لتدل الغيوم على السواقع الرضع
“وخالاتك تخاف عليك وتغار يمه من خيالك
وعماتك يلقبنك يشفاف بالنسبة لجمالك
وانه راح القبنك واسميك روحي معلـگـه بيك”
والصوت الحلي الذي يحمل الشجن البابلي واسى اور يتقافز من بيت الى بيت في سنوات الحلكة والضياع ويتهادى في ادعية الامهات اللواتي ينتظرن ابنائهن الذاهبين الى طاحونة العرب بقلوب وجلة، يحملن وصايا الرب وأعراف المحلة وقوانين المسلة التي تمازجت فأصبحت قانونا سرمديا على قطبه تدور حياتهم وتنمو أخلاقهم وتكبر عاداتهم :
يمه عود من توصل الحرب خلي عينك
بعين الله
ودير بالك على ولد الجيران
فأشرقت في نخيلها رطبا
واوصت قمرها الا يفطم رضيعا من حليبه
فلا غرابة من هذا الحمام المتطاير
من اكف الحليين وهم ينامون صيفا
فوق سطوح منازلهم
فلا جائع ولا ديك الزعلانة
“بطلت ماناميش بالحلة وحدي
ازعل وگـول اتطول ويردني سعدي
فصوتك ياتيني من تيغة لتيغه
ضاجا بعصافير اللذة
وما حدث من دمار اطاح بالأسس التي عليها المجتمع العراقي استثمرها الشاعر في صورة تجذرت في ضمير الناس، فالتحول المجتمعي العجيب والانقلاب الاخلاقي الكبير لا يمكن للخيال ان يتصوره وهو يرى الامور تسير بالمقلوب والحياة تعود للوراء والقيم المترسخة تتهاوى امام هذا الاعصار الذي اطاح بكل ماهو جميل عندما تسلط حفنة من المغامرين على رقاب الناس وفرضوا نمطا لم يكم مألوفا لدينا واصبحنا بين ليلة وضحاها رهن تصورات وافكار ضحلة اضاعت ما تبقى لنا من مثل نعتز بها:
فمن اين جاءت كل هذه الخناجر
والسكاكين
والسيوف
والقاذفات الراجمات
الصادقات المؤمنات
اكانت مخبئة بين العمائم واللحى
“كلها تريد ترمي السهم بحشاي
آنه وحيد ونتن بنات اهوايه”
وهو يائس من رؤي النور في نهاية النفق لذلك تتجذر المأساة في تفكيره وتسلب منه تلك الارادة التي طالما واجهت المحن وخرجت منها ظافرة، فالمواجهة كانت بين قوى لها رؤيتها ونظريتها المبنية على واقع حياتي معاش فيما برزت اليوم قوى جديدة لا زالت تعيش في ماض مج عافه الناس ورماه التاريخ في زواياه المنسية فبعثوا فيه الحياة ليعود مجددا في محاولة لإعادة الحياة الى من مات وقبر وضاعت معالم قبره الا في عقول صدئة عاشت وترعرعت في اقبية مظلمة تملؤها الصراصير والعفونة:
وانين حمائم مر بها الطشاري سريعا
فهوت فوق الارض رمادا
ودموع ندامى تفت الخمرة
ما تبقى من اكبادهم وهم يغنون:
” يلرايحه بليل لهلـچ
حولي عدنه الليله
ابعيد الدرب” .. فمن يوصلك
ومن يضمن لك بقاءهم احياء
والساعة قائمة لا ريب
“خايف عليـچ من الخطر
والدرب مظلم والـگـمر
غايب ولسه ماظهر
خل نـگـعد نتانيله
حولي عدنه الليله”