كريم عبد
مـجتمعات كثيرة تُصبح عرضة لهزات سياسية كبيرة، وقد تـمر بـحالات من الخذلان الحضاري، أو التدهور الإقتصادي، لكنَّ هذا بحد ذاته لا ينطوي على مأزق يُهدد وجودها أو وحدتها الوطنية ما دام الأمر متـعلقاً بظروف تاريخية مفروضة ونتائج راهنة يمكن إدراك آلياتـها لتجاوزها وتـخطي مضاعفاتـها، لكن الأمر يصبح مأزقاً عندما يتحول الخذلان ذاته إلى ثقافة، ثقافة تجد من يدافع عنها ويبـررها، بل ويبتكر لها نظريات على غرار نظرية المستبد العادل كما كان الأمر أيام الديكتاتورية، أو تبرير النفوذ الإقليمي والدولي الذي تكرّسَ بعد إنهيار مؤسسات الدولة العراقية !!
لقد كانت تناقضات الواقع العراقي واضحة ولا يمكن تغطيتها أو المرور عليها بسهولة، لكنَّ سقوط الديكتاتورية وانهيار الدولة أدّيا إلى ظهور هذه التناقضات دفعة واحدة وبطريقة لم تستطع الأحزاب النافذة استيعابها والتعامل معها باسلوب يجعل تلك التناقضات تحت السيطرة.
إن استمرار الديكتاتورية لأكثر من ثلاثين سنة جعل من الصعوبة التخلص من ثقافة الخذلان خصوصاً عند البعثيين الذين جعلهم نظام صدام أتباعاً يخاف بعضهم من البعض الآخر ناهيك عن تورطهم بدماء العراقيين وعذاباتهم المعروفة، هذا الخذلان المترسخ في نفوس البعثيين هو الذي دفعهم للترحيب بإرهابيي القاعدة والإستعانة بدول الجوار المتضررة من المشروع الديمقراطي بالعراق، الأمر الذي حوّل البلاد إلى ساحة مفتوحة للإرهاب والدمار لسنوات عديدة، لقد أدى شيوع الرعب والخراب إلى ردود فعل اجتماعية تتراوح بين السلبية المطلقة التي وصلت لحد الهروب الجماعي من العراق تخلصاً من الموت الذي قد يفاجىء الإنسان في أية لحظة، وبين العسكرة المضادة ما جعل السيطرة على الوضع العام من قبل أجهزة الدولة الجديدة أمراً صعباً في حينها.
إن كل تلك الأحداث أدت إلى صعوبة إنتاج ظواهر سياسية صحية، فقد استمرت الريبة وتصاعد التصادم بين الأطراف المتصارعة، وكل هذا بدوره أدى إلى تكريس ثقافة الخذلان، أي عدم قدرة الأطراف المعنية على مواجهة تناقضات الواقع الصعبة، أو معالجة الأمور بطريقة موضوعية. أما على الصعيد الاجتماعي فكان الشعور بالخذلان أكثر قسوة، خصوصاً مع تكريس مبدأ المحاصصة الذي عوّق المشروع الديمقراطي، وشيوع ظواهر الفساد وانعدام الخدمات وتراكم الفقر والحرمان عند أعداد متزايدة من العراقيين.
وبينما تستمر الأطراف السياسية في تناقضاتها، أصبح للخذلان سلطة تنتقل بالعدوى إلى مشاعر الناس فتربك وعيهم وتـهيمن على طريقة حياتهم، فتتدخل لغة الخذلان في جوهر الأشياء والعواطف وردود الأفعال وتفاصيلها، ما جعل المجتمع أشبه بجزر معزولة يصعب عليها التواصل البنّاء ! وإمعاناً في الغرابة نجد بيننا المستفيدين من كل هذه المعاناة، وهناك أيضاً أثرياء الفساد الذين تحولوا إلى ظاهرة خطيرة، وهناك من يبحث عن لقمة العيش دون جدوى، وهناك من هو مذهول من كل ما حدث ويحدث دون أن يحرك ساكناً، ولكن أيضاً هناك حراك سياسي يتمثل بالرافضين لكل هذا الظلم والجور، وما هذا الحراك السياسي الذي يتبلور بصعوبة إلا البداية لنشوء ثقافة مضادة لثقافة الخذلان والمتخاذلين.
إنَّ ثقافة الخذلان ما زالت تفعل
فعلها معوّقة حركة التاريخ ولهفة المجتمع للتغيير، فمع استمرار الصعوبات
نجد أن هناك من يفتش عن قائد استثنائي أو ما يسميه البعض ب(الشخصية الجامعة)، وشخصية من هذا النوع لا يمكن أن توجد، لأنها شخصية غير واقعية، فلا يمكن
توحيد جميع طبقات المجتمع وتوجهاته المتباينة على شخصية معينة، بل يمكن توحيده على مبادىء وطنية تحت غطاء النظام الديمقراطي، لكن أولئك الذين يفتشون عن بطل تاريخي إنما يحنون للديكتاتور بدوافع من تراكم ثقافة الخذلان في دواخلهم، أنهم يفعلون ذلك بمشاعر لا يدركونها ربما.
ليست نظرية الـمستبد العادل جديدة، بل هي قديمة قدم الخذلان ذاته، لكن الغريب في الأمر هو إن مثل هذه النظريات ورغم ما تنطوي عليه من تناقض في اللغة والمنطق، حيث لا يمكن أن يجسد الـمرء الشيء ونقيضه في الوقت نفسه – وهذه مسألة تختلف تماماً عن كون الإنسان كائناً يتناقض أحياناً – فالتناقض ليس بوسعه أن يكون نـهجاً في الحكم، وخاصة في العصر الحديث.
التناقض بطبيعته حالة قلقة تبحث عن إستقرار، أي عن لحظة تحسم فيها الأمور في إتجاه معيـن، كأن يكون الحاكم مستبداً أراد تضليل الناس لبعض الوقت ( كما فعل البعثيون في السنتين الأولتين بعد 1968) ولكنهم سرعان ما عادوا إلى الإستبداد الصريح، أو أن يكون الحاكم عادلاً لكن ظروفاً معينة أعاقت أو أخّرت عدالته، هذا إذا إفترضنا وجود حاكم فرد يمكن أن يحقق العدالة في هذا العصر !! وكل هذا يمكن أن يكون مفهوماً عندما تتخذ الأمور وجهة معينة، لكن ما هو غير مفهوم هو أن نعيش في عصر إنكشفت فيه جميع الأباطيل واصبحت الأشياء تسمى باسمائها سلباً أو إيجاباً، رغم ذلك نرى من لا يزال يجد متعة في الخضوع لأحزاب وحركات تريد إحلال لغة السلاح محل الحوار الديمقراطي دون التفكير بالعواقب الكارثية التي يمكن أن تحل بالبلد جراء عودة العنف خصوصاً بعد إتمام الإنسحاب الأمريكي!
إن الخذلان المتراكم في النفوس
خلق لنا أشخاصاً وجماعات وأحياناً حركات سياسية تحيا على مفاهيم ونظريات تتناقض مع تعاليم الأديان السماوية ومع كافة الفلسفات الحقوقية والأخلاقية، محوّلين الثقافة ذاتها الى عدوّة للإنسان وحقوق الإنسان، وحينها حيث لا يعود ثمة فرق بين شجاعة العقل وبين اضطراب المشاعر المخذولة، فإن المجتمع سيظل في حالة نكوص، وجراء ذلك وجدنا شيوع ظواهر في غاية العدمية كحملة الشهادات المزورة والضمائر المزورة الذين لا يعوّقون التنمية والتطور الديمقراطي فقط، بل وأيضاً يساهمون في رفع وتيرة الاحتقان السياسي والاجتماعي.
وبدل العودة إلى العقل واحترام التعددية والاختلاف انسجاماً مع النظام الديمقراطي، وجدنا ثقافة الخذلان تدفع البعض إلى تناسي الفساد وتردي الخدمات والتركيز على محاربة الحريات العامة والفردية واشاعة الخوف من الفنون لحرمان الناس من كل ما من شأنه أن يثير البهجة أو يخفف على الإنسان العراقي تلال الهموم التي تراكمت على قلبه وأيامه ومشاعره الحائرة.
إن منشأ وآلية عمل ثقافة الخذلان يحتاج إلى دراسات عميقة ومتعددة لا يتسع المجال لها هنا طبعاً، وربما علينا نحن العراقيين أن ندفع أثماناً أضافية جراء تغييب المعرفة العلمية والبرامج التربوية التي من شأنها أن تجعل الإنسان والمجتمع قادراً على التمييز بين الحكمة السياسية وبين ثقافة الاضطراب !!