لم أكن مستعدة للموت ، هكذا حدثت نفسي حين سقط الصاروخ الأول على الحي القديم الذي اقطن فيه منذ ولادتي ، احمل بين طياته مئونة الذكريات ، ذلك الإسفلت المتآكل حتى آخره مازال يحتفظ بآثار أقدامي المتساقطة عليه بشدة وأنا أركض بين الأزقة مع أقراني أمارس لعبة (الغميضان) وشرطي وحرامي دوي الانفجار كان كبيرا لدرجة إني في لحظة أتمسك بالحياة ، أقفز من مكاني أخطف المصحف ، حيث تضعه أمي حين تصلي وتقرأ بعض السور ، تتضرع لله أن يحفظنا من كل مكروه ـأماه أين أنت هاهو المكروه قادم نحونا ولا أريد الموت ممزقة تحت الركام. أهرع إلى زاوية ميتة في إحدى زوايا الدار ،احمل المصحف بين أضلعي ، قلبي يضطرب من شدة الخوف كأني لم اسمعه يخفق هكذا من قبل. ـيالهي ماذا حل بأمي وأخي الصغير، كانت توقد التنور قبل الانفجار ، لتصنع لنا الخبز وتطهو الطعام على حطب جمعته من أشجار حديقتنا ، حتى إن أشجارنا الكثيفة بدأت بالانقراض شيئا فشيئا وأخي يلعب بكرته الصغيرة في الجوار. لا أريد أن أصدق أن أمي تحت الركام ، لابد إنها ذهبت الى بيت أم مريم جارتنا كعادتها ليلهو أخي مع مريم الصغيرة. دوي آخر قريب ، يسد ل الستار أمامي، ليس بإمكاني الرؤيا بوضوح ،الدخان يعج بالمكان اصرخ : ـيا الله يا الله أنقذني وأهلي لا ادري كم مضى من الوقت لكني أحسست انه دهرا ، بدأ الظلام يتبدد والرؤيا تتضح ، كان الجدار أمامي قد زال من مكانه الشارع مكشوف رغم وجود سحابة خفيفة من الغبار في الجو. امسك بأطرافي لأتأكد بأني على ما يرام، أنهض متثاقلة خائرة القوى أتابع سيري نحو الشارع ، المشهد يترجم نفسه بمفردات مرت أمام عيني ( دمار ) ،(أشلاء) ،( موت) (فناء ) جميعها لمكون واحد …..الحرب على بعد أمتار من بيتنا يقطن جاري أبو مريم رأيت مريم قبل قليل تلعب بدميتها أمام المنزل وأبواها يصفقان لها لأنها أخيرا نطقت كلمة (توته ) على دميتها كانوا فرحين هم الثلاثة رغم كل شيء ، ثمة أصابع مبتورة ودمية ممزقة على الإسفلت، صرخت بكل ما بداخلي من ألم : ـ يا الهي أنها (مريم)… لماذا… لماذا …هي فقط طفلة فرحة بلعبتها حتى إنها لا تعرف معنى وطن. كل ما تعرفه لعبة صنعتها لها أمها من القطن وببعض الخرق المتبقية من أثواب قديمة،انظر إلى الخراب في الحي ، الأشلاء متناثرة هنا وهناك ، لا وجود للبيوت والدكاكين الصغيرة ، لا صوت لضجيج الصغار ولا الكرة وهي تصطدم بجدران المنازل ، اختفت من الخارطة، لا وجود الا للخراب ، ثمة عويل في الجوار وانين ينبعث من تحت الركام ،بعض الرجال يهرعون لانتشال الجرحى، لم أكن أميز وجوههم المغطاة بالدم ،كأنهم يرتدون أقنعة، استعدادا لحفلة تنكرية حتى أنهم برعوا باستخدام اللون الأحمر على ثيابهم ووجوههم . جلست على الركام انظر لبيتنا الصغير ،ضحكات أمي وأخي ، صوت أبي يلامس مسامعي من الداخل لكن أبي قتل قبل عامين في الحرب ، أخي الصغير ينادي تعالي نلعب . انهض ، احدث الله والمصحف بين يدي… صوت قذيفة يقترب ،أغمض عيني …….
سيناء محمود