د محمدغاني
أكاديمي و باحث مغربي
يرى بيير تيلهارد دي شاردين1 Pierre Teilhard de Chardin ” أن من واجبنا كرجال و نساء أن نستمر في المضي قدما كما لو لم تكن هناك حدود لقدراتنا” 2، لكن يبقى التساؤل الكبير مطروحا و هو كيف يمكن أن نمضي قدما ولكن ليس في الاتجاه الخطأ؟ يجيب رائد علم نفس النجاح براين تريسي بطريقة غير مباشرة عن هذا التساؤل بقوله “إن أسوأ استغلال للوقت و الحياة هو العمل بمشقة من أجل تسلق سلم النجاح، الى أن نكتشف في النهاية أنه يأخذنا الى الهدف غير المنشود”3 حيث لم يرد تريسي أن يخبر القارئ أنه في بعض الأحيان إذا ركب الانسان عناده و لم يرض باتخاذ دليل في الطريق قد يكون اتخذ سلم الفشل وسيلة في حين أنه كان يريد سلم النجاح.
في هذا السياق يتساءل الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه سؤال الأخلال بتعجب كبير عن حال هذا الانسان الذي يتكبر بعقلانيته المجردة و لا يرضى اتباع منهاج النموذج الاخلاقي المشخص في الأنبياء و الأولياء و العلماء الصادقين ليرتقي من عقلانية مجردة الى تلك المؤيدة و من ثم الى العقلانية المسددة فيقول”ما أشد غفلة الانسان الحديث ، حتى كأنه على ظاهر تقدمه العلمي و التقني الهائل انسان جهول ؟ ألا ترى كيف أنه يقدم قليل النفع على كثيره، إن لم يقدم صريح الضرر على صحيح النفع كما يفعل الجهلة من الخلق؟ و هل في الضرر أسوأ من أن يدعو الى حقوق و حظوظ تخرجه من رتبة الانسانية و تنزل به الى درك البهيمية، محتجا في ذلك أنه يتبع طريق العقلانية الواضح الذي هو وحده عنوان الانسانية؟ لكن لو كان ما يدعيه هذا الانسان صحيحا، فيا ترى كيف بالطريق العقلاني الذي يتبعه يفضي به الى نقيض مقصوده؟”4
و هكذا ينظر تريسي لأهم قاعدة في علم نفس النجاح يوضح فيها أهمية تقفي البصمة المكانية أو كما سماها أحد الباحثين و هو الناقد جاسم العايف ب” ملامح المكان ” في نقده للمجموعة القصصية للقاص رمزي حسن.
حيث أن المسافرين الأوائل في الصحاري القاحلة لم يكونوا ينجحون في الوصول لهدف المسير الا عبر تقفي أثر أقدام حوافر الخيل و النوق و الأقدام البشرية فكانت تلك بصمات مكانية تدل بإشارات بليغة على الطريق الصحيح الا إذا لم يتم اتباع القدوة الأصح ، يقعد تريسي مبدأه قائلا”إذا ما تتبعت نهج الناجحين و قمت بما قاموا به، فلن يحول أي شخص دون حصولك على النتائج نفسها، و إذا لم تقم بما قاموا به فلن يعينك أي شيء آخر”5.
إن نفس هذا المبدأ الخالد هو ما يدعو له القرآن الكريم للنجاح الأخروي و الدنيوي في الآن نفسه حيث يقعد الإسلام لمفهوم الصحبة و الذي نجده سبقا اسلاميا لمفهوم الكوتشينغ بمعنى مبدأ التعلم من أصحاب الخبرات الذي يعنون به تريسي أحد فصول كتابه “ارسم مستقبلك بنفسك” و يقول تعالى في نفس السياق “الرحمن فاسأل به خبيرا” و هو تقعيد لصحبة المفلحين لتحقيق الفلاح الذي ينادى له عند كل أذان.
ينادي مؤذن الاسلام على النجاح و الفلاح عند كل صلاة ليعلم الانسان المسلم أهم قاعدة في طريق النجاح حسب كوب ماير في كتابه “ألف مبدأ في النجاح” حيث لما سئل عن أهم هذه المبادئ جميعاً، قال إن أهمها هو عادة الانضباط الذاتي «Self Discipline» التي إذا لم تمتلكها فلا تستطيع أن تحقق المبادئ الباقية.
وعرّف كاب ماير الانضباط الذاتي بأنه: (أن تحمل نفسك على أن تفعل ما يجب عليك أن تفعله، عندما يجب عليك أن تفعله، سواء أعجبك ذلك أم لا).6.
وهذا الانضباط الذاتي الذي يسيطر على أهوائنا و رغباتنا هو عين الهدف الذي يسعى اليه مفهوم التربية الروحية في الاسلام حيث ينظر هذا المفهوم الى الترقي بالعمل الانساني من مرتبة الاسلام الى مرتية الايمان فإلى مرتبة الاحسان أو كما سماها بعضهم مرحلة علم اليقين فمرحلة عين اليقين ومن ثم الى مرحلة حق اليقين، و يمثلون لذلك بمن سمع ببلد معين فلديه عنذ ذلك السماع علم بوجود تلك البلدة لكن حين يحوم بالطائرة فوق البلد المذكور ينتقل آنذاك من علم اليقين الى عين اليقين أما إذا نزل الى البلد في المطار و اشترى دليلا كتابيا يبين له الدروب و الأزقة و اتخذ دليلا شخصانيا يقيه في طريقه المزالق و المهالك7 فقد وصل آنذاك الى حق اليقين.
ختاما نجد أن هناك تشابها و تداخلا كبيرا بين قواعد النجاح الانساني على المستوى الدنيوى كما الأخروي حيث أن لكل منهما طريقا ينبغي أن يتبع و منهجا ينبغي أن يسلك كما قواعد حري بطالب النجاح أن يلتزم بها فوالله ما أفلح من قد أفلح الا بصحبة من قد أفلح: يقول ابن عجيبة رحمه الله في كتابه إيقاض الهمم في شرح الحكم عن سلوك طريق الآخرة:” اعلم أن هذا العلم ليس هو اللقلقة باللسان وإنما هو أذواق ووجدان ولا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق وليس ينال بالقيل والقال وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح”، و هكذا يتضح ما للبصمات المكانية في مساعدة طالب النجاح في تقفيها لبلوغ الأماني و نيل المرام.
الهوامش
1، حسب موسوعة ويكي بيديا هو فيلسوف وكاهن مسيحي وجيولوجي فرنسي والذي تخصص بعلم حفريات ما قبل التاريخ والحفريات وساهم باكتشاف إنسان بكين. ومن أعماله تصور فكرة نقطة أوميغا وتطوير مفهوم فلاديمير فردانسكي المعروف بمجال العقل أو مجال نو(Noosphere). واجهت بعض أفكاره معارضة المسؤولين في الكنيسة الكاثوليكية وتم منع العديد من كتبه ولقى لوم شديد.
وفي أهم كتبه المسمى “ظاهرة الإنسان” شرح تطور الكون بطريقة فريدة وابتعد فيها عن تفسيرات سفر التكوين التقليدية لصالح تفسير أقل صرامة مما اثار حفيظة بعض رجالالفاتيكان الذين اعتبروا أن طروحاته تقوض عقيدة الخطيئة الأصلية التي وضعها القديس أوغسطين
2، براين تريسي ، ارسم مستقبلك بنفسك ص7.
3، نفسه.
4، طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص13.
5، تريسي ، نفسه ص 9.
6، د عادل رشاد غنيم، الانضباط الذاتي وسلوكيات ما بعد الاختبار.
7، ينظر الفقيه المالكي عبد الواحد بن عاشر لهذا المعنى في منظومته المسماة بالمرشد المعين بقوله:
يصحب شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك