د. عماد الدين الجبوري
إن أحترام جهد كل كاتب أمر لابد منه، وأن تشخيص الخلل أو الخطأ فيما كتبه لا يعني أنتقاصاً مما سرده، بل تصحيحاً ليس له وحده، وإنما لعامة القُراء الذين قد لا يعرفون صحة المعلومة ودقتها. ففي المقال الموسوم أعلاه للكاتب عبد الرحمن عبد علي والذي نشرته شبكة البصرة في 7-6-2012. جاء في فقرته الأولى”مرحلة ما قبل الإسلام” هذا النص :
“كانت إيران وعبر كل حقب التاريخ تكن العداء للعراق العربي، وكانت دوماً تسعى للإضرار به وبشعبه؛ فكانت تتحين الفرص لإحتلاله أو الإضرار بشعبه لاسيما عندما يكون ضعيفاً، وقد حدث هذا عبر العصور السومرية والأكدية والبابلية والآشورية. ففي عام 539 ق.م إحتل الفرس بابل، واستمروا يسيطرون على العراق حتى هزمهم (الأسكندر المقدوني) سنة 321 ق.م، وضل العراق منطقة صراع بين الفرس والرومان حتى مجيء القائد العراقي (سرجون الأكدي) الذي تمكن من دحر الإيرانين، وأستولى على بلادهم (عيلام)، ثم أعيد دحر القوات الإيرانية الغازية في زمن القائد العراقي العظيم (نبؤخذ نصر الأول) الذي أعاد السيطرة بشكل مطلق على منطقة بلاد عيلام”.
سأكتفي بهذا القدر ولا أتطرق إلى بقية النصوص، التي تستوجب النظر فيها أيضاً، راجياً من الكاتب التدقيق العلمي الواجب إتباعه.
أولاً: أن تعبير: “كانت إيران وعبر كل حقب التاريخ….” فيه خلط يحتاج إلى توضيح، حيث أن حقيقة هذه التسمية بدأت في عهد الدولة الصفوية (1501-1722) ذات النهج الطائفي والعنصري، ولا شأن لها بالتاريخ القديم الذي كانت فيه التسمية “فارس”. وأن كلمة إيراني تعني آري، وهي العودة بالإنتماء إلى العرق الآري، وتمييزه عنوة عن العرب الساميين وفقاً للمفاهيم الحديثة.
ثانياً: أن القول: “وكانت دوما تسعى للإضرار به وبشعبه…”. هذا الطرح فيه غُبن لأربعة قرون شارك فيها الكثير من الفُرس المسلمين في بناء الحضارة العربية الإسلامية، والتي تجلت بالإلتزام باللغة العربية كتابةً وتحدثاً وتفكيراً. وكان منهم الفلاسفة والعلماء والمفكرين واللغويين أمثال: أبن سينا الذي وضع كل مؤلفاته باللغة العربية، بإستثاء كتاب واحد ألفه بالفارسية ليرد مباشرة على أباطيل المانوية المجوسية. وكذلك الغزالي الذي كشف ورد على الحركة الباطنية المجوسية التي تسترت بالإسلام من أجل القضاء على دولة المسلمين، وسيبويه، تلميذ الخليل أبن أحمد الفراهيدي، الذي أصبح من أعلام فقهاء اللغة العربية، وغيرهم الكثير. فلا يجوز إجحاف الصالحين بسبب الطالحين.
ثالثا: “وقد حدث هذا عبر العصور السومرية والأكدية والبابلية والآشورية….”. في الواقع أن حضارة سومر تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد. وأن القبائل الإخمينية البدوية هاجرت من آسيا في مطلع الألف الأول قبل الميلاد وأستقرت بمنطقة تسمى اليوم شيراز. وأقدم نص مدون عن حقيقة تلك القبائل جاء في التوراة التي تصفهم بالهمجية والوحشية؛ حيث أنهم “إناس برابرة جداً وسفاحون لا يرحمون أحداً”. وأن فارسي تعني سائب قاطع الطريق. وبالتالي علينا أن لا نمزج بين حقب التاريخ بطريقة الحشو السردي لا التدقيق العلمي.
رابعاً: “ففي عام 539 ق.م إحتل الفرس بابل….هزمهم (الاسكندر المقدوني) سنة 321 ق.م. وضل العراق منطقة صراع بين الفرس والرومان حتى مجيء القائد العراقي (سرجون الأكدي) الذي تمكن من دحر الإيرانيين….”.
أ- في التاريخ القديم كان أسم العراق: بلاد الرافدين، ليكون تحديدنا دقيقاً للأمانة العلمية في البحث والكتابة.
ب- في تلك الفترة كان الصراع بين الفُرس واليونانيين، ولم يكن للرومان من دور تاريخي بعد.
ج- الإسكنر المقدوني هزم الفرس في العام 333 قبل الميلاد وليس في العام 321، وتوفي في بابل عام 323 قبل الميلاد.
ح- أما سرجون الأكدي فالمصادر تدل على إن ظهوره كان بعد العام 2350 قبل الميلاد، وحينها لم يكن للفُرس الإخمينيين وجوداً في المنطقة. فكيف دحرهم؟
خ- إن ذِكر “الفُرس” تعني قومية معينة، ثم بعد جملتين يتم ذِكر “الإيرانيين” لنفس تلك القومية، فيه خلط قسري بين المفهوم القومي والكيان السياسي. ناهيك على القفز بين عصور التاريخ، مما تشكل سوء قراءة تؤثر على الذين ليست لديهم معلومات تاريخية.
خامساً: “وأستولى على بلادهم (عيلام)…”. هذا تجني كبير وخطأ خطير بحق العرب الأحوازيين. إذ أن عيلام سواء كان أحد أحفاد سام بن نوح، أو أنه أنشق عن ملك سومر، أو أنه التسمية السورية القديمة “أهل الشرق”. فقد بدأت الحضارة العيلامية في العام 2700 قبل الميلاد. أي قبل قرون عديدة من نزوح القبائل الإخمينية. ولقد أثبتت الآثار واللقى بأن حضارة عيلام هي إمتداد طبيعي إلى حضارة سومر. فكيف أصبحت بلداً تاريخياً للفُرس؟
سادساً: ” ثم أعيد دحر القوات الإيرانية الغازية في زمن القائد العراقي العظيم (نبؤخذ نصر الأول) الذي أعاد السيطرة بشكل مطلق على منطقة بلاد عيلام”.
أ- كما أشرنا سلفاً، توجب علينا الدقة التاريخية أن نقول قوات فارسية وليست إيرانية.
ب- في عام 1137 قبل الميلاد إتجه نبؤخذنصر الأول لمحارب العيلاميين وهزمهم ودمر عاصمتهم سوسة. وكان ذلك كرد فعل لِما قام به العيلاميون في عام 1155 عندما هاجموا بابل وسيطروا عليها. فتلك الحروب لم يكن للفُرس دوراً فيها، حيث لم يكن لهم شأن تاريخي إلا بعد أن ظهر قوروش الأكبر (الثاني) الذي وحد القبائل الإخمينية في العام 558 قبل الميلاد والذي أكتسح فيما بعد عيلام ثم بابل عام 539. أي علينا أن نفرق بين مرحلة الدولة البابلية الأولى والثانية.
أن النص الإستهلالي لأية مقالة أو بحث بالقدر الذي يعكس فيه متانة الفكرة وجزالة السبك، فإن الجانب العلمي لا يقل شأناً عن ذلك البناء. إذ في هكذا نهج يعكس الكاتب أو الباحث قدرته ومقدرته فيما يكتب ويؤلف. خصوصاً إذا كان الموضوع له صلة بالواقع الحياتي والسياسي والتاريخي بين دولتين متجاورتين كإيران والعراق.