يا إلهي..
أينَ السبيل إلى الانعتاق من ربقةِ كل هذا الطغيان.. وكيف
سأستأصلُ شأفته بقوةِ كلماتكَ. كيفَ أدحض شبهات الشر.
كيفَ أضعُ حداً لنمو الشر وظلاله؟ ليكف عن التفشي.
ابتهال زرادشتي
هل هي الصدفة أن تحدث مجموعة جرائم كبرى في زمن محدد لا يتعدى الأسبوع الواحد فقط في العراق؟
يستوفني الأسبوع الأول من آب في كل سنة.. اتوقف امام سلسلة أحداث كبيرة حدثت في العراق في هذه البرهة الزمنية القصيرة..
1ـ مع الأول من آب حدثت مذابح الآشوريين المروعة في سيميل وعدة مناطق اخرى بين دهوك والموصل عام 1933
2ـ في الثاني من آب استباح الجيش العراقي دولة الكويت 1990
3ـ في الثالث من آب استباح الدواعش سنجار وضواحيها 2014
4ـ في السادس من آب استباحة بحزاني وبعشيقة وبقية مدن سهل نينوى 2014
5ـ في الثامن من آب مع توقف الحرب العراقية عام 1988 بدأت القوات العراقية باستباحة مناطق كردستان في عمليات الأنفال سيئة الصيت
وبين هذه الجرائم ثمة العديد من الجرائم الأخرى.. التي تعودنا تصنيفها بالجرائم الصغرى.. تشمل الاغتيالات والاعدامات في السجون.. بالرغم من أنه لا يمكن تصنيف الجرائم بالكبيرة والصغيرة.. فالجريمة هي جريمة ولا يمكن التعامل معها بالصغر والكبر..
كما نواجه اليوم ونحن في هذا الزمن المحصور في الأسبوع الأول من آب 2020 بأحداث عراقية مؤلمة ومثيرة زلزلت الأرض تحت اقدامنا.. ونحن نشهد تواصل ممارسة العنف المنفلت من خلال مجموعة رجال عسكريين مفتولي العضلات.. وهم يتجمعون حول صبي مسالم يعنفوه ويجزون شعره ويذلوه بأقبح ما يمكن سماعه من الفاظ رذيلة تعكس دناءة وسفالة هذه المجموعة من الذئاب البشرية.. التي اخذت تهرس جسده وتسلخه كما تسلخ الشاة في مشهد وحشي لا يقدم على تنفيذه واقترافه إلاّ الأنذال ومعدومي الضمير.. أسفر عن ردود فعل ما زالت تتفاعل لتعلن الاستنكار وتطالب بمحاسبة المجرمين..
قد لا يكون من المجدي مواصلة النحيب وتعداد تفاصيل تلك الجرائم واستذكارها.. كما يحدث من قبل العديد من المنظمات والمؤسسات الرافضة للعنف والمستنكرة للجرائم.. قياساً للأهم والمهم.. الا وهو البحث عن السبل والامكانيات التي تمنع دورات العنف.. وتؤسس لحالة الاستقرار والسلم في المجتمع العراقي وتصون كرامة الانسان فيه..
من هنا يمكن القول اننا كعراقيين ما زلنا في الطور الأول من التعامل مع هذه الجرائم.. طالما بقينا ندور ونكرر الارقام والخسائر سنة بعد أخرى.. دون ان نعي اننا بهذا التكرار لا نتقدم خطوة بالاتجاه الصحيح ونبقى نراوح في أماكننا غير بعيدين عن فورات الدم الجديدة وما يهيئ لنا من مذابح و مقاصل وفرمانات ناهيك عن الحديث عن الطرق والسبل الجديدة المؤدية للموت والفناء.. كما حدث معنا جميعا في العهد الداعشي.. الذي اشتركنا في صنعه وتعبيد الطريق اليه بعد سقوط النظام الدكتاتوري.. وانغماسنا في خضم نزاعات عدوانية طائفية.. ساعدت اللصوص والحرامية على تبوء المراكز المهمة في الدولة ومكنت قتلة النظام البعثي المقبور من التغلغل من جديد للخطوط الامامية في مؤسسات الدولة الامنية والعسكرية وساهمت في التمهيد لاستقبال الدواعش في أكثر من محافظة ومنطقة..
وهذا ما جعل شريحة المجرمين والقتلة “محترمين” بعد ان تحالفوا مع الفساد وتجار السياسة والبعثيون ـ الاسلاميون الجدد.. الذين تحولوا الى اداة للقهر والتسلط نسقت مع القوى الدولية والإقليمية.. التي استهدفت المجتمع العراقي واقتصاده ودولته بشكل مخطط وجعلتنا ندور في دوامة من العنف والحيرة.. لم نعد ندرك من يقف بصفنا ومن يعادينا..؟ بعد فقدان البوصلة والاتجاه.. وكدنا لا نقوى على البصر والاستدلال وأصبحنا ننتقل من حالة سيئة للأسوأ ومن حفرة لنكرة..
وهكذا دواليك يجرجر بنا الانتهازيون والنفعيون والفاسدون من اصحاب العمامات والفاشلون الذين ما زالوا يتصدرون الواجهة في الحكومة والسلطة والقضاء والاحزاب المتعفنة.. بالإضافة الى الجمعيات والمؤسسات الجديدة التي تتاجر بالدم العراقي ومعاناة المنكوبين في المخيمات منذ سنين..
ان مواصلة البكاء والندب على الضحايا بات امراً غير مجدياً.. وانتظار الحلول من الآخرين ليس الا ضرباً من الوهم والخيال.. وان كان ثمة امر يستحق التوقف عنده الآن.. الآن في هذه اللحظات الإستذكارية للأحداث والبحث عن حلول لما يدور من حولنا من عنف وابتذال..
العنف بمولداته ومسبباته ونوازعه.. والقوى المشجعة له.. ومن مارسه ومستعد لممارسته.. هو ما يجب ان يستوقفنا في هذه الدورات الزمنية الدموية وما يليها..
عنف الدين
وعنف الدولة
وعنف الأحزاب
وعنف الميليشيات
وعنف الثقافة والبيئة العشائرية المتخلفة
عنف الاسرة
والعنف الموجه للنساء
العنف الموجه للأطفال
العنف المدمر للبيئة
وبقية صنوف العنف الممتدة لعمق الصحراء
هذه المهمة الآنية والبعيدة المدى.. تتطلب منا ان نفرد لها المزيد من الوقت.. ونكرس لها المزيد من الجهود.. ونتصدى لها كمعضلة مجتمعية.. ما زالت تتواصل.. لا تقتصر على حزب او كيان او جهة محددة.. ومعالجتها لا تأتي من خلال افراد ومجموعة اخيار يتناثرون هنا وهناك.. وهي بالتأكيد ليست مهمة الحكومة ورئيس الوزراء الجديد بالرغم من المؤشرات الإيجابية لمواقفهم وفضحهم لمرتكبيها مقارنة بما سبق من حالات مزمنة تمثلت باحترام القتلة والمجرمين والتغطية على جرائمهم.. لا بل تكريمهم وحمايتهم.. مما افسح لما يمكن وصفهم بـ “المجرمين المحترمين”..
الذين تكاثروا وتحلوا لشريحة واسعة من القتلة تشمل.. البعثيين وضباط العهد المباد ومن ثم جحوش السلطة من الكرد الخونة الذين تمتعوا بالاحترام والتقدير في الإقليم.. ولم تطالهم المحاسبة.. وهكذا الحال مع رهط السياسيين الفاشلين من كافة الأحزاب بلا استثناء.. الذين تسببوا في هدر حياة رفاقهم نتيجة ممارسات خاطئة أدت لخسائر بشرية وضحايا بالمئات.. لم يجري التوقف عندها او محاسبة من تسبب بها.. وتشمل حالات الإحتراب السياسي والصراعات الدموية التي اشترك فيها مجموعة أحزاب عراقية وكردستانية توحدت مواقفها في التغطية على المتسببين للنزاعات بين القوى التي كانت تواجه النظام الدكتاتوري المقبور.. وغيرها من القوى الدينية التي انزلقت الى مسار الحرب الطائفية لسنوات طويلة بعد سقوط النظام..
هذه الإشكالية في العلاقة بين الدم والاجرام والعنف المنفلت و”احترام القتلة ” وتجنب محاسبتهم ينبغي الانتهاء منها ووضع حد لها.. والمؤشرات لهذا التحول في الموقف من العنف بدأت تتوضح من خلال ردود الفعل السريعة والمتعاظمة من قبل المجتمع العراقي بكافة شرائحه وهذا مؤشر مهم ينبغي استثماره وتطويره بكافة الوسائل المتاحة.. وكذلك في الموقف الجديد للسلطة والحكومة التي سارعت للكشف عن الجناة وبدأت التحقيقات الأولية على طريق محاسبتهم الذي شكل انعطاف في موقف السلطة والدولة ينبغي تطويره وتشجيعه..
لهذا نحن كشعب ومجتمع وحكومة جديدة امام مسؤولية تاريخية تتطلب السير للإمام وعدم التراجع ومواجهة جميع عصابات الاجرام في الدولة والمجتمع.. وفي المقدمة منهم كبار السياسيين المجرمين وفضحهم وعزلهم لأنهم الغطاء الذي يستضل به القتلة والفاسدين ومن يعشق العنف والدم ولا يعير اعتبارا لحقوق وكرامة الناس ومطالبهم المشروعة..
فالتغيير الحقيقي لا يتحقق الا بالمزيد من المواجهة الفعلية لمسببات العنف والإرهاب المنفلت مهما كانت مصادره ومنابعه او الجهات التي تمثله.. وهذا وحده ينقذنا من الأوضاع المبتذلة التي نحن فيها ويكفل مستقبلنا الآمن المسالم والمستقر ومشاركتنا الحرة كمواطنين يسعون للتمتع بخيرات الوطن في أجواء تليق بالبشر في هذا العصر..
ــــــــــــــــــــــــ