تحليل سيكوبولتك للسلطة والناس
في توثيق للتاريخ والأجيال
أ.د.قاسم حسين صالح
كانت الفواجع والأحزان قد دخلت حياة العراقيين بعد التاسع من نيسان من باب آخر هو ثقافة المظلومية وسيكولوجيا الضحية والجّلاد. فبعد سقوط خيمة الدولة التي كانوا يشعرون فيها بالأمان مدفوعين بــ ” سيكولوجية الاحتماء ” من خطر يتصاعد في حاضرهم، أو تهديد بخطر مستقبلي يتوقعونه بيقين، فأن تأسيس “مجلس الحكم” كرّس رسميا حالة تعدد الولاءات الى طوائف واديان واعراق وأحزاب وتكتلات على حساب الانتماء الى العراق. ومن هنا، نشأ تحول سيكولوجي جديد آخر لدى الناس. فبعد إن أطيح بالدولة ( وليس النظام فقط ) وافتقدوا الأمان،ودفعهم الخوف الى قوة تحميهم ” العشيرة بشكل خاص ،اكثر الولاءات تخلفا “، بدأ مجلس الحكم يأخذ في وعيهم أنه الوسيلة الى السلطة،ثم الدولة،فتقدمت لديهم سيكولوجيا ” الحاجة الى السيطرة ” التي تؤمن لهم بالتبعية ” الحاجة الى البقاء ” .
وكان الغالب في تشكيلة مجلس الحكم أنه قام على ثنائيتين سيكولوجيتين، هما:
- المظلومون مقابل الظالمين.
- عراقيو الخارج مقابل عراقيّ الداخل.
ولقد نجم عن الثنائية الأولى: ( ثقافة المظلومية ) التي شاعت بين الشيعة و الكورد مقابل: ( ثقافة الاجتثاث ) التي استهدفت من كان محسوبا على النظام السابق لا سيما في أجهزته العسكرية والأمنية والحزبية والمسؤولين الكبار في الدولة، وغالبيتهم من السّنة. وفي هذه الثنائية، كانت المعادلة النفسية تقوم على سيكولوجيا ” الضحية ” و ” الجلاّد ” . وقد تجسّدت إرادة انتقام الضحية من الجلاد باستخدام مفردة ” الاجثتات ” التي تعني القلع من الجذور. وكان الاجتثاث هذا أقرب الى الثأر الجاهلي منه الى التعامل الحضاري أو الشرعي أو المساءلة القانونية.
وعلى وفق المنطق السيكولوجي فأن انتصار ” الضحية ” على من تعدّه ” جلادّها ” يدفعها الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما أصابها من ظلم، وشرعنة الاقتصاص حتى ممن كان محسوبا بصفة أو عنوان على الجلاّد. والممارسة المضخّمة لأنماط سلوكية أو طقوسية كان ” الجلاّد ” قد منعهم منها. فالشيعة ملئوا شوارع المدن والأحياء الشيعية بالمواكب الحسينية وزادوا في اللطم والضرب بالزنجيل،وبالغوا في وسائل التعبير عن أنهم كانوا ضحية. والكورد ايضا ركزوا في تجسيد ما أصابهم من ظلم،حتى صار الأمر بين الشيعة والكورد في حينه أشبه بالمباراة في تصوير ما أصابهما من ظلم،نجم عنها ان شاعت ” ثقافة الضحية ” عبر صحف ومجلات صدرت بالمئات في 2003. وتولى هذه المهمة مثقفون أو من أخذ دورهم ممن لم تكن لهم علاقة بالثقافة، نجم عنها تهميش الولاء للعراق، وتكريس الولاءات الكبرى : الطائفية والاثنية والدينية…والولاءات الصغرى: حزب أو تكتل أو عضو نافذ في مجلس الحكم، أو شخصية اجتماعية مستقلة ومتمكنة ماديا، أو مسنودة خارجيا. وكان اكثر تلك الولاءات تخلفا ظهور ما يمكن أن نصطلح على تسميته بــ ( شيوخ التحرير ) الذي يذكرّنا بــ ( شيوخ أم المعارك ) .
وفيما يخص الثنائية الثانية ( عراقيو الخارج مقابل عراقيّ الداخل )، فقد نشأت فجوة نفسية بينهما. فمع أن عراقيّ الخارج لم يقوموا هم بإسقاط نظام الحكم بل جيء بهم الى السلطة ، مع الاعتراف بدور من ناضل بصدق وضحّى من اجل الوطن،إلا انهم أوحوا لعراقيّ الداخل بأنهم أصحاب فضل عليهم بتخليصهم من الدكتاتورية، وانهم يستحقون التمييز عليهم ، وانهم ألأحق بتولي المراكز القيادية في السلطة. وكان أن نجم عن ذلك شعور عراقيّ الداخل بالتهميش. فقد كان المعيار الذي استخدم في إسناد المسؤوليات المهمة في السلطة على أساس ” الخارج مقابل الداخل ” لا على أساس الكفاءة والنزاهة، فتبوأ مراكز القرار في السلطات العليا والوسطى أشخاص بينهم كثيرون لا يحملون تحصيلا علميا ولا خبرة تخصصية، فضلا عن انهم كانوا مشحونين نفسيا بدافع الانتقام من الآخر. وكان أن نجم عن واقع أواخر عام 2003 ثقافات متعددة الأسماء والعناوين مثل ( ثقافة التحرير ، ثقافة الغزو ، ثقافة العمالة ، ثقافة المقاومة …) لتشكّل واحدا من أهم أسباب الكارثة التي عاشها العراقيون لثمانية عشر عاما..وقد تستمر لمثلها ان لم يغلق فيها باب الفواجع والاحزان!.
*