تجريف الذاكرة
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
تؤكد الوقائع التاريخية والأفلام الوثائقية، التي تحفظ للأجيال ذاكرة الحروب ومآسيها في العالم، بان الهدف من العدوان واحتلال الدول لا يقتصر فقط على تدمير البنى التحتية للبلد من قبل أعداءه، وقتل اكثر عدد من السكان وتهجيرهم، ونهب الموارد الاقتصادية، وانما الاهم من ذلك القضاء على ذاكرة الدول والشعوب المتمثلة بالإرث الحضاري والثقافي والعلمي، والمؤسساتية في الإدارة، والإتيان بما هو جديد وغير مألوف يتلاءم والمشروع التدميري الذي تم من اجله اجتياح هذه الدولة او تلك البلاد، والذي يطلق عليه الباحثون في تاريخ الشعوب تسمية “تجريف الذاكرة”، بمعنى محو الهوية الوطنية ذات التاريخ العريق والاتيان بهوية دخيلة، بحيث لا يكتفي العدو بتصفية الكفاءات العلمية والمثقفين ورجالات الدولة، وإنما يقوم بحملة تقزيم لكيان الدولة والمجتمع، وحرمان الشعب حتى من حق العيش في الحياة، بعد التشكيك بمنتجه وبإرثه الحضاري والثقافي والعلمي، وإحلال الفوضى والرعب والخوف والقتل مكان الاستقرار والامن، ومصادرت كل شيء على تلك الرقعة الجغرافية التي يقطنها، هذا اذا ما صودرت الارض وسجلت بأسماء اخرين.
وتجريف ذاكرة الشعوب في العصر الحديث لم تأتِ من فراغ، فالأمريكان البيض لهم تجربة قاسية مع الامريكان السود، سكان القارة الأصليين، والأسبان الذين اجبروا اكثر من 20 دولة التحدث بلغتهم نتيجة للتوسع الاستعماري الاسباني خلال القرون الماضية، اما الإنجليز، الذين احتلوا اغلب دول العالم، فجعلوا العالم بأسره يتحدث بلغتهم ويتبع بعض عاداتهم وتقاليدهم، ناهيك عن الدول التي اجبرها الاحتلال الفرنسي على التحدث بالفرنسية بعد اتباع سياسة الفرنسة، والاحتلال التركي الذي اتبع سياسة التتريك في اغلب البلدان التابعة للدولة العثمانية في حينه.
ذلك لان الدول الاستعمارية تعرف تماما بان قراءة الشعوب لتاريخها بلسان مختلف يخفي الكثير من الحقائق، ويجرف ذاكرة الانسان من نزعة انتمائه للأرض وموروثها الحضاري والثقافي والاجتماعي التاريخي، ويقلل من نزعة الولاء للوطن. حيث كانت قضية مصادرة حق الشعب الفلسطيني في ارضه ومائه وسمائه من قبل الاستعمار الغربي وإهداءها الى اليهود ابان الحرب العالمية الأولى، وما يفعله الاستعمار الامريكي -الغربي اليوم في الدول العربية ذات الموروث التاريخي العريق، يعد من ابشع ما تعرضت له الشعوب في العالم من مؤامرات في “تجريف الذاكرة”.
ويتعدى “تجريف ذاكرة الشعوب” من قبل العدو الى اجتثاث العادات والتقاليد الجيدة التي تحتفظ بأخلاقيات المجتمع والتزاماته الإنسانية، والإتيان بعادات وتقاليد بالية لا تمت للمجتمع بصلة، بحيث تجرف المناطق من مثقفيها، والمدن من مدنيتها، والبلد من رجالات الدولة، والذي يؤدي بالنتيجة الى تجريف المؤسساتية القائمة، وتفتيت اللحمة الاجتماعية، وتقسيم الارض من خلال العمل على بروز كيانات اجتماعية مستضعفة، مستقلة نسبياً، تلجأ الى قوى خارجية لحماية نفسها من الضياع بسبب التحديات القوية التي تعجز على مواجهتها حين يتم خلق صراعات غير متكافئة بين مكونات المجتمع، وزرع افكار وعادات وتقاليد جديدة في عقول الناس لتمويل الفوضى الخلاقة بالتخلف الفكري العقائدي المتطرف، والقومي المتشدد.
بحيث يتم التركيز من قبل العدو على تدمير القطاع الخدمي لزيادة تفشي الامراض السارية والمعدية، وتغذية الجهل مؤسساتياً، وانتشار الأمية بهدف زيادة نسبة الجهل والتخلف في المجتمع، لتسهيل عملية تجريف ذاكرة الانسان من الروح الوطنية والانتماء الوطني، ومحاولة قتلهما في ذات المواطن بالتقادم، ويتم على حساب ذلك تنمية الولاءات الثانوية الدينية والقومية والحزبية والعرقية والشخصية، تزامنا مع زيادة القمع والترهيب الاجتماعي، ونشر ثقافة الخوف وبث الرعب في قلوب الناس، لكي تتم على مر الزمن صياغة ثقافة جديدة ونهج اجتماعي قائم على المتناقضات، الامر الذي يدفع المكونات للاحتماء خلف عباءة الاعداء الذين تضنهم اصدقاء لكنهم يكيدون لك كيدا، ويتقاذفونك يميناً وشمالاً غير آبهين بمصيرك الأسود، خاصة حين لن يكون هناك من يسمع شكواك ويتأسف لحالك.
ومن هنا تنطلق رحلة السماح بالتدخلات الخارجية بعد تهيئة التربة الخصبة لها، لتبدأ حملة القتل وتهجير العقول المتمثلة بطبقة المثقفين والعلماء التي تتجسد فيها هوية البلد الحقيقية والذاكرة الحية للإنسان، التي يجب تجريفها بكل الطرق والوسائل من قبل الأعداء، يصاحب ذلك تعطيل دور التخطيط والرقابة الداخلية لتحل محلها العشوائية والارتجالية في الإدارة، ونشر الفساد في مفاصل الدولة، وتقوية المحسوبية والمنسوبية التي تمهد الطريق لظهور طبقة البلطجية المحمية من قبل رؤوس الفساد حين تغيب الدولة ويضعف القانون والنظام.
وفي ذات الوقت تقفز المصالح الخاصة للمجاميع على مصلحة الدولة، ويتم تأسيس قواعد الدولة العميقة التي تقود الى صراع داخلي خفي يظهر للعلن عند الضرورة حين تتضارب المصالح، والذي يقود في نهاية المطاف الى بدء الصراع بين الاطراف المتنافسة للهيمنة على السلطة بعد الانتقال الى مرحلة الصدام، اي مرحلة انهيار الدولة، التي تقود بدورها الى الفوضى العارمة في عموم البلاد، بعد تجريف كل شيء ايجابي في ذاكرة الانسان وتحويله الى وحش كاسر لا عقل له ولا روح تسيطر عليه الغرائز الحيوانية.
حينها تكون عملية التغيير صعبة جدا ومحفوفة بالمخاطر، لان العاملين على التغيير يجب ان يتعاملوا بدقة مع نوعين من التحديات، أولهما التحدي الفكري، وثانيهما التحدي السلطوي، حين يكون الهدف اعادة الذاكرة المجرفة للإنسان والدولة الى وضعها الطبيعي بعد التخلص من المؤثر الخارجي، شريطة ان يبدأ التغيير من داخل الانسان بعد توفير البيئة الملائمة للإعداد التربوي الصحيح من اجل اعادة ثقة الانسان بنفسه، وتوفير الامان كبديل للرعب والخوف، وتنمية ثقافة التسامح بدل الكراهية والأحقاد غير المبررة، والعمل الدؤوب على التنشئة الجيلية الوطنية الصحيحة، وسن القوانين التي تنظم حياة الاسرة والمجتمع.
بحيث يكون القانون القاسم المشترك بين جميع مكونات المجتمع، والذي يتم بموجبه توزيع الثروات وتقسيم الحقوق والواجبات بشكل عادل على كل فرد ذات شخصية قانونية، والعمل على خلق بيئة صالحة للعيش وإعداد جيل جديد يسمى “جيل القادة”، الذي يمثل صفوة المثقفين والعلماء والمنظرين في مجال السياسة والاقتصاد والبناء الحضاري ليعتلوا المناصب العليا في الدولة، بهدف توظيف الماضي الخالد مع معطيات الحاضر الذي يتطلع ابناءه الى مستقبل افضل تعاد من خلاله الذاكرة المفقودة للمجتمع التي كانت قد جرفت في غفلة من الزمن.
15-7-2021