تأملات وإنـفـعـالات شـخــصـيـة جـداً
الدكتور عبد القادرحسين ياسين
ما هي الصورة النمطية Stereotype للعرب في الغرب؟ خصصت مجلة “Neue Politik” (السياسة الجديدة) الألمانية عددها الأخير لاستعراض بعض الصور النمطية لشعوب العالم الثالث، كما تبدو لقطاع كبير من الرأي العام الألماني. وكما كان متوقعاً، فقد استأثر العرب بحصة الأسد من الانطباعات السلبية التي تكرست على مدى العقود الأخيرة في أذهان الأوروبيين.
“يدخل العرب إلى الشيراتون أو الدورشستر بعد جولة هادئة في حدائق الهايدبارك… وفي المساء لا بد من قضاء سهرة حمراء في نادي “Play Boy”…
يشترون القصور في الريف الانكليزي، وملايين الأسهم في شركة krupp (أكبر المؤسسات الصناعية في ألمانيا) وملايين السندات في “وول ستريت” Wall Street (حتى المال ورجال الأعمال ووسطاء البورصة في نيويورك)”.
“يطلبون آخر موديل من سيارات “المرسيدس” مصممة لأذواقهم واحتياجاتهم الشخصية… ولتجهيز قصورهم ومنتجعاتهم المنتشرة بين الريف الإنكليزي، والريفيرا الفرنسية، والغابة السوداء الألمانية، تصنع لهم – خصيصاً- الحمامات المذهبة في باريس، وتـنـتعـش- بسبب طلباتهم- فنون الحفر على الخشب في إيطاليا وتزيين السقوف في بريطانيا”.
“يرتدون قمصانا من الحرير ذات أزرار ذهبية، وأحذية مفصلة من جلود الأفاعي الأفريقية…يمضون سحابة يومهم في يخوتهم الخاصة، التي يقودها قباطنة يونانيون.. ويحولون ليلهم إلى ليلة من ألف ليلة وليلة، معيدين بذلك أمجاد قومهم في غابر الزمان” [كذا !!].
هل هؤلاء، حقاً، هم العـرب؟
يبدو أن هيئة تحرير المجلة لم تسمع بعد أن ثمة ملايين من العرب ما زالوا يعيشون في بيوت مبنية بحجارة “الدبش” دون إسمنت، وحيث لم يعرفوا بعد شيئاً سحرياً اسمه الكهرباء، يموتون ويدفنون في حفرة صغيرة في حواكير التلال الجافة تحت شجرة تين عارية الأغصان.
في “خشبيات” بيروت، كما في بيوت الطين المتناثرة في مكان ما قرب طريق صحراوي، كما في خيام البدو الباحثين عن أعشاب الربيع، وبقاع الماء الراكد لقطعانهم التي يقـتـلها الجفاف، كما في بيوت عمان المتكدسة صاعدة التلال تنتشر فوقها أحبال الغسيل، وكما في أزقة تونس المغلفة ببخار التاريخ والفقر اليومي الأسود، ينتشر عرب كثيرون، عشرات الملايين، لم يغادر أي منهم قريته منذ أن أبصر النور…
وثمة عرب ينتصبون بإباء دام 73 عاماً في مخيمـات الدهيشة والعـرّوب والجـلزون وبلاطة وعـقبة جبر وعين السلطان والشاطئ والنصيرات وصبرا وشاتيلا واليرموك والوحدات، إلى أن يذووا كأوراق جافة أو تتناثر أشلاؤهم في انفجارات الفجر.
هناك عـربٌ، أيها السادة الأفاضل، في أطراف الصحراء يخرجون إلى الشمس مُغمسين بالزيت اللألاء، وثمة عـربٌ يدخلون مكتبة الجامعة في ستوكهولم أو غوثنبيرغ أو أكسفورد أو السور بون أو هارفارد أو هـيدلبيرغ أو موسكو أو حتى طوكيو يغـترفون من الرفوف عصارة تاريخ المعرفة الإنسانية، يلوكونه كما يلوكون القات في مجالس صنعاء في اليمن السعيد!!
وثمة عربٌ، على درب قروي غير معـبد، يجهدون في تعب الصعود وراء حمار لاهث يحمل ما قطفته أصابع نسائهم من الزعتر والميرمية والأعشاب البرية الأخرى يبيعونها في سوق البلدة، يشترون بها قوت اليوم، أو الدواء الأخير لأحد أطفالهم المختنق بالحمى. وهؤلاء لم يشاهدوا يوماً سيدات “المجتمع المخملي” وثيابهن الباذخة (التي تمتزج في تصميمها وإخراجها أنامل بيير كاردان، وغي لاروش ونينا ريتشي وايف سان لوران) في فندق الشام أو الماريوت أو الشيراتون.
وثمة عرب في مختبرات وكالة الفضاء الأمريكية NASA في هيوستن، يجلسون أمام الحاسب الآلي يراقبون ما أسهمت في خلقه أيديهم وعقولهم البارعة، ينطلق في آخر مركبة فضائية تنتجها أمريكا…
يبدو أن أجهزة الإعلام في “العالم الحر” لم تسمع بأي من هذه العينات، ذلك أنها لا ترى إلا “عرب النفط” وتصر على أن ترتبط شخصياتهم بالجنس والقصص المثيرة.
ما هي الصورة الحقيقية للعـرب في العالم؟
تغـيم في الرأس ضبابة كبيرة سوداء، ويمخره شـئ من الدوار، وترتجف الأهداب وهي تواجه الصورة، المقطعة، المتكدسة، المتناقضة المنهكة للعرب في البال وفي الدم وفي التاريخ الحديث. أمس أغرقت العربي بالمحبة، بالطموح إلى أن أراه يندفع في مواكب المعرفة، في مسارب الحضارة، حراً كريماً أبياً، شامخ الرأس، مليئاً بوهج تاريخ مشرق، وبوعـد بمستقبل أكثر إشراقاً مشبعاً، معافى، مغموراً بالأمل.
لكنه فجأة تهاوى فوق إسفلت الطريق. كانت قدماه مثقـلتين بالسلاسل التي يُجرجرها من غياهب الماضي إلى آخر قلاع الاعتقال في العواصم العربية المشعشعة..
وفي قصور الولاية كان يهدر أسيراً لحمى الملك، لشبه السلطة التي لا تعرف غير نفسها صنماً تـعـبده، حالماً بقمر كاليغـولا، بروما نيرون، بأرض تنـفـرش لخطواته المهيبة ذهباً وزمرداً وبقايا عظام.
في مقصف الجامعة كان ينتفض في عينيه كبت السنين الطوال، يغلف جسد الصبية العابرة بغلالة ساخنة من الشبق، ويعريه ألف تعرية وهي تعبر بين الباب و”الدكة” الطويلة المرصوفة بأطباق اللحم والخضار، بالمنسف والدجاج واللبن، وبأسماء أطباق العالم المتناقضة الأخرى، ومن النافذة العربية يتدفق الصوت الرخيم، مسافراً عبر الفضاء اللازوردي يدعو إلى صلاة العصر.
أين يقف العـرب في العالم؟
يقبعون في “الهامش”، خارج العالم … يغرفون من الأرض عطاءها السمح، جهد ملايين السنين، دون مقابل يهدونه إلى مصانع الغرب وسياراته ومختبراته وفنادقه ودباباته و طائراته وصواريخه. ويعود العطاء السمح جلوداً مصنعة، وسيارات وطائرات ومدافع وقنابل وآلاف السلع الاستهلاكية البراقة اللامعة. يغريهم البريق، يظنون أنهم أصبحوا سادة العالم والتقدم الحضاري (أو على الأقل، أحد أسياده) لكنهم، هم القابعون في الأرض، لا يصدرون ولا يتحولون: يظلون خاماً تفرقه سفسطة العالم ومعرفتهم الماكرة بنوازعه الدفينة، وبهواجسه وخبثه وثقافته.
يصبحون هم موضوعاً للمعرفة والتحليل والدراسة والتفسير والتأويل، و كأنهم حشرة تحت المجهر، أو قطعة لحم للتشريح، أو كائناً بدائياً على شفا الانقراض لا بد من أن يـُرصد ويُحلل، ويدون، وتدخل تفاصيله ومواصفاته في ذاكرة الحاسب الآلي في مراكز الثقافة المهيمنة، لكي لا تفقد حلقة من حلقات المعرفة الثمينة بالتطور التاريخي لدى باحثي الغرب وواضعي نظرياته العرقية والانثروبولوجية والثقافية العامة والبيولوجية، بل وتلك التي تهتم بهندسة البناء وتطورها من الكوخ المصنوع من أغصان الشجر إلى الخيمة إلى ناطحات السحاب.
أما هم (العـرب)، في لألأة الفتات الذي يفيض عليهم، فإنهم يمتلئون بأنفسهم ويتعاظمون في أعينهم حتى ليكادوا ينطحون السماء…
يتوهمون، في رونق مجدهم، أنهم قادرون على أن يشتروا الآلات بالنفط، والشوارع المرصوفة المضاءة المزينة بالنفط، والأرض المزروعة المحروثة المنتجة بالنفط، وجبال الجليد من الدائرة القطبية الشمالية بالنفط، وحمامات البيلسان الرخي بالنفط، وآخر ما أنتجته مصانع العالم من مقاعد “التواليت” بالنفط، والعقل الخلاق المبدع بالنفط.
يشترون الورق والحبر وآلة الطباعة والتجليد والخرازة والقطاعة بالنفط. ويضعون كل هذه الأشياء في سلة ويحلمون بكتاب لهم. لكن هذه الأشياء تظل جثة فلا تنتج كتاباً.
ويشترون الأسمنت والأبنية الجاهزة والحديد والمختبرات والمقاعد وألواح الكتابة والطباشير والمخططات ويكومونها في فضاء على مدى النظر.
يريدونها أن تكون “دار حكمة” تـعـيد أمجـاد المـأمون ، وتتكدس هذه الأشياء لكنها لا تصير جامعة. فيشترون الكتاب والجامعة، ويحلمون بأن تكون لهم بعدهما معرفة وعلم وتقنية يستطيعون بها أن يوازوا العالم، بل أن يتجاوزوه. لكن الحلم يبقى حلماً، وثرثرة في فراغ يغص بالآلات والأجهزة والعقول المستوردة وينقصه، حتى الفجيعة، الإنسان.
تغيم الصورة الفاجعة من جديد، ويمخـُر الرأس دوار أسود، وتتقاطع أطراف العرب وأعضاؤهم وثيابهم ومطامحهم وإخفاقاتهم بألف صورة هاجمة من التاريخ، من الداخل والخارج، من الأقمار الصناعية التي ترعـب الفضاء بأسلحتها النووية، والسيوف والخناجر المعلقة على خصور العرب في أزقة مدينة ما، في مكان ما، من خريطة رمادية تتقاطع فيها الأشياء، ثم تدور في دوامة مدوخة. وينبثق العرب من القلب، رغم كل شئ، منغمسين، بحب حزين، بأمل منكسر، وبوعـد بالمُحال.