بُرهة نقيّة
رانيا كرباج :
…. كي نعيشَ برهةً نقيّة تتجلّى فيها غير خائفةٍ نفسنا الأصلية بما فيها من نقصٍ وجمال، لا بدّ أن نكونَ قادرينَ على التملّص من الكمّ الهائل من التلوّث الفكري الذي يرهقنا منذ أن خُلقنا. جئنا إلى هذا العالم مُحمّلين، لا أدري بتاريخٍ بحزنٍ وبحنين، لنجدَ أنّنا مُضطرّون كلّ يومٍ أن نحملَ أكثر، مفاهيمَ وأفكار وعقائد ومبادئ قد تُغنينا أحياناً وقد تُضنينا أحياناً أخرى، قد تُنقذنا وقد تُضلّلنا، ولكنّنا في أغلبِ الأحيان لا نملكُ القدرة أو الشجاعة على أن نقولَ فيها كلمتنا. لكن «أن نقولَ كلمتنا» يعني بالضرورة أن نعيها و«أن نعي كلمتنا» يعني حكماً أن نعرفَ أنفسنا ونتصالحَ معها. هنا نبدأ نخطو صوبَ مفهومٍ هو أعتَق وأعمَق ما يقلقُ وجودنا بوصفنا أفراداً وجماعات، صوبَ تلكَ التي اشتعلَت من أجلها الحروب وأُنزِلَت الديانات وتمترس ماردُ الاقتصاد، صوبَ تلكَ التي طابت بوجودها على الأرض الحياة…. صوبَ تلك التي يدعونها حرية. طريقنا إلى الحريّة يبدأ بمعرفتنا لذاتنا معرفة موضوعية قادرة على إدراك ما فينا من جمالٍ وايجابية وتوسيع رقعته وتفهّم سلبياتنا وأسبابها ودفعها في طريقِ النمو. لكن كما ذكرت سابقاً فثقافتنا باتت مُحمّلة بما لا تطيق من أفكار ومفاهيم وحاجاتٍ ماديّة تُثقلُ على الإنسان رحلتهُ صوبَ نفسهِ وما لم ينتفض يوماً ويُقَرّر أن يكوّن معرفتهُ الخاصة التي تساعدهُ على بلورةِ إمكانياتهِ وملكاتِهِ وتسخيرها ليعيشَ أكثر انسجاماً وسعادة، فإنه سيبقى عبداً أسيراً يمشي على طريقٍ ليسَ له ويُكرّر كلاماً لا يُشبهه. فالإنسانُ وإن مشى على دربِ الوعي محاولاً عبرَ مسيرته الطويلة أن يصلَ إلى المعرفة بطرقٍ مُتعدّدة، فاتّكلَ طوراً على الإله وتحوّلَ إلى مخلوقٍ ضعيفٍ مُسيّر، وآخر راحَ يلعبُ هو دورَ الإله معتقداً أنه بالعلمِ والمعرفة قد يتمكّن من السيطرة، في كلتا الحالتين لم يصل إلى النتيجة المرجوّة وبدلاً من أن ينقذَ نفسهُ فقدها. وبقيت ذاته الحرّة البسيطة منسيّة، ساكنةً عميقاً في صميم وجوده، تمدّ رأسها من حينٍ إلى حين لتجدَ أن الواقعَ يرفضها ويغرقها بالدونية واللّعنات. مع أن السّر كل السّر يكمن في تلكَ النفس، فمن خلالها سنعبر إلى الآخر ويعبر إلينا، من خلالها سنعرف الإله الذي طالما بحثنا عنه وسيعرفنا، من خلالها سنضعُ أقدامنا على الطريق الذي يصلحُ لنا. وسندرك أن الوجودَ جميلا، وأنّ الآخر يشبهنا وما من داعٍ للحقد، وأنّنا جزءٌ من الإله وهو جزءٌ منّا وما من داعٍ للخوف