بين ترميم “البيت الصغير” وخراب البيت الأكبر
د.عامر صالح
أثارت الدعوة التي أطلقها مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري إلى “ترميم البيت الشيعي” وعقد تحالف “عقائدي” جدلا في البلاد، خاصة وأن الصدر انتقد التحالفات الطائفية مرارا خلال السنوات الماضية. ودعا الصدر إلى “ترميم البيت الشيعي”، على خلفية “التعدي الواضح والوقح ضد الله ودينه ورسوله وأوليائه” حسب زعمه، من قبل “ثلة صبيان لاوعي لهم ولا ورع”، في إشارة منه إلى المتظاهرين العراقيين، كما طالب بكتابة ميثاق شرف “عقائدي”.
وقال في تغريدة على حسابه عبر “تويتر”، “أجد أن من المصلحة الملحة الإسراع بترميم البيت الشيعي من خلال اجتماعات مكثفة لكتابة ميثاق شرف عقائدي وآخر سياسي لنرفع به راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) . ورفضت النشطاء وجماعات الحراك دعوة الصدر، وعدّوها مدخلاً جديداً لإعادة البلاد إلى حقبة الاصطفافان الطائفية ومحاولة لجر البلاد إلى مرحلة جديدة من الصراع والاقتتال الطائفي التي بالكاد تجاوزتها. ورغم ان هناك ترحيب شيعي خفي ومعلن عن دعوة الصدر ولكن بالمقابل هناك حذر شديد من دعوته استنادا الى طبيعة شخصيته الانفعالية وغير المستقرة والتي تتغير على عجالة استنادا الى تصريحات الكتل الشيعية واستجابة السيد الصدر الأنفعالية لذلك. فالسيد الصدر له اعداء في المحور الشيعي وسبق وان حاربوه بقوة السلاح للحد من نفوذه الى جانب اصدقاء حذرين منه.
A
A
ويرى الكاتب مصطفى فحص ان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر يواجه معضلة في المواءمة بين حركة احتجاجات شعبية تطالب بالسيادة الوطنية الكاملة وإصلاح شامل للعملية السياسية، وبين حرصه على الحفاظ على مكتسبات تياره السياسية والشعبية. ومع تمسك الانتفاضة بمطالبها، تتراجع فرص التيار في التماهي مع حركة إصلاحية بطبيعة ثورية ترفع شعارات القطيعة مع مرحلة ما بعد 2003.
ويؤكد الكاتب المذكور ان الانتفاضة امكنت من فرض شروطها على الطبقة السياسية التي فشلت في مهمتين؛ الأولى محاولة إخمادها، والثانية في أن تكون جزءاً منها، وقد أدَّت استدارة الصدر الأخيرة إلى قطيعة شبه كاملة مع «انتفاضة الأول من أكتوبر». وقد نجحت سريعاً في تعويض الزخم الشعبي بعد خروج جمهور الصدر من الساحات، وحولت قرار الانسحاب إلى أزمة داخل صفوف التيار، الذي يعاني صعوبة في تحديد خياراته بسبب خطوات ضبابية قام بها زعيمه في الفترة الأخيرة لا تنسجم مع الأدبيات التاريخية للحركة الصدرية وهويتها العقائدية، التي نشأت مع صعود نجم الراحل محمد باقر الصدر، وتبلورت كحالة شعبية جماهيرية على يد الراحل محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر.
أن التيار الصدري وولادته هو تعبير عن حالة الأستعصاء العراقي والفراغ السياسي الذي ولد ما بعد 2003 والتي قام التيار بشغلها مستفيدا من غياب الأحزاب الطبقية ذات المصلحة في التعبير عن ماهية الصراع الطبقي في العراق واطرافه الأساسية, وعلى خلفية ذلك ولد تيار غير متجانس بأنتمائته الأجتماعية والطبقية بل ولد التيار متصارعا مع مكوناته الأساسية وتوجهاتهم المختلفة في التعبير عن مصالح المكونات المجتمعية, ويلخص الدكنور كاظم حبيب جوهر مكونات التيار الصدري الطبقية والأيمانية بما يلي:
أولاً: المجموعة المؤمنة والتي كانت ضمن مريدي والد مقتدى الصدر والكثير من الشبيبة من أبناء وبنات هؤلاء المؤمنين، وهم في الغالب الأعم كادحين وفقراء يعيشون الحرمان والبؤس والفاقة ويحسون الإساءة لكرامتهم الإنسانية في أوضاعهم المعيشية وهامشيتهم السياسية والاجتماعية وعدم عدالة النظام الذي يعيشون تحت وطأته.
ثانياً: مجموعة من القوى الدينية التي لا تختلف عن بقية القوى الدينية التقليدية ولكنها محكومة بتقليد السيد محمد صادق الصدر وبالتبعية لأبنه وتنتظر الحصول على مكاسب من وجودها مع كتلة الصدريين.
ثالثاً: أما المجموعة القيادية الصغيرة الثالثة في الكتلة الصدرية فأعضاؤها من قوى بعثية سابقة وقوة طائفية متطرفة وتتسم بالشراسة والفساد المالي والإداري والتي احتلت مناصب كبيرة وزارية ووكلاء وزارات وعضوية مجلس النواب ومدراء عامون وغيرهم. إنهم يشكلون النواة الصلبة في الكتلة الصدرية التي تأتمر بأوامره وتقود البقية الباقية، وهي مستعدة في كل لحظة إلى الافتراق عن الصدر إن وجدت ذلك في منفعتها، كما حصل مع قيس الخزعلي وغيره، وكما يمكن ان يحصل مع غيره مثل حاكم عباس الزاملي على سبيل المثال لا الحصر. وهذه النواة الصلبة ذات اتجاهات متباينة ولكنها في المحصلة النهائية تخضع لمصالحها وتقترب دوما من إيران ومخططات إيران في العراق.
التجربة المؤذية للتيار الصدري انه كان مفرخة للمليشيات والتنظيمات المسلحة والتي تشكل جزء من بنى الدولة العميقة, وهنا يؤكد الكاتب حيدر الموسوي أن ابرز الفصائل التي خرجت من رحم التيار الصدري هي: عصائب اهل الحق, ومليشياء النجباء, ومليشياء اليغقوبي, ومليشياء ابو درع, ومليشياء الخراساني, ومليشياء ابو فضل العباس ومليشياء مرقد الأمام علي وكربلاء, طبعا الى جانب الفصائل المسلحة الأخرى الأم وهي , جيش المهدي, وسرايا السلام والقبعات الزرقاء وألوية اليوم الموعود.
على التيار الصدري ان يدرك ان نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال السبعة عشر عاما المنصرمة, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي, إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي, أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية, وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية, بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية, وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.
لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على مستقبل البلاد,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية, حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل ” علم السياسة ” لإدارة شؤون البلاد, مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية, مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى ” إفساد للتنمية “,وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع. أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه
أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية ” شاء الفرد أم أبى” لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية,ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح,وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد,ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات,أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال اتجاهات التعصب الأعمى,أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي,ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها,فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير.
أن الدعوى الصادقة لأي تغير في العراق تمر من خلال استيعاب الخطوات التالية في العملية السياسية:
ـ الاصلاح الشامل لأعادة بناء العملية السياسية من خلال اعادة صياغة الدستور على أسس واضحة بعيدا عن الازدواجية والغموض فيه.
ـ التأكيد على النظام الفدرالي بشكل واضح لا لبس فيه في اطار وحدة العراق, وضمان حقوق الشعب الكردي الى جانب المكونات الأخرى دون تميز.
ـ العمل على اعادة صياغة قانون الانتخابات بما يضمن حقوقا متكافئة للجميع للمساهمة في العملية الانتخابية والديمقراطية.
ـ التأكيد على فصل الدين عن الدولة ومنع نظام قائم على اساس الدين او الطائفة او العرق.
ـ الأعمار السريع لكافة المناطق التي تضررت من الارهاب واحتلاله واعادة النازحين والمهجرين ومساعدتهم ماديا ومعنويا لعودتهم للحياة الطبيعية.
ـ مكافحة الارهاب وتجفيف كافة منابعه ومصادر تغذيته المادية والفكرية, والقضاء على المظاهر المسلحة غير الرسمية والمليشيات المسلحة.
ـ تأكيد سياسة العراق الحيادية والابتعاد عن المحاور الاقليمية المتصارعة وتجنب كافة اشكال الدعم الخارجي التي تكبل السيادة الوطنية.
ـ اجراء حوار شامل لنزع سلاح المليشيات وخاصة السائبة منها وذات المصادر المعروفة للجميع دون محاباة او تهاون, فالعراق اليوم مهدد بأمنه المجتمعي وقابل للأنهيار في أي لحظة.
أن الديمقراطية الحقيقية غير المحاصصاتية الطائفية والشوفينية هي التي تنقل العراق الى بر الأمان وتعيد انتاج الخطاب الوطني المتصالح مع الذات ومع الوطن. على التيار الصدري ان يكون بمستوى خطورة الوضع في العراق ويبتعد عن المناورات الضارة وغير المجدية للعراق واستقراره وان يكون بمستوى المسؤولية لأنصاره واتباعه بعيدا عن تسويف مطالبهم في الحياة الحرة الكريمة, وعلى التيار الصدري احترام القاعدة الواسعة والفقيرة والمعدمة من التيار بعيدا عن زجهم في مشاريع قد تفضي بهم الى نهاية مفجعة.