سعد الحجي
“صديقي، اسمح لي أن لا أودّعك.. إنني أريد أن أعيشَ وأن أكتبَ عشرين سنةً أخرى!”… دوستوفسكي
-1-
هل تذْكُر؟ أم تُراكَ تتهرّبُ من أن تذكُر؟
فمازال بوسعكَ أن تذكُر..
ومازال ليلُكَ الطويلُ متأنياً تحومُ فيه خفافيشُ الذكريات..
الليلُ الشتويّ هذا حرونٌ لا يتزحزح.
وفي شتاءِ ذلك العام كان ثقيلاً وجاثماً بصمته،
لا يرُجُّ سكونَهُ وهواجسَكَ إلاّ صوتُ المؤذّنِ من مسجدٍ ما قريب.
…
– النهاراتُ مُعتمةٌ هي أيضاً ..
لابدّ أنها في الخارج مشمسةٌ وكسولة،
حيث جلَبة السوق الكبير،
حيث زحام الناس البادي من دويّ حراكهم،
حيث القلق من القادم المجهول.
…
لكنّ صريرَ المزلاجِ على بابِ السجن كان يحيلُ القلقَ خوفاً.
من ورائه قهقهةُ رجالِ الأمن تصدر من عالمٍ آخر، يتداولون المزاحَ البذيءَ بمرح..
ما الذي توجّسَهُ في سيمائكَ نزلاءُ السجن حين دخلتْ؟ أتراهم ظنّوك مخلوقاً جيء به من كوكبٍ آخر؟ كانوا معكَ يتكلّفونَ التهذيبَ ويتبادلون فيما بينهم الشتائمَ بأُلْفَة..
حين أدخلوكَ عليهم للمرة الأولى انزويتَ بعيدا.. غرقتَ في أفكاركَ وهم كانوا يفترشون الأرضَ حلقةً حول الطعام.
رفضتَ كلّ إلحاحٍ لمشاركتهم. تسألُ نفسكَ: “طعام؟ أليس أجدى هنا الجوعُ حتى الموت؟ ففيه الخلاصُ من كل ما قد يأتي”.
…
– ربما كانت الشمسُ إذاكَ في الخارج تجرّ خصلاتِها الذهبية.
ربما كانت تلملمُها وتخفيها وراء وجهها المُحْمرّ،
خجلةً تتأهّبُ للمغيب
فبعضُ الفراقِ يجلبُ الحزنَ
وبعضُهُ الوجَل
…
يحاولُ أحدُهم التسريةَ عنك: “شعبةُ الاستخباراتِ هذه أفضل مِن سواها، إنها نُزهةٌ مقارنةً بالأخريات”..
أضافَ آخرٌ بصوتٍ خفيض: “أفرِغْ ما عندكَ لهم دفعةً واحدةً وأرِحْ نفسك! فإنكَ مُفْرغُه عاجلاً أم آجلا”..
يزجرهُ الأولُ : “سخّمَ اللهُ وجهَكَ يا غراب!”، ثم يلتفتُ إليك:”أثبتْ ولا تتراخَ”..
وعادوا يستكملون ما انقطع من حديثهم عند دخولك.
قال الشابُ النحيف القادمُ من مدينة الثورة محدّثاً صحْبَه: “كانت الصلاةُ واحدة، إلاّ أنّ بعضَ من كان يكتمُ شِركهُ من المسلمين كان يخفي أصنامَه بين يديه مكتّفاً ساعدَيْه فوقهما.. فأمرهم النبيّ حينئذٍ أن يُسْبلوا أيديهم في الصلاة”..
ردّ آخرٌ، القصيرُ، : “ما أراكَ إلاّ غبياً تختلقُ الأكاذيب”.
وعلا هرجُهم تتقافزُ بينهم الشتائمُ الحميمة.
ناداكَ أحدُهم محاولاً إخراجكَ من صمتِك: “ما رأيك؟”
لم تكن تريدُ الخوضَ في الأحاديث.
…
– كانت الهواجسُ وفيةً كعهدها
تصطحبُ رفيقَ دربِها نحو برزخِ الموتِ عبْرَ معراجِه
لكنّ السمْعَ عصيٌ على ارتحال
تلازمُهُ غوايةُ المكوث..
…
لكنك لم تتمكنْ من قهرِ سجيّتك فتتجاهلَ السائل.
تجيبُ مبتسماً: “وما حاجةُ من يكتمُ شِركَهُ إلى حملِ أصنامهِ جهارا؟ ولو أرادَ فما عليه إلاّ أن يدسّها في جيبٍ بين ثيابهِ ليحرر يديهِ ويكونَ في مأمنٍ من الظنون”.
صرَخَ القصيرُ ضاحكاً بوجهِ ابنِ الثورة: “أما قلتُ لك إنك سَطْل! هاهاااااه.. لماذا لا تردّ؟”.
عدتَ إلى برزخِك ومعراجِه.
لم تقرَبْ طعاماً طيلةَ النهار، لكنّ الجوعَ غائب.. وعاد النزلاءُ إلى حديثهم.
ليلُ الشتاءِ باردٌ وقاسٍ..
وكنتَ سجيناً بلا أغطيةٍ أو مَتاع.
جاؤوا بكَ بثيابكَ التي كانت عليك.
…
-2-
– في هدأة ذاكَ الليلْ
كان البردُ يجوبُ بزلاّقتهِ الأعتابَ
وينْفُذُ بين مساماتِ الجلدِ
إلى خلجاتِ الروح..
في وحشةِ ذاكَ الليلْ
هدرَ صوتُ أذانٍ كالرعدِ
قريباً كان يهزُّ الأركانَ وأرواحاً تطردُها عابثةً زلّاقاتُ البردِ
قصيّاً كان ويأتي من خلف سماواتٍ مبهمةٍ
يذكرُ أنّ المُلكَ لهُ..
والأمرَ لهُ..
فَهْوَ يرى ما خلفَ الجدرانِ
ويصغي للصمتِ المُبْتلِّ بما يصّاعدُ من مُقَلٍ
من تحت الأغطيةِ إليهِ،
وهو بيدهِ أن يرسلَ، لِمَن أعياهُ الطلبُ،
وميضَ بريقٍ لمعارجَ موصدةً من كلّ جهاتِ الأرضِ
خلا من بين الجدران هنا
يرقاها من شاءَ خلاصاً
وتمنّاه..
…
تطلبُ حلولَ نهايتكَ العاجلةِ دون أن ترى حفلاتِ التعذيب؟
تلك التي أعدّها لك مضيّفوك!
يدنو منك ابنُ الثورةِ يريد أن يُعِيرَكَ بساطَهُ وغطاءَهُ قائلاً إنه سيشاركُ صاحبَه..
ما أطيبَ نفسَه، ذلك الشابُ الفقيرُ الكريم!
وبين رفضكَ وإلحاحهِ رضختَ لكرَمِه، وعدتَ من جديدٍ لتغرقَ في بحر عزلتك.
للمؤذّن صوتٌ جهوريّ شجيّ،
يسْتلُّ سامعيه من هواجسهم ويحملهم إلى رجاءِ من يستردّ أمانتهُ الليلةَ.
وتُعْرِضُ عن ذِكْرِ قشعريرةٍ تدُبّ فيك كلما صرّ مزلاجُ الباب..
ها هم قد أتوا أخيراً.. يشيرونَ إليك!
تمضي يصحبكَ الخوفُ..
…
– نشاطٌ محمومٌ للعقل،
يمنهجُ كل خبايا دهاليزهم في استلال الاعترافات،
ينظّمُ مساراتِ الأجوبةِ بين علاماتٍ شاخصة لا تتبدّل،
يُحكِمُ سيناريو الأقوال..
…
كان ضابطُ التحقيق الأول في مناوبة النهار يبدو طيّباً، أو لعلّه كان ماكراً..
المكرُ أرحمُ من العنف، فبإمكانكَ مبارزة المكر بمكرٍ مثله.
قال: “أزيلوا العصابةَ عن عينيه وفكّوا قيدَ يديه، هذا إنسان متعلّم ومثقف، ربما كان كل ما يريده هو الوصول إلى السويد، حيث يصبح بمقدوره أن يشتري لصغاره الحلوى!.. وأيّ مشكلةٍ في ذلك! أعطِنا اسمَ من زوّدكَ بوثائق السفر هذه. تعاون معنا وسأساعدك. اجلبوا له قدحاً من الماء”..
كان برتبة نقيب، ضخمَ الجثة، حسنَ ملامح الوجه.
لكنك لمْ تشرب الماء وكرر طلبه مستغرباً عزوفك.
مرّت لحظاتُ صمتٍ وهو يتفرّس في وجهك، ثم أمرهم بحبسك متعجّلاً الخروج..
الآخرُ، في مناوبة الليل، كان نحيفاً، ذا بشرةٍ سمراء، بذيئاً، كان يهدّد ويتوعّد.
قال بأنّكَ خائنٌ للوطن وأن لا رحمةَ مع الخائنين.
أتحاولُ ألاّ تستمعُ إليه؟
…
– في الخروجِ من الجسد تحررٌ من أغلال ثقيلة الوطء
وليس الألمُ الصارخُ غيرَ نتاجِ حواس،
ذهابُ الوعي متى حلّ يخلي سبيلَ الأحاسيس
الروحُ تريد أن تحلّقَ في عالمها البعيد الذي أتتْ منه..
وللألمِ مسلكٌ لجوجٌ إذ يمنعها ليتسيّد.
وحين يسود سيكتسحُ كلَّ مساحاتِ الرعبِ ويغشاها
الخوفُ يعربدُ لينثرَ هلعَ الآلامِ،
فإن حضرَ الألمُ تلاشى الخوف.
…
-3-
أعادوكَ إلى الزنزانة فاستقبلتْكَ أعينُ صَحْبك تستعلمُ نظراتُهم عمّا جرى.
تنزوي صامتاً فيهمسُ أحدُهم: “هذا كلّ ما لديهم فلا تُبالِ” ..
ثمة نزلاءُ جدد، أحدُهم كان يرمقكَ من بعيد بنظرةٍ مرحة!
تفهمُ من خلال أحاديثهم أنه محترفُ سجونٍ صعبُ المراس، أتوا به انتظاراً لترحيله صبيحةَ الغدِ إلى السجنِ المركزيّ.
يقتربُ منك وقد علم بأمركَ من الآخرين: “ماذا أخبرتهم؟ هممم حسناً، هذا رائع.. لا تشي بأيّ اسم. إن سلّمتَهم رأسَ خيطٍ فلن تغادرَ المعتقلَ حتى تكتملَ سلسلةُ الأسماء التي ربما لن تكتمل، ثم مآلك من بعد إلى السجن”..
يغمزُ بعينه ضاحكاً وهو يفرك إبهامه على أصابعه في إشارةٍ بيّنة: المال! ..
لكنكَ أعرضتَ عن أيّ حديثٍ يتطرّق لدفع المال.
…
– الخضوعُ لمسارات العقلِ المحمومِ نعيم..
ورجاءُ رحلة المناجاةِ نعيمٌ آخر.
…
كان المحققُ النحيفُ ذو السّحْنة السمراء يزدادُ جنوناً بمرور الوقت.
لكنّ تعريفَه لخائن الوطن تعرّضَ لهزّةٍ عنيفة!
فقد هربَ الرجلُ الثاني في هرم النظام على حين غرّة، وبدأ يدعو أعداءَ الأمس إلى المجيء إليه ليسلّمهم من الأسرار ما كانوا عنه ينقّبونَ لسنوات!
أسرار الصناعة التي بسببها دُمِّرَ البلدُ وشُطِب من مصافِ الدول.
لاشكّ أنّ خروجكَ بعد عشرين يوماً كان معجزة.
لو تُركتَ بأيديهم لمزقوكَ إرَبا، وحطّموا روحَكَ التي تريدُها أن ترفرفَ بعيدا.
لعلّهُ قدرٌ هابطٌ من فوق سبعِ سمواتٍ قد لطفَ بك،
وآثرَ نجاتكَ مرجئاً موتَك إلى زمنٍ آخر!
لعلّ صفحةَ حياتكَ قد كُتب لكَ فيها أمرٌ جللٌ لمّا يأتِ بعد..
ربما لتعيشَ مدداً آخرَ لتخبُرَ من الحياة محناً جديدة..
أحقاً كنتَ تتمنى الموتَ أم تُراها كانت نزوةً طارئة؟
كأنّ الحياةَ هبةٌ ترضاها بسرور حين العيشُ رغيدٌ، وتعيدُها للواهبِ برماً حين يكدّرُ صفوَها كدر!
أيها المَلولُ النزق.. ظنّكَ البعضُ بطلاً أمضى عشرين يوماً تحت التعذيب ولَمْ يركعْ.
أما أنا فأعرفك!
تضرّعتَ كلَّ ليلة سائلاً ربَّك الموت، وأردتَهُ لا ريبَ موتاً ناعماً يأتي بطرْفةِ عين!
أيها المتأجّجُ الهوينى مثل موقدٍ عتيقٍ خرِب،
ربما ستعيشُ حتى تبلغَ عمرَ الديناصورات!
تكتبُ عن حماقاتِكَ الصغيرة،
وآلامِ الآخرينَ الكبيرة،
حتى تخمدَ جذوتُكَ إلى الأبد..
بغداد.. 1995