سعد الحجي
(ولمّن لالتْ الـﮕـمْرة/ لمّينا العتب واللوم/ ورْجعنا على درب الشوﮒ.. للبصرة)
أخذْنا مقعدينا في الجانبِ الأيسر لعربة القطار، بين زحمة المسافرين الذين كان يضيق بهم الممرّ الوسطيّ.. أنا وصاحبي، في ذاك المساء الدافئ من شتاء بغداد.. الشتاء الأخير الذي سبق مواسم حروبها الماحقة اللاحقة..
صاحبي القرويّ، الشاب النحيف ذو الأنف المستدق الشمم ،
صاحبي الذي كانت كفّاهُ المعروقتان.. خليقتان بالعمل في فلاحة الأرض أو في جني الثمار! .. الذي طريقةُ ملبسه تكشف انتماءه لإحدى القرى الغافيات على ضفة من ضفتي الرافدين أو جداولهما المتشعبة..
صاحبي الذي لا يفارق العودَ ولا يفارقه.. الغارق في روايات دوستوفسكي حتى أذنيه، فيصغي ولا يسمع من قصائدي التي أقرأها له غير دندنة يهذي بها، ثم يطالبني بأن أكتب له شعراً غنائياً كي يلحّنه! .. كنا طالبين جامعيين وكان مقصدنا البصرة.
زيارتي الأولى لها قديمة، أذكر منها صورةً ضبابية للقطار الذي كان يقلّنا إليها. كنت صغيراً برفقة أهلي وبعض الأقرباء. توقّفَ القطارُ حين همّ الصبحُ أن يتنفس.. وصاحبَ صوتَ العربات وهي تتباطأُ صوتٌ خافتٌ لبعض أهلي: (هذي السماوة). تطلّعتُ من النافذة إلى النساء المتّشحات بالسواد، في شحوبٍ من ظلمة الليل لمّا تزل تمانعُ بغنجٍ بزوغَ النهار، كنّ يحملن على رؤوسهنّ أواني القيمر ¹ .. وكان بياضُ القيمر في آنيته ساطعاً وسط ظلمة الغلس النديّ. عبقَ الصبحُ بشذا نداه، فلسعتني نسمةٌ باردة منه خللَ النافذة، في ذلك النهار الوليد من أيام صيفٍ بعيد الغور في متاهة الذكريات..
كان نفس القطار يحملني وصديقي هذه المرة.. وغايتي من سفرتي تلك كانت محاولة العثور على أخي في معسكر الشعيبة قرب البصرة لتهدئة القلق الذي أعترى والدتي بعد تأخره عن موعد مجيئه المعتاد. أما ما أخفيه فهو ما وشوشَ لي به صاحبي القرويّ عن تلبيةٍ لا مناص منها لنداء قلبه!
صاحبي المغامرُ الصاخبُ مثل زوربا.. يريدني أن أرافقه أنا الملولُ الضّجر مثل رفيق زوربا في رواية كازانتزاكيس.
كان حبّه بصرياً يرتوي من ماء شط العرب حيث يقف السياب على ضفته شامخاً يحدّث من يلقي السمع عن حب العراق وعن شمسه التي هي أجملُ مِن سواها..
البصرة التي كانت قبيل مواسم الحروب عروساً في حفل زفاف! كل مغانيها وما حولها بلابلُ تغرّد في القلب.. مساءً، حين تتراقصُ الأضواءُ على صفحة مياه الشط..
حين يتمايل بنا المطعم الذي كان مركباً يقف بمحاذاة الرصيف..
حين دار بنا الشطُّ-الأرضُ-السماءُ كأنّا سُقينا بزُقٍّ لا حصرَ لكؤوسها..
يا ليلةً كنتُ شاهدَها وحاضرها ومدوّنها رفقةَ زوربا العاشق القرويّ الذي أحبَّ في فتاته لهجتها حين كانت تحدّثه، وكان ينتشي بسعادة حين تنساب كلماتها إلى أذنيه..
خاطبتُه مشاكساً حين لمحتُه غارقاً في أفكاره: “بَصْرا” ! ..
(متعمداً أن أنطق الكلمة كما ينطقها البصريّون)..
قال: أحبّ طيبتَها، هي من طيبة المدينة والناس والأرض..
وأردفتُ: لكني أظنّ أنّ قلبَها قيمرَ السماوة..! وروحها جذلة ذات بهجة، مثل حلاوة نهر خوز..!
قال ضاحكاً: ألا تسمعها في صدري تزقزقُ، عصافير الصباح!
قلتُ: إذن استمعْ..
عيناكِ، يا ظبياً بـــ “عَشّار ِ ” ²..
تتناوبانِ العزفَ لم يسبقْهما عودي وأوتاري
أهُما -كما وصفَ “المعلّمُ”- غابتانِ من النخيلْ؟ ³
قد جُـنّـتا عشقاً بضوءِ البدرِ
حين غشاهُما الليلُ الطويلْ..
أم قصّتان أطلّتا من ألفِ ليلةَ
تبْسِمانِ
وليس يخفى عنهما جهري وإسراري..
عيناكِ.. بلْ ليلٌ غشاني
في متاهاتٍ
أضاعتْ قلبيَ الساري..!
الآن، وقد دارت الأرضُ بركابها مراراً دون كلَلٍ أو ضجر.. يطيبُ لذلك الفتى الكهل أن يحتضن العودَ بين ذراعيه ويوسّده فخذيه ليحدّث صاحبه ألحاناً تبوحُ أنّ البريقَ الذي تتلألأ به دمعتان في عينيه، لمّا يزل يلمعُ في ذاكرته بضياءٍ لا تغيّبه الأيامُ والسنون، ومذاقَ الشهد من حلاوة خوز، باقٍ في فيه لا تزيلهُ مرارة الأيام ولا علقم الحوادث والنكبات.. وانتشيتُ بدبيبٍ من فرحٍ خفيّ وأنا أنصتُ لحديث العود عن حنينه لشط العرب.. بأنامل هذا العازفِ العاشق الدّنِف:
يا قلبَها يا نورساً هائما
دونكَ ذاك الموجُ والشطُّ..
قلبيَ
ذا الخافقُ في أضْلُعي
يعلو لمرآكَ وينْحَطُّ..
ويُغضي حينَ أنْـهاهُ
فيُقْسمُ
مُذ رأى برَدَ الشتاءِ الزمهريرِ
فمثل وَجْهكِ ما رأى قَطُّ..!
سلاماً طائرَ الشّطْآنِ
مرحى أيّها الشطُّ..
هامش:
(¹) القيمر: تسمية عراقية للقشطة المستخرجة من حليب الجاموس.
(²) العشّار: ضاحية وسط البصرة.
(³)المعلّم: إشارة إلى الشاعر بدر شاكر السياب في وصفه (عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر).