علي السوداني
هذا صوت هبّ عليَّ ، نابعاً من زقاق عمره أزيد من أربعين سنة . ليلة ساكنة موحشة أُخرى تلتظم بمسبحة الليالي السبخاوات . لا تدوخوا كثيراً بهوية الصوت القادم من بعيد . كلبان يتكالبان في هدأة ليل مقمر ، واحدهما ينبح ، فيردّ عليه الثاني بنبحة مموسقة مدوزنة منوّطة راقصة على نفس حروف السلّم الموسيقي . هي مقطوعة نباح مدهشة ، أظنها من نوادر ربة عمّون ، إذ الكلاب هنا ، غير سائبة ، وجلّها يتربى في بيوت ، ويزور الحكيم ، ويأخذ نزهة صحبة أحد أفراد العائلة ، معقودة بربطة عنق جميلة ، معمولة من جلد حزام ، أو من سلسلة رحيمة أنيقة . أنا أحبّ صوت الكلب ، قدر حبّي لصوت الديك ، قبل أذان الفجر ، وعند عتبة تنّور خبز حار . ألنباح هو ألذي يخلب حواسّي ويطيّر عقلي ، وليس العواء الذي ينام على خرخشة ومعمعة صوتية مزعجة ، وجمل موسيقية ناغزة ناتئة تؤذي الأُذن . صوت كلب الليلة إذن ، هو من منزلة الأصوات التي تترك كدماتها العذرية فوق قلبي . بحّة لذيذة عذبة ، مثل سخونة ماء في حمّام ، أرضه صبّة خرسانة ، تطقطق تحتها محتطبات يابسة ، ومع كل طاسة ماء مطشوشة ، ينهض بخار العوافي ، فينجلي الظهر ، وتتطهّر الخياشم . أعود صوب الزقاق الذي جئت عليه في مفتتح الحكي ، وشكّل أول متراكمات الوعي المكتسب . حارة شعبية بائسة ، تتلوى في أزقتها التعبانة ، سواق من أمواه آسنة ، إن طفرت منه قطرة ، وحطّت فوق قميصك الأبيض ، فقد رافقتك حتى يوم عرسك . هناك ، تأثثت مناظر الطفولة ، وإندفنت صحبة سكراب الذاكرة . صور وواقعات وألعاب ممكنة ومتاحة ، وأيضاً ، أصوات ليل ، أشهرها ، نباح الكلب ، وصفّارة الحارس . ثمة في حارتي القديمة ، كلبان معروفان ، لا أراكم الله خوفاً ، من صنف الخوف المنولد عن منظر قعدتهما المهيبة ، أو عراكهما الدامي المرير ، ضد كلاب وكلبات الشارع المجاور . كلب أسود ، إسمه بوبي ، والثاني لونه خلطة من البرتقالي والبنّي ، مع بقعة واضحة بيضاء تجمّل بطنه ، كأنها وحمة شتاء . كان إسم هذا الكلب ، لاسي ، وحتى هذه اللحيظة العقلية النامية ، لم أصل إلى سبب معقول ، جعل عائلة حجي ناصر الفقيرة ، تطلق على كلبيها هذه التسمية الإفرنجية الفخمة ، في الزمن الذي كان بمقدورهم وتحت يمينهم ، تسمية الكلب الأول ، صلبوخ ، والثاني حلبوص ، إمعاناً في الصدقية والتضليل والتنغيم . في إكتشاف متأخر جداً – ياه … كم كبرنا – حزرت أن سبب تسمية هذين الكلبين الشريرين ، بهكذا مسمى ، ربما كان متأتياً من أن الإبن الأكبر للعائلة ، ألخياط ، حسين الخنافس الوسيم أبو زلوف طويلة ، كان من عشاق السينما الأمريكية ، وسنواتها الضاجة بالأحصنة والكاوبوي والإسطبل والروث ، والكلاب الحارسة ، التي من مشهوراتها ، الكلب إبن الكلب ، لاسي ، وهذا أدركتهُ وشفتهُ ، نابحاً صاحياً حارساً وفياً شجاعاً شريفاً ، في شريط قوي ، إنعرض من على شاشة سينما الخيّام بشارع الخيّام ببغداد العباسية ، إذا الربّ لم يكذّب فطنتي هذه . ألبلاد تشتعل وتتقلّى ، وتلبط فوق كفّ عفريت وإصبع وحدة عفريتة ، وأنت بطِر ، خبل ، يكتب سيرة كلب دائح . هل هذا عدل ؟ ليش بابا علّوكي ليش ؟
عمّان حتى الآن