أحمد عبد الحسين
المثقفون العراقيون مجاهدون بحقّ، أبطال. وكلّ النعوت التي حازتها قوى المقاومة في كلّ عصر تصلح أن تكون نعوتاً لمثقفي العراق، لمفكريه وشعرائه وروائييه وفنانيه وصحفييه. هم المقاومون الحقيقيون، وإليكم السبب
:
أمسِ أعلنت منظمة “ميرسير” عن قائمتها السنوية بأفضل المدن في العالم وأسوأها، القائمة ضمتْ 230 مدينة، كانت فيينا في المقدمة للسنة الثالثة على التوالي تلتها تورنتو الكندية. معايير هذه المنظمة لاختيار أفضل المدن حددتها صلاحيتها للعيش، خدماتها، سهولة الاتصالات والمواصلات، الأمن والنظافة والنشاطات الفنية والثقافية والرياضية، باختصار كلّ ما ينفع الناس في معيشهم.
المؤسي في الخبر أن بغداد ـ للسنة التاسعة على التوالي ـ احتلتْ المركز الأخير في هذه القائمة، أي انها أسوأ مكان للعيش في العالم، أسوأ من مقديشو وجيبوتي ومن كابول، أسوأ من مدنٍ لم يبقَ فيها ـ بسبب الحرب ـ سوى أطلال، أسوأ من مدن لم تزل تدور فيها حروب أهلية حقيقية لكنها ـ مع ذلك ـ فيها من الخدمات أكثر مما في بغداد.
كلّ هذا الأسى والألم، ومطلوب منا أن نصمت، لأنّ “ظرفنا الأمنيّ” الذي طال أمده لا يسمح لنا بتنظيف بغداد من قذارتها المتراكمة منذ زمن الطاغية، ولا يسمح لنا بالكلام عن افتقار بغداد لأدنى شروط عيش سويّ، كلّ هذه الأموال التي تُصرف سدى ينقصها تخطيط سليم وضمير نظيف لترتفع بغداد في سلّم هذه القائمة لتحتلّ على الأقلّ مرتبة مقديشو التي لها ظرفها الأمنيّ المتردي أكثر من بغداد ففيها حرب فعلية بين الارهابيين من القاعدة وأخواتها، وهي ليست دولة نفطية كحالنا نحن الذين نسمع بأرقام فلكية للأموال التي لا نعرف إلى أين ومتى وكيف تُصرف، وبأي حساب مصرفيّ تستقرّ اخيراً هانئة راضية مرضية.
المثقفون العراقيون أبطال مجاهدون ومقاومون، كلّ ما أُطلق على المقاومين في كلّ زمن من نعوت يصلح أن يطلق على مثقفي العراق، فهم ـ في هذه المدينة التي في أسفل قائمة مدن العالم ـ لا يزالون مصرين على الحياة كما لو انهم في مدينة تصلح للعيش والثقافة، يقرأون ويكتبون ويقيمون النشاطات، ينشرون كتباً ويقيمون أماسي، يتناقشون ويختصمون ويغضب بعضهم على بعض، يجلسون في المقاهي ولا همّ لهم إلا الثقافة، يقيمون معارضَ، يقدمون أعمالاً مسرحية وينتجون أفلاماً.
هذه هي المقاومة الحقة، مقاومة الظلام، مقاومة الوسخ الذي يغلف بغداد، ومقاومة الوسخ الذي في الضمائر، مقاومة الوحش الكاسر الذي يريد ـ بيديه ورجليه وأنيابه وبراثنه ـ أن يبقي بغدادنا في أسفل هذه القائمة المخزية.
هذه حال بغداد، التي هي عاصمة العراق، حال المدن العراقية الأخرى ـ التي لم تدخل القائمة طبعاً ـ أسوأ بالتأكيد، ومع ذلك فيها أناس يتشبثون ـ ببطولة فائقة ـ برمق أخير يذكّر بالحياة التي كدنا ننساها، مثقفو المحافظات يستحقون تبجيلاً مضاعفاً.
أنتم يا مثقفي العراق، المقاومون المجاهدون الذين ستزيلون جيوش الجهل والأمية والقذارة وكراهية الحياة والغبار المتراكم على الضمائر، وهي جيوش أقسى وأمرّ علينا من جيوش حقيقية بدبابات ومدرعات وأسلحة ثقيلة وخفيفة.