تحتوي السردية السياسية العراقية المعاصرة على الكثير من الحيثيات والوقائع الخاطئة أو المقروءة بشكل خاطئ ومُضلِّل، أمرٌ يمكن أنْ يدخل تحت بند “البديهيات الفاسدة” و التي تتصف بكونها شائعة كثيراً بين كافة فئات ومكونات المجتمع العمرية والطبقية والفئوية والقبلية والطائفية، وقد كررها بعض الكتبة والصحافيين ممن لا منهجية لديهم غير “منهجية” الحكواتي في المقهى الشعبي وتصفيط الطرائف والذكريات بعيدا عن أي فحص أو تحليل أو تفكيك نقدي عقلاني وعميق. هذا النوع من الكتاب ساهم، دون أنْ يدري في الغالب، في ترسيخ تلك البديهيات الفاسدة والمعطيات المشبوهة والتي ترك أغلبها آثارا سلبية على الرأي العام العراقي وخصوصا في فترات الأزمات والاستقطاب الطائفي.
إنّ السبب الكامن والظاهر معا خلف هذه الحالة هو أنّ أمثال هؤلاء الكتاب الحكواتيين البسطاء لا يريدون الاعتراف بوجود سردية وطنية عراقية غير طائفية تمثلها حركة وطنية عراقية عمرها من عمر العراق الناهض والمتشكل ببطء ولكن بدأب بعد الثورة الثلاثية في القرن الثامن عشر وبالتحديد سنة 1787 والتي قادها ثلاثة من كبار شيوخ قبائل العراق هم: سليمان الشاوي شيخ قبيلة العبيد، القريبة من بغداد، وحمد آل حمود، شيخ قبيلة الخزاعل في الوسط (قرب الديوانية اليوم)، و ثويني العبد الله، شيخ مشايخ قبائل المنتفك ( الناصرية اليوم )، وقد بذرت تلك الثورة المظلومة و شبه المجهولة البذور الأولى للهوية العراقية الحديثة كما نرى، ولكن الكتاب والباحثين التقليديين يرون كل شيء بعيونهم الطائفية والمذهبية فالعراقيون عندهم ليسوا إلا شيعةً يصارعون سُنةً على الحكم منذ الأزل وإلى الأبد! وثمة دراسة مهمة عن هذه الثورة الثلاثية للكاتب العراقي عبد الأمير الركابي بعنوان ( هل كان العراق موجوداً قبل 1921..وما الدليل؟/ الحياة اللندنية، والبديل العراقي على النت عدد 30 مايس /آيار 2012 )”1″، هذه الدراسة للركابي تأتي معاكسة تماماً و على طول الخط لتلك “النظرية” الساذجة التي روَّج لها بعض زاعمي اللبرالية والقائلة إنّ العراق هو (عبارة عن نوبة جنون استولت على رئيس الوزراء البريطاني تشرشل فقرر جمع ثلاثة حقول نفطية هي الموصل وبغداد والبصرة في بلد واحد اسمه العراق). الغريب أنّ بعض الكتبة العراقيين يكررون هذا الهراء دون أن يتوقفوا عنه ناقدين وفاحصين، رغم أنّ أي طفل بغدادي يعرف أن بغداد ليس فيها بئر نفطي أو مكمن غازي واحد!
نتوقف اليوم عند اثنتين مما سميناهما “بديهيات فاسدة” وهما متقاربتان من حيث المحتوى والسياقات السياسية والاجتماعية: الأولى، هي تلك التي تقول بأن حزب البعث الذي حكم العراق لأربعة عقود تقريبا، وكان له دوره السياسي الموثق منذ تأسيسه في 7 من نيسان 1947 وحتى سقوط نظامه وقرار حظره سنة 2003، هو حزب سُني من حيث التأسيس والقيادة والولاء والتركيبة التنظيمية والأمنية والبرنامج، وهو أيضا، ونتاجاً لهذا السبب، حزب معادٍ للشيعة والتشيع في العراق. والثانية، هي تلك “البديهية الفاسدة” التي تعتبر قيادة الجمهورية العراقية التي جاء بها الانقلاب الجمهوري صباح الرابع عشر من تموز 1958 ممثلة بمجلس السيادة هي قيادة شيعية أو في الأقل محابية ومنحازة للشيعة والتشيع ومعادية بالتالي للسنة وتوجهاتهم القومية العروبية. أما الواقع الفعلي على الأرض، و لغة الإحصائيات الموثقة فيقولان لنا إنّ الحقيقة عكس ذلك تماما، فالبعث كان شيعيا من حيث التأسيس والقيادة و كانت نسبة الشيعة في قيادة الانقلاب العسكري الذي أوصله الى السلطة في 8 شباط 1963 هي الثلثان، أما أعضاء مجلس القادة في جمهورية قاسم “الشيعية”، وكان بمثابة مجلس قيادة الثورة، وهو يختلف عن مجلس السيادة، فكانوا تسعتهم من المسلمين السنة، أي بنسبة 100%، وكنت قد سجلت تحفظي على الإحصائية التي أوردها حنا بطاطو على ص 122 من الكتاب الثاني من ثلاثتيه عن العراق، والتي اعتبر فيها اللواء الركن نجيب الربيعي ، عضو هذا المجلس ورئيس المجلس الآخر للسيادة، من المسلمين السُنة واعتقدت أن بطاطو كان على خطأ هنا، فمعلوماتي تقول إن نجيب الربيعي هو حفيد شيخ قبيلة ربيعة وهي شيعية، ولكن تبين لي لاحقا أنه مسلم سُني فعلا، فلم يؤثر ذلك على الاستنتاجات والخطوط العامة لدراستي للموضوع والتي لا تعطي للعامل الطائفي دوراً رئيسياً أو كبيراً في تشكل السردية الوطنية العراقية و ماهيتها الاجتماعية التاريخية وآليات اشتغالها؛ بل ربما كان للعامل القبلي في مرحلة “مجتمع اللادولة المشاعي المسلح” في العراق ( أو اقتصاد الديرة المشاعي كما سماه بطاطو) دور أكبر وأهم من ذلك بكثير.
أما في لجنة قيادة تنظيم الضباط الأحرار، فيخبرنا حسن العلوي في كتابه الذي سنتوقف عنده بعد قليل “الشيعة والدولة القومية”، بوجود ضابطين شيعيين فقط، هما ناجي طالب ومحسن الحبيب، وقد تمردا على قاسم “المتهم بمحاباة التشيع” وانشقا عليه تأييدا لعبد السلام عارف “السني”، وبقي معه – مع قاسم – الضباط السنة فقط! الواقع فإن هاتين “البديهيتين الفاسدتين” لا تنتشران بين الأوساط الطائفية الشيعية أو السنية التقليدية فقط بل نجد بعض الكتاب والباحثين والسياسيين الذين يعتبرون أنفسهم غير طائفيين بل وعلمانيين وطنيين يكررونهما في كتاباتهم ومقالاتهم وأحاديثهم.
في كتابه “الشيعة والدولة القومية”، يعتمد الكاتب حسن العلوي غالباً، إنْ لم نقل دائماً، في استقرائه لتفاصيل ما يدعوه “تمذهب الدولة القومية” ومفردات التمييز الطائفي، الذي تعاني منه الطائفة الشيعية من وجهة نظره، ولإثبات أنها تشكل الأكثرية السكانية، يعتمد كثيراً على الإحصائيات والمقارنات الرقمية.
لقد اعتُبِرَ حسن العلوي من قبل الكثيرين ولفترة ليست بالقصيرة بمثابة المستشار المقرب من الرئيس السابق صدام حسين، وقد ساعد هو شخصيا – العلوي – على نشر وترويج هذه الفكرة حتى جاء من يفندها بقوة : فقد كتب الإعلامي والكاتب العراقي عبد اللطيف السعدون في تعقيب له على صفحة كاتب هذه السطور بخصوص حسن العلوي ما يأتي (أريد أنْ أصحح معلومة ترددت في أكثر من مكان وهي أن النائب حسن العلوي كان مستشارا للرئيس الراحل صدام حسين والحقيقة أنه لم يكن كذلك في يوم من الأيام ولكنه نسب لنفسه هذا الموقع و( تَوَنَسَ ) به، وكان دليله الصورة المنشورة له مع صدام عندما رافقه كصحفي في جولته في الأهوار، ومعروف لدي شخصياً، ولدى الكثيرين أيضا، أنّ العلوي كان يكتب في مجلة “ألف باء” حتى أصبح رئيساً لتحريرها، وقد صادف أن طلبت الرئاسة من “دار الجماهير” التي كان يرأس مجلس ادارتها الصحفي الراحل سعد قاسم حمودي ترشيح صحفي لمرافقة صدام (نائب الرئيس آنذاك ) في زيارة الأهوار، وقد رشح حمودي للمهمة العلوي الذي كتب سلسة تحقيقات عن الزيارة في المجلة نالت استحسان نائب الريس الذي أمر له بمكافأة عالية وببطاقتي سفر الى الخارج. وقد استثمر العلوي ذلك كله فيما بعد. ومن جملة ادعاءات العلوي أيضا أنه كان مستشارا للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كما زعم أنه نقل الى أمير الكويت الراحل نية صدام بغزو الكويت قبل حدوثه! وهو أمر لا يمكن تصديقه اذ أن تخطيط صدام لغزو الكويت لم يكن معروفا حتى لكثير من المسؤولين آنذاك !). نكتفي بهذه الشهادة حول شخصية العلوي ودوره السياسي ونشير أيضا إلى أن هناك كتابا يحمل عنوان “دماء على نهر الكرخا” نسبه الأخير في سيرته الذاتية على الموسوعة الحرة “ويكيبيديا” إلى جملة كتبه”2″ وصدر خلال حرب الثمانية أعوام بين العراق وإيران والتي يسميها الإعلام الغربي”حرب الخليج الأولى”باسم “حسن السوداني”، وفي هذا الكتاب الذي سنتوقف عنده في دراسة خاصة ومنفصلة مستقبلا يختط حسن العلوي خطاً مضمونياً مختلفاً جدا، مع تمسكه بذات المنهجية الأسلوبية “الحكواتية”، فهو في هذا الكتاب يهاجم الشيعة والتشيع بقسوة فاقت قسوة أعدائهم وخصومهم الطائفيين التقليديين وحتى السلفيين الوهابيين منهم، فهو يعتبر التشيع برمته مؤامرة يهودية مجوسية أسس لها وقادها عبد الله بن سبأ. أما في كتابه “الشيعة والدولة القومية”، الذي سنتوقف عند هذه الجزئية منه، ففيه يقوم حسن بدور المدافع عن الشيعة والتشيع ضد ما يسميه الدولة القومية المتمذهبة “سنياً” والتي دافع عنها بحرارة عجيبة في كتابه الآخر. يتبع .
علاء اللامي
1-رابط يحيل إلى مقالة الركابي عن الثورة العراقية الثلاثية سنة 1787م
http://www.albadeeliraq.com/article19756.html
2- رابط يحيل إلى السيرة الذاتية لحسن العلوي على الموسوعة الحرة ويكيبيديا:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B3%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%8A