رباح آل جعفر
تخرج أميركا من العراق كما لم تخرج من أيّ مكان آخر .. ولن يذكرها بالشوق أحد غابت أم حضرت ، بل يحتفظ لها العراقيّون في نفوسهم بكثير من صور وذكريات تعبّر عن الشعور بالكراهيّة .
لكن مهندس الفتنة ، والعازف على جميع الأوتار ، والكازانوفي الراقص في كلّ ساحات الرقص ، ونائب الرئيس الأميركي جو بايدن ما يزال يعتقد أن في يديه مقادير البشرية ، وأن في مقدوره أن يفرض على العراقيين وصاياه بجميع أشكالها الأبويّة ، وأن في جيبه تعويذة للحلّ ، أو خرزة زرقاء ، وفي إصبع يده اليمنى خاتم سليمان ، ولديه المزيد من المفاجآت التي تبهرنا بالدهشة !.
ما يزال بايدن يعتقد أن العراق ضيعة من الضياع ، وجزيرة من الجزر ، وولاية تضاف إلى الولايات المتحدة الأميركية .. فهو يكره أن يسمع كلمة ( لا ) في كلّ مرة يجيء إلى بغداد زائراً غير مُرحّب به من العراقيين .. فهذه ( اللا ) العراقيّة تجرح كبرياءه ، وتنتقص من فحولته ، وتتحدّى غرائزه التي تحتاج إلى دراسات من طبيب خبير في التحليل النفسي .
لم يزر بايدن العراق ولا مرّة علناً تحت الشمس الساطعة وفي موعد معلوم ، ولم يدخل ولا مرّة من الأبواب ، فكلّ زياراته سريّة وغامضة ومضطربة وحائرة ومترددة ومتوترة ، وتوحي بالشك والريبة والقلق والخوف ، ولم تكن مناسبة من المناسبات السعيدة ، ولم يكن بايدن أخانا ولا ابن عمّنا ولا من عشيرتنا حتى يتدخّل في جميع أمورنا العائليّة والقبليّة والخصوصيّة !.
لا يستطيع بايدن مهما ادعى من ( عذريّة ) ، وأظهر من ابتسامات ، وقدّم نفسه قدّيس سلام بجناحين من ملائكة أن يلغي الذاكرة العراقية ، وأن يخلع عنه عاهات التقسيم والتجزئة والعدوانيّة ، فهناك ما لا يقلّ عن ألف سنة حتى ننسى .. ولا ننسى ما فعل هذا الرأس المخطط للسياسات الأميركية التدميريّة في العراق من فضاعات فاقت ما عاث بها الجنكيز خانيّون !.
كلما جاءنا بايدن إلى العراق تذكرت صرخة محمود درويش في رائعته “مديح الظل العالي ” ( أمريكا هي الطاعون .. والطاعون أمريكا .. نعسنا فأيقظتنا الطائرات .. نفتح علبة السردين تقصفها المدافع .. نحتمي بستارة الشبّاك ، تهتز البناية ) .. يومها كانت انفجارات النابالم تحرق وجه بيروت ، وتقتل مدنيين لم يرتدوا بدلة عسكرية يواجهون بها الموت، أو يحملوا مسدساً يطلقون منه رصاصة تعبّر عن شعورهم بالقدرة على حمل السلاح .
في البدء كان العراق ، ولم تكن الطائفة ، ولا القومية .. ولم تكن أميركا ، ولا جون بايدن .. ولا كانت عمليات جراحة الأوطان بالمشارط والمقصّات .. وعندما مرّت سنوات الظلام على العراق كان فيها مذبوحاً من الوريد إلى الوريد ، لم يجرؤ أحد على أن يقول : هذا عراق لي ، وهذا عراق لك .. لأن سعفة نخل في أقصى الجنوب ستصفعه في وجهه ، مثلما ستسكته صفصافة في أقصى الغرب من نهر الفرات !.
ومن حقنا اليوم أن نطالب هذا القادم من وراء البحار الباحث عن ضحية يفرغ في رأسها جميع إسقاطاته وعقده النفسية بفدية عن جميع ما ارتكب من آثام !.