علي السوداني
سنعرج الليلة – عزوتي وأسانيد روحي – عروجاَ مبروكاَ على واقعة حفلة توديع الأمريكان من بلاد مابين القهرين . ربما اكتفينا بلقطة واحدة من تلك الصبحية التي لا شبيه لها في المذلة والمهانة وفقدان الهيبة ، الّا لقطة أختها المفزعة التي شاف فيها شعب أمريكا كله ، رئيسه جورج دبليو بوش وهو ينضرب بالقندرة ، في واقعة تأريخية مهولة حدثت في بغداد العباسية المحتلة قبل سنوات ثلاث . ألوجه الذي قدامي الليلة البائرة ، هو وجه بانيتا . أقصد الضابط ليون بانيتا ، وزير دفاع أمريكا الوغدة . كان الجنرال الهرم ، قعيد دكة عالية ممسرحة قائمة في أخير قواعد الغزاة . على يمينه عسكر أمريكان ، وعند شماله عسكر عراقيون ، وفي حوش القاعدة ، جنود أمريكيون محبطون ، وجنديات أمريكيات مكدرات عابسات مصفرات ، كأن واحدتهن ، عائدة من قضية ” حرشة وفض بكارة عزيزة ” . جمع قليل من جنده وجندياته السبايا ، ينزلون علم النجوم الكثيرة . العلم يهبط الى القاع ببطء مزعج ، وبانيتا يرقب المشهد الساقط نحو الأرض . لم أر في حياتي وجهاَ يرسم الحقيقة ، كما هو الآن وجه الجنرال بانيتا . أربعة من أصابع شماله ، تحكّ قفا رسغه ، ورجفة مباغتة تندلع من مكمن تحت عينه اليمنى ، ولمعان سائل لاصف – لم أتيقن منه بقوة – يسيح من منخره السالك . كانت ذروة المنظر ، هي في اللحيظة التي تلقّف فيها الجند الأمريكان ، علم بلادهم ، فلملموه وطووه وصففوه ، حتى اذا انخمد وانهمد ونام في صندوق الذكرى ، أرتفع من نفس الدكة ، علم بلادي الممكنة حتى الآن . في هذه الذروة التي تشبه تنويمة أمّ رافدينية بديعة ، صار وجه الجنرال المكسور ، بانيتا ابن ام بانيتا ، مثل وجه امرأة حائض وفقيرة وسمينة وحلوة ، رأيتها مرة تفترش رصيفاَ معلناَ من رصائف علوة سمك علاوي الحلة ، التي يصلها بعض القوم الباطرين ، بوساطة حنطور الحب المجيد – ثمة سينما زبيدة كما أذكر – . ألمرأة الحلوة القاعدة ” ركبة ونص ” خلف طشت السمك ، كانت توزع الأبتسامات المريحة على زبائن العصر ، حيث سيصير سعر السمك قبل انطفاء الشمس ، بسعر التراب . ألمرأة الطيبة التي يستعير الوزير بانيتا اليوم وجهها بقوة ، كانت لا تبخل على السامعين الشارين الذين في جيوبهم علة ، بتنويمة العصر التي يضوع منها ، نفح السمك المسكوف ” يا لقمة الشبّوط أول طلعته من الشط ” حتى تأتيها ابنة حلال دلوعة مغناج ، تحب بعلها ، وبعلها يموت عليها ، وهي تموت على أمه ، فتشيل طشت السمك الجليل ، وتفرغه في كونية خيش ام قلم الأحمر ، وتدس سعره بيمين المبروكة ، دنانير رضا وحلال لا تبور . ثمة مشكلة عظمى في شكل الجنرال بانيتا ابن أبي بانيتا ، فوجهه لم يكن مستلاَ من باب الوجه الأمريكاني المتعجرف الشايل خشمه جبلاَ فوق البشر . عندما رأيته أول مرة ، ظننته ، صاحب كشك صمّون ، منزرعاَ بباب المكسيك العليا ، أو مالك بانزينخانة مرتفعة على تدويرة صحراء ، مرّ به ليلة ، الثنائي الجميل ، ترانس هيل وبود سبنسر ، وطلبا منه وقوداَ ببلاش ، فحرن وعاند ، فقام الكاوبويان ، بسحله على جهة قفاه ، ثم أوقفاه على قائمتيه ، وترسا خزان وقود مركوبتهما الرخيصة ، بالبانزين وبالضحك ، وبكوشر طلقات غير مستردة . شكراَ عملاقة ، للمقاومة العراقية الشريفة الشجاعة التي كنست الغزاة ، بالبارود أولاَ ، وأيضاَ ، بالقنادر وبالبصقات ، وبالأغنيات ، وبشريف الحرف المبين . أللعنة على الغزاة ، وبنادق الأيجار التي حولت العراق الى فرجة مجانية ومناحة متصلة . أللعنة عليهم ، حتى يرعووا ويعودوا الى بقيا آدميتهم ، فيفتحوا باب الأعتذار المعلن ، ودفع ثمن كل قطرة دم عراقية طاهرة ، فأن لم يصنعوا ، فلا حق لهم – الحرامية السماسرة – بذرة واحدة من طعم الكيكة الرافدينية المزينة بالنفط الثمين ، أو بالسلاح حتى ، أو بالشعر وبالفن الجميل .
عمّان حتى الآن