يحيى نوح مجذاب
أنعشته الشمس اليوم، فوقفة بضع ساعات على أقدام شبه عارية لا تكلّف كثيراً لمن خَبر شَظَف العيش، وعندما يقدح نور الإرادة في وجدان الكائن الحي ويسبر أغوار المجهول مستصرخاً مشيئة الأقدار من أجل ديمومة الحياة بصورها المتلاحقة يستوطن الرِضا في صدور القانعين.
أصواتُ المكائن وحركة العمال ورجال يتسابقون من أجل سدِّ الرَمَق، وغيرهم ينامون متوسِّدين أذرع خليلاتهم وقد غرقوا بفجور المال الذي يهطل عليهم كالمطر في دنيا المقامرة ولعبة السلطة والسياسة والجاه والنفوذ، وهم لا يُكلِّفون أنفسهم عناء إحصاء ثرواتهم المُكدّسة التي تجاوزت حدود ذقونهم. عالمٌ يربح فيه الغنيّ والثري والمحظوظ والطامع والحسود، ويخسر فيه الفقير الودود الكريم، ذاك الذي لم يغزل ثوبه المُرقَّع إلاّ بخيوطِ الإيثار، وفناء الذات في عالم لا يعرف إلاّ الجحود. معادلة فهم تعقيداتها عالم الغرب فبنى مُنتموه حيواتهم على مبدأ الربح والخسارة بعيداً عن وقْع المُثُل العليا التي نظَّرَ لها أفلاطون في جمهوريته، واستغل تداعياتها أولئك المتصيّدون في الماء العكر من مستوطني العالم الثالث، فتفرَّدوا بالغنائم وأتوا على الأخضر واليابس إن كانوا طغاة كباراً أو صغاراً أو ذيولهم التوابع المُتطفّلين، وبقي الغارقون بالفضائل يطحنهم الزمن دون رأفة وهم في انتظار القصاص الذي وُعدوا به لينزل بالمجرمين وسارقي حَيَواتهم التي لن تعود.
كان يحمل بيده اليسرى رزمة كروت لرصيد الهواتف المحمولة ويراقب عيون المارة ينتظر زبون نفد رصيده، وقد اتخذ من عمود إنارة قديم علاه الصدأ متكأً يستند إليه لِيُريح ظهره المُتعب. كان ينظر إلى أفواج الناس ويُحرِّك كُرَتَي عينيه يميناً وشمالاً، وكلما أحسَّ بالتعب واضطربت رؤيته من استدامة النظر بمستوى الأفق أطرق إلى الأرض ليمنح رأسه الثقيلة بعض الراحة فهي الوسيلة الناجعة لإعادة توازن الجسد الذي أنهكه الوهن.
في وقفته هذه كان لا يرى سوى أحذية المارّة وهي تطرق صفحة الشارع بطقطقات متداخلة؛ كعوب عالية مدببة وأخرى مفلطحة، جزم، وصنادل، وأحذية خفيفة لا يُسمع حفيفها، وأخرى جلدية ثقيلة تدُقّ صفحة القير وتمخر صواوين الآذان. ثم صرير عربات الحمل الصغيرة وزعيق الباعة يملأ المكان. بصرُه لم يعد يرى سوى الأقدام التي تنهب الأرض، وشريط ذكرياته يمر من أمامه برتابة، ولو لم يلكُزه رجل مارّ بكوعِه المدبَّبة في خاصرته كان ينوي ابتياع كارت لما استفاق من غفوته. وعندما فتح عينيه رأى على بعد خطوات شيئاً يلمع حسبه للوهلة الأولى حُلِيّ امرأة من ذهبٍ أو حجرٍ كريم، ورغم حاجته للمال إلاّ أنه لا يؤمن باللُّقيات أو بطاقات اليانصيب، فما يكسبه في عمله اليومي لا يتأتى إلاّ من عَرَق جبينه. تردّد قبل أن يخطو الخطوة الأولى ليستطلع الأمر، ثم من بين أرجل السابلة المندفعة ذهاباً وإياباً مدّ يده وقد لامست أصابعه عن غير قصد بعض السيقان المكشوفة أو المخبأة ببناطيل الجينز والأستراتش، وعندما أحنى ظهره المقوَّسة ومدّ بصره وجد ورقة ألمنيوم لعلبة سكائر كانت تعكس الضوء إلى عينيه، وبجانبها ورقة نقدية من فئة مئة دولار، التقطها وقد تملكته الحيرة، فهو لا يدري ماذا يفعل بها، إنها تُغنيه عن عمله لعدة أيام، غير أنه لا يملك الجرأة والقناعة ليتصرف بها وهو يعرف أنها ليست ملكه. كانت الأفكار تعصف برأسه، محاولاً الاهتداء إلى الطريقة التي تُنقذه في التخلص من هذه الورقة، وبينما هو في حيرته وردته فكرة ليست عملية تماماً لكنها تريحه من مأزقه بعض الشيء. وضع الورقة النقدية بيده ليراها السابلة فلعلَّ صاحبها الذي فقدها يعود لنفس المكان باحثاً عنها. الناس كانوا ينظرون اليه باستغراب دون أن يفقهوا المغزى الذي يرمي اليه من وضع رزم الكروت بيد والورقة النقدية باليد الأخرى، لكنه لم ينتظر طويلاً وجاءه الحل المباغت بلمح البصر فقد مَرَق من جانبه شبح صبيّ لم يميّز ملامحه جيداً، لكن جُلّ ما تذكره هو ان الورقة التي كان قابضاً عليها بأصابعه لم تعد بيده بعد الآن لقد اختفت بسرعة عجيبة وانطلقت مع سيقان هذا الفتى الذي كان يسابق الريح.