انه يتحرك .. فهو موجود!!
قصة فلسفية بقلم: نبيل عودة
استاذ الفلسفة يطرح سؤال للتفكير:
- هل ماهية الأشياء تسبق وجودها ام وجودها يسبق ماهيتها؟ ما هو الصحيح حسب تفكيركم؟ لم اسمع جوابكم ولا أرى ارتفاع أي اصبع .
ساد صمت عميق، أستاذ الفلسفة يجول بعينية السوداوين على وجوهنا، كأنه اداة فحص لمدى حضورنا في درس الفلسفة، بعد ان قضينا أسبوعا من الأعياد والعطل.
– تعالوا نعيش أجواء الدرس الفلسفي؟ ما هو معنى الحياة؟ هل توجد مصداقية تجعلنا نبحث وراء حقيقة ما، بينما نحن نعرف، وهذا واضح للجميع ، ان الحقيقة المطلقة غير موجودة ?
يواصل أستاذ الفلسفة بسخرية:
- يبدو جليا ان وزنكم ازداد في الاسبوع الماضي، كنت آمل ان يزداد وزن تفكيركم.
بعد برهة، تأمل فيه طلابه بصمت، تابع يقول وكأنه يواصل حديثا انقطع:
- الفيلسوف الدانماركي سيرن كيركغور واجه في حياته مآس عديدة ودخل في حالة يأس. كان متدينا، طرح تساؤلات عن منطق الحياة في واقع شديد الذاتية. يعتبر في تاريخ الفلسفة من مؤسسي الفلسفة الوجودية، هل سمعتم عنها؟ هل تعرفون اسماء أشهر فلاسفتها؟ اليوم سنبدأ الحديث عن الوجودية وعن بعض فلاسفتها. هل انتم على استعداد ذهني كامل اليوم؟
صمت لحظة ينتظر جوابا، ارتفع أصبع طالب يجلس في وسط القاعة:
– هات ما عندك
– أظن ان الكاتب الفرنسي سارتر هو ابو الوجودية؟
– سارتر كان وجوديا ومؤسس مدرسة في الوجودية، في الفلسفة الوجودية انتشرت مدارس عدة متناقضة، نجد التيار الملحد وأبرز ممثليه سارتر وتيار ديني وابرز ممثليه مؤسس الفلسفة الوجودية كيركغور الذي ذكرناه في البداية …
اضاف استاذ الفلسفة بعد توقف قصير:
– من لديه سؤال آخر ؟
ساد الصمت جميع الطلاب. بان الضيق على وجه استاذ الفلسفة وأضاف:
– الصمت في الفلسفة غير مستحب .. انتم طلاب ارقى المواضيع الذهنية، اتوقع منكم معلومات أكثر من مجرد معلومات عامة حول المواضيع التي نطرحها .. لا يمكن تعليم الفلسفة لطلاب لا يلتهمون كتب الفكر في المكتبات، خاصة وان برنامجكم الدراسي واضح. أنتم لستم طلاب اول ابتدائي .. حتى من طلاب الثانويات يطلب معرفة مسبقة عامة …هل من قيمة للإنسان بدون معرفة واطلاع بلا حدود؟ إذا لم يكن دافع المعرفة من داخلكم فلن تتقدموا في العلوم وفي الفلسفة!!
كان الصمت ثقيلا وكئيبا، شعور الخجل من توبيخ المحاضر زاد من ارباك الطلاب.
– حسنا.. سنتابع وآمل ان تجيئوا الى الدرس القادم بمعلومات كافية لندخل في تفاصيل هامة ورائعة. لا شيء اروع من الفلسفة، حتى لو لم نقبل طروحات فلسفية لبعض الفلاسفة، الا ان دراستها تثري عقلنا ومعرفتنا، يبقى اعتماد العقل هو المميز لموضوع الفلسفة، أي كان اتجاهها، حوارنا للطروحات هو تطوير للوعي وتطوير للعقل وتطوير لمفاهيمنا الحياتية بكل تفاصيلها، الأهم ان الفلسفة هي تطوير لإنسانيتنا وقيمتنا كبني بشر مميزون عن سائر المخلوقات بأننا نستعمل عقلنا ولا نتحرك بغرائزنا وعصبيتنا القبلية.
كانت طالبة ترفع اصبعها بشيء من الحياء، حتى انها تبدو مترددة بين ان تنزل اصبعها او تطلب حق الكلام، لمحها المحاضر في اللحظة التي كادت تيأس من الاستجابة لطلبها وتتنازل عن قول ما لديها:
– جمانة .. آسف، لم انتبه لك، اطلبي حق الكلام بقوة، نحن لسنا في معبد، تفضلي ..
– هل تعني الوجودية ان لكل شخص وجودا محددا؟
– بدأنا في الفلسفة من نقطة رائعة مع جمانة. أجل يا جمانة اين قرأتي هذا القول؟
– سمعت طرفة ، ولكني أجد صعوبة في قصها؟
– انت في درس الفلسفة ولا نقبل أي عذر.. نريد سماعك
ترددت جمانة بحياء ما، تلفتت حولها كأنها تطلب النجدة، ثم حزمت أمرها وبدأت تتحدث بشيء من الصعوبة:
– كان … رجلا .. في السرير مع زوجة صديقه، سمعوا سيارة الزوج. قفز الصديق عاريا واختبأ في خزانة الملابس. دخل الزوج الى البيت قلع جاكيتته وفتح خزانة الملابس ليعلقها .. فاذا صديقه عاريا في داخلها. سأله مستهجنا:
– ماذا تفعل هنا يا صاحبي ؟
اجابه:
– كما ترى يا صديقي ، حسب الفلسفة الوجودية لكل شخص يجب ان يكون وجود في مكان ما!! ”
بعد ان خفت ضحك الطلاب قال المحاضر حتى دون أن يبتسم:
– السؤال الفلسفي هنا بسيط ، كيف نفسر للزوج ان صديقه من بين كل الناس هو في حالة “وجودية” معينة داخل خزانة ملابسه .اما الصديق فله تساؤل وجودي آخر: لماذا شخص ما (أي الزوج) يوجد في مكان ما بدل ان لا يكون في أي مكان آخر؟ فقط الفيلسوف الألماني هيغل يستطيع الإجابة على تساؤل معقد ومركب مثل هذا. لأنه كان يعتقد انه قفز خارج التاريخ، وهو ينظر من فوق الى ما يجري، وبالنسبة له كل شيء من فوق يبدو سليما مكتملا. وانا لست هيغل. بينما الماني آخر هو نيتشه كان أكثر مبالغة، كان يظن انه يرى التاريخ من وجهة نظر الاهية. أي وضع نفسه بمرتبة الإله وقد تقمص هتلر فلسفته … ورأينا الكوارث التي حلت بالبشرية نتيجة وهم الألوهية الذي سيطر على هتلر!!
أضاف استاذ الفلسفة:
– اذن ارى انكم دخلتم في الجو .. هل فهمتم الآن أهمية معرفة مسبقة لمضامين ما سندرسه؟ الدرس يصبح ممتعا لكم ولي، أصعب المسائل يمكن تفسيرها بطرفة مناسبة .. هذه من أهم خواص الفلسفة ..
– ارى اصبعا جديدا مرتفعا ، تفضل يا طلال
– تعلمنا ان الفلاسفة من فلسفة معينة ، يحملون نفس الأفكار ونفس المعتقدات، لكنك ذكرت ان مؤسس الوجودية الدانيماركي كان متدينا، نحن نعرف ان سارتر كان ملحدا بل وقريبا من الماركسية المعروفة بفكرها الالحادي أيضا ، كيف يتلاءم سارتر الملحد مع كيريغور المؤمن ؟
– رائع ، لماذا حافظت على صمتك حتى الآن ؟ هذا سؤال هام ، سنوضحه في الحديث عن الوجودية وتعدد وجوهها . ولكن الآن أقول ان الخلاف ليس حول الشكل القائم، انما حول صيرورته. مثلا هل ماهية الأشياء تسبق وجودها، ام وجودها يسبق ماهيتها؟ الانقسام في الاجابة يعني وجود اتجاهان رئيسيان، الأول مثالي يرى ان تجسم الماهية تسبق الوجود، والثاني مادي، يرى ان الوجود يسبق الماهية. بمعنى آخر كيف يمكن فهم ماهية الشيء قبل ان نعرف التفاصيل التي تجسم وجوده؟ هيغل كان يرى الماهية تتمثل بالفكرة المطلقة .. الإله بمعنى مبسط. ماركس ناقضه ورأى بالوجود المادي سابقا لأي ماهية او فكرة مطلقة ..
قاطعته مرام:
– نيتشة له قول مشهور يقول فيه بأنه اذا كان لديك ما تعيش لأجله تستطيع تحمل كل شيء!!
– اسمعيني جيدا يا مرام ، هذا القول يفسر بدقة مضمون الفلسفة الوجودية ، فهي فلسفة واجهت في طروحاتها المشاكل العينية للوجود البشري من جميع اوجهه بغض النظر عن فهم فلاسفتها واتجاهاتهم المتناقضة لما هو السابق، الماهية ام الوجود المادي. الخلاف قائم في الفلسفة ولا نهاية له بين الوجوديين المتدينين والوجوديين الملحدين. بين التيارات الالحادية ونقيضها التيارات المؤمنة، تكاد تكون الوجودية من أهم الفلسفات التي ظهرت بعد الماركسية، الفيلسوف الفرنسي سارتر حاول الدمج بين الفلسفتين، الوجودية والماركسية، خاصة وان منطلقات سارتر الحادية في جوهرها مثل منطلقات ماركس وفهمه قريب جدا من فهم التاريخ الماركسي وفهم العوامل الاجتماعية كما طرحتها الماركسية. أكثر فلاسفة الوجودية قرروا ان “الجنائني الساحر” قد مات. والقصد ان الله مات، لذلك، حسب فلسفتهم، أصبحت هذه مهمة البشر “تربية الزهور ورعاية الحدائق” بدل الجنائني الذي مات. طبعا هذا رمز يعني ان الانسان يجب ان يتحكم بحياته وليس ان يكون تابعا لفكرة غيبية، فكرة مطلقة، فكرة الهية. نحن لسنا الآن في تقرير ما هو الصحيح. نحن ندرس الفلسفة بكل مركباتها، عقلنا يقرر ما هو المنطق الموافق لتفكير كل واحد منا، هذا لا يعني ان خياراتكم ستكون متشابهة .. وقالوا أيضا انه بين الزهور تنشا أشجار الصبار الشائكة، التي تعيق حياتنا وهنا نتساءل: هل نواصل الحياة حتى مع الأشواك؟ او نعيش في صحراء قاحلة خالية من الأشواك ومن النبات؟
اذن الحياة حسب تصورهم ليست أمرا ميسرا وسهلا، انما صراع من أجل الأفضل. الجمال لا يوجد بدون نقائض، الحب لا يوجد بدون كراهية، الوجودية طرحت أمرا هاما ما زال يشغل الفلاسفة والمفكرين، هل سقطت الأيديولوجيات بعد الحرب العالمية الثانية التي أظهرت وحشية الانسان وابتعاده عن كل الفلسفات الانسانية وحتى عن الفكر الديني الذي يدعو الى التسامح؟ ألقيت قنبلة نووية مدمرة على هيروشيما وأخرى على نيغازاكي قتل وشوه مئات الألاف في المدينتين؟! بل وبعضهم قال ان الوجودية أيضا سقطت!!
سارتر برز في دفاعه عن الوجودية ومدها بحياة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، مفسرا شكل العلاقة المطلوبة بين الفرد والمجتمع، مفهوم الحرية بعد الحرب الرهيبة وامتلاك السلاح النووي ذو الطاقة التدميرية الرهيبة. وقف سارتر مع ثورة الجزائر من منطلقاته الفلسفية الرافضة لاغتصاب حقوق الآخرين وحريتهم، وايد حقوق الشعب الفلسطيني من نفس المنطلق. هذه الفلسفة تراجعت مكانتها بعد وفاة سارتر.
ارتفع صوت جمانة:
– لدي حكاية ربما ذكرها الفيلسوف هايدر في تفسيره لمفهوم الوجودية، هل أرويها ام أتركها للدرس القادم؟
– الحكايات تخفف من الضغط الفكري .. حدثينا بما لديك يا جمانة
– سأل شخص صديقه: ما هي الكآبة؟ انت حتى الآن لم تعش لتعرف الكآبة، عندما اقول اني عشت فأنا اقصد الحياة مع التفكير الدائم عن الموت، وقال ان الوجود البشري هو التحضير من أجل الموت، وقال ان الحياة بظل الموت تجعل الفرد شجاعا أكثر.
أضافت جمانة: اجابه صديقه اسمع هذه القصة يا صديقي لتفهم معادلتي: قتل ثلاثة أصدقاء بحادث طرق. قال لهم ملاك الموت: سأُلبي لكم آخر أُمنية، ماذا تريدون ان يقولوا عنكم محبيكم وأصحابكم قبل الدفن؟
قال الأول: ليقولوا انه كان معلما بارعا وموته خسارة للعلم
قال الثاني: ليقولوا انه كان كريم الأخلاق محبا لمساعدة الغير وسوف يفتقده مجتمعنا
قال الثالث: ليقولوا .. توقفوا لا تدفنوه .. انه يتحرك!!
اضافت جمانة:
– هذه هي الوجودية ، كما فسرها هايدر . انه يتحرك، فهو موجود بين الأحياء.
وصفق المحاضر استحسانا.