التردد من الصفات التي تزيد من احتماليات الفشل، وتهيئة البيئة التي يسهل فيها للمتربصين بلوغ أهدافهم. فهي حالة نفسية شبه مفقودة عند الناجحين في الحياة، نادرة ظهورها عند قادة الدول المتفوقة، وشبه معدومة لدى العظماء، كثيرا ما يصيب بها حتى القوى الكبرى في العالم، فمعظم الدراسات التاريخية تبين أنه أحد أسباب انهيار الإمبراطوريات أو تخلف الدول، وظهور الضبابية في إستراتيجياتها، وتهدم القناعة في نجاحاتها. فتفاقم التردد في اتخاذ القرارات، تجعلها عرضة للتهجم والانتقادات من كل الأطراف، وهو ما يؤدي إلى تراجع ثقة الشعوب قبل الحلفاء بها وبمواقفها.
الحالة تظهر وتتوسع إما على خلفية الضعف وعدم القناعة بالإمكانيات المتوفرة، أو تفضيل معادلة المصالح الآنية، أي الربح والخسارة على الإستراتيجيات، وانتقالها من منطق إنقاذ المجتمعات والشعوب إلى الحرص على الذات، وتأمين الأرباح المستقبلية. أو بسبب الخسارات المتتالية في جغرافيات، كما حصلت لأمريكا في أفغانستان، والتي أنهكتها النزيف المادي الطويل الأمد، إن كانت في الأبعاد السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. وفي واقع الحالتين الأخيرتين اللتين تمر بهما أمريكا حالياً، بإمكان الحراك الكوردستاني الاستفادة منهما فيما لو عرفت كيف تستغلهما وتسخرهما لصالح مستقبلها. ففي الأولى مصالح أمريكا حتى اللحظة تتقاطع مع مصالح الإدارتين، وفي الحالة التالية لم تخسر القوات الأمريكية بتحالفها مع قوات البيشمركة أو ال ي ب ك أو قسد في حروبها على الإرهاب، وبالتالي البيئة السياسية مهيئة لتعمل الإدارتين على إقناع أمريكا بعدم التذبذب أو التردد في علاقاتها معهما، ونقلها إلى السويات الاستراتيجية.
فمن الملاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية، تعيش حالة التردد منذ نهايات إدارة جورج بوش الأبن، بعد إسقاطه لنظام صدام حسين، وعدم القدرة على بناء العراق المأمول اقتصاديا وسياسيا، توضحت هذه الجدلية في الدورة الثانية لعهد إدارة أوباما، خاصة في استراتيجيتها الشرق الأوسطية. وموقفها من الانتهاكات الإيرانية في المنطقة، ومن التمادي التركي على المصالح الأمريكية، تحت منطق الإستراتيجية المرنة، أو حل القضايا بالحوارات، ومحاولة عدم تكرار تجربة العراق، تؤكد ما نحن بصدده.
وفي إدارتي البيت الأبيض الأخيرتين؛ تعمقت الإستراتيجية المتذبذبة المنوهة إليها، بعد تأكد فشلهما في أفغانستان، وعدم القدرة على إعادة تركيا إلى حضن الناتو كدولة مطيعة، وغيرها من الخسارات في الشرق الأوسط. ترددها كان أفضح في الحلقات الأصغر، كالقضية السورية وجغرافيتها الممزقة، وفي عدة مجالات: كعدم اتخاذ موقف صارم من أطراف الصراع، والتراجع عن العمل في خلق معارضة نزيهة، والتأرجح في الموقف من سلطة بشار الأسد، والأغرب علاقاتها الخجولة مع الإدارتين الكورديتين، والمؤدية إلى تحديد سقف تعاملها على مستوى تعيين ممثلين من الدرجة الرابعة أو أقل، وحصر دعمها لهما، ضمن العلاقات التكتيكية الآنية؛ تحت منطق المصالح الإستراتيجية مع القوى المحتلة لكوردستان، وبالتالي ظل تحالفها محصور منذ بداية دخولها إلى غربي كوردستان وحتى اللحظة، في المجالات الاقتصادية والعسكرية دون رفعها إلى السويات السياسية والدبلوماسية الدولية، حتى ولو كانت للأخيرة أسبابها القانونية.
كانت التناقضات فاضحة؛ بين مواقف إدارات البيت الأبيض من استراتيجيتها مع الكورد، إلى حد السقوط في مستنقع التردد، كقبولها شروط بعض الدول الإقليمية والتي كانت في السابق أدوات لتنفيذ مصالحها، تركيا على سبيل المثال، وفي الواقع الخلافات الأمريكية الداخلية من أحد الأسباب المؤدية إلى عدم الجرأة في هذه المرحلة، من اتخاذ موقف كقوة إمبراطورية، أمام المواجهة المتصاعدة من القوى الإقليمية المحتلة لكوردستان، رغم تعرض مصالحها إلى التلف، وهو ما أدى بها إلى تصنيف تحالفاتها مع الإدارتين الكورديتين في الحروب الكبرى ضد المنظمة الإرهابية العالمية، في خانة تسخيرهم للكورد كأداة مقابل المال كما ذكرها دونالد ترامب، التصريح الذين دفعه إليها أحد مستشاريه، ويقال أنه جيمس جيفري، على خلفية التردد في مواجهة تركيا المتصاعدة، وضبابية استراتيجيتها في المنطقة، الحالة ذاتها أسقطت إدارة بوش الأبن وفيما بعد أوباما في مستنقع الخسارة، بترددهم في اتخاذ موقف صارم من نظام بشار الأسد وأئمة ولاية الفقيه اللذين جندا الألاف من الإرهابيين لمحاربة القوات الأمريكية في العراق، رغم معرفة السي أي أيه التامة لجميع معسكرات ومراكز تدريب الإرهابيين، وطرق دخولهم إلى العراق.
روسيا أكثر وضوحا في علاقاتها، لكن إمكانياتها الاقتصادية والسياسية، أدنى من أن تنتهج إستراتيجية الإمبراطوريات، وبالتالي لا تتمكن من تجميع واحتضان قضايا قوتين متضاربتين أو أكثر، كالبحث في القضية الكوردية مع الاستمرار في علاقاتها مع تركيا وإيران، تبينت هذه في عدم جرأتها على عرض المسألة بمسمياتها على طاولة المباحثات ضمن مؤتمرات سوتشي أو أستانة، أو فرض لجنة خاصة بالحراك الكوردي على لجان كتابة الدستور السوري، والتي ترفضه كل من تركيا والنظام، علما أن القضية الكوردية من ضمن أهم الإشكاليات المتعلقة بقادم سوريا.
كما وهي، حتى اللحظة، لا تستطيع تجاوز مجالات احتضانها لسلطة بشار الأسد، لفتح الحوارات الخاصة مع الإدارة الذاتية، أو التعامل مع الإقليم الفيدرالي الكوردستاني بدون العودة إلى القوى السياسية في بغداد. كما وأن أحد أهم أسباب تخليها عن الملف الكوردي في غرب كوردستان، عام 2015م لأمريكا، عدم قدرتها على احتواء الطرفين، وهو ما كانت تتمكن منه الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن تصاب الإدارات الأخيرة بالخلل في المواقف، والتي يمررونها تحت منطق إتباع المنهجية السلمية للإستراتيجية الأمريكية، وفي الواقع هي بداية لمرحلة التراجع عن مكانتها كإمبراطورية عالمية.
المنطق الذي أخفى باراك أوباما خلفها استراتيجيته المترددة في الشرق الأوسط، والتي توضحت يوم تخلى عن وعده بضرب نظام بشار الأسد فيما إذا استخدم الأسلحة الكيميائية، الموقف المتخاذل ذاك فتح الأبواب للنظام بتكرار استخدام الأسلحة الممنوعة دوليا ضد الشعب السوري. كما وأن تذبذب خلفه في البيت الأبيض (دونالد ترامب) سهل لتركيا بالاتفاق مع روسيا على احتلال عفرين، وسحبه للقوات الأمريكية وإعادتها خلال أقل من أسبوع، تماشيا مع الآراء المتضاربة لمستشاريه، وفي مقدمتهم جيمس جيفري، وجون بولتون، ومايكل فلين، وجيرد كوشنر، سمحت لتركيا بالعبث في غربي كوردستان، وخسارتها لمكانتها في المنطقة لصالح مناوئيها.
تستفيد الحركات التحررية من مثل هذه الإستراتيجيات المتناقضة، ومن حالات إصابة القوى الكبرى بالضعف. فعلتها تركيا الكمالية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. تمكنت وبالجيوش المشتتة من مخلفات إمبراطورية الرجل المريض، الانتصار على الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وتشكيل تركيا الحديثة في المرحلة التي كانت الدولتان لا تزالان تمتلكان من القوة لتنفيذ اتفاقيتهما على تفكيك مخلفات الإمبراطورية العثمانية، فالانتصار الكمالي كشفت عن بدايات مرحلة هبوطهما، ومؤشراتها كان التخاذل والتذبذب في تنفيذ استراتيجيتهما، رافق هذا التراجع؛ صعود الإمبراطوريتين الأمريكية والسوفيتية.
ومقابل التقاعس والتردد البريطاني والفرنسي في تطبيق بنود اتفاقية سايكس بيكو، ومعاهدة سيفر، صعد أتاتورك أثناء المواجهة، من نبرة استخدام لغة الحوارات الدبلوماسية، ومنطق القوة مقابل التردد الذي كان يهيمن على وفود الدول المتحاورة مع الوفد الكمالي، وبالإمكان معرفة هذه من خلال نص البنود وسوية مطالب الطرفين.
الإدارتين الكورديتين، ومعهما أطراف الحراك الكوردستاني، لا يزالان بدون مشروع قومي واضح المعالم بالنسبة للداخل وللقوى الدولية والإقليمية، وهو ما دفع بوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف القول (حتى الأن لا نعرف ماذا يريد الكورد) مثل هذا السؤال الشكي يتكرر أيضاً عند ممثلي أمريكا للمنطقة، وما يزيد من ترددهم وتذبذبهم في عرض القضية الكوردية، هو تذبذب الحراك الكوردي في طروحاته، والناتجة، إما من الصراع والتآكل الداخلي، أو تفضيل المصلحة الحزبية على الوطنية، وهو ما يؤدي إلى غياب الشفافية أثناء الحوارات مع الدول المعنية، والتردد في طرح المشروع القومي على طاولة ممثلي القوتين الأمريكية والروسية، ومواجهة القوى الإقليمية المتعاملة معهما، وفي حواراتهما مع المعارضة، السورية أو العراقية، ومع السلطتين، ونحن هنا لا نتحدث عن اللغة الدبلوماسية والتي بدونها كل الحوارات ستكون مصيرها الفشل، بل عن تجاوز منطق التردد في توضيح المطالب الوطنية، بطرح المشروع القومي، والذي يجب أن يتفق عليه أغلبية الحراك الكوردستاني.