امرأة عربية
كأن للشمس أسواطًا تضرب جبهتي وما ظهر من عنقي، تنساب حبات العرق بين شحمة أذني ورقبتي فأشعر بها تتدحرج باردة أسفل ظهري. ساعة الظهيرة في السوق صيفًا جحيم من نوع خاص. أحمل وزوجتي أكياس الخضار ومستلزمات البيت ونمشي بين المتسوقين الذين تبللت ملابسهم من شدة حر ذلك اليوم، لا يقوى أنفي على احتمال الروائح التي تملأ الأفق، أشعر بألم في يدي من ثقل ما أحمل. أفتح باب السيارة التي تحولت إلى صفيح ساخن فألقي المشتريات في الكرسي الخلفي للسيارة كما تضع ذات الحمل حملها. أقود السيارة بسرعة مبتعدًا، ثم إلى جانب مخبز الحي توقفنا. وقبل أن أنزل لابتاع الخبز، تتقدّم نحوي امرأة في العقد السابع أو أقلّ قليلًا. بيضاء البشرة صافية العينين، ترتدي “الشمبر” الحوراني الأسود وعصابة سوداء تلف بها رأسها، كما ترتدي ثوبًا بنيًا مزمومًا من وسطه وفيه فتحة على شكل مستطيل طويل تمتد إلى النحروتحمل بيدها كيسًا من الخبز كبير، وتمشي منتصبة القامه فيها أنفة وكبرياء عتيق، ألا أن وجهها تسكنه حكايات صبر ووجع وحنين وغربة.
تنحني برأسها صوب شباك السيارة من جهة زوجتي، سلّمت ثم سألت إن كنا ذاهبون في “هذا الاتجاه” وأشارت بيدها إلى الأمام. صوتها فيه تردد ورجاء وقهر لأنفة قابعة في أحشائها، وعزة نفسٍ سكنت خلايا جلدها، أدارت زوجتي برأسها نحوي وبعينيها أومأت إلي كأنها تستاذن. فقلت لها دون تردد سنأخذ “الحاجة” إلى حيث تريد. كررت مرة أخرى لا أريد أن أعطلكم أو أزعجكم، فقط قدموني بضع خطوات للأمام ستخفف عن رأسي هذا الحر. فأعدت ما قلته لها مرة أخرى سأوصلك لباب بيتك يا أمّي… هذا واجبي.
لم تخف لهجتها وثوبها البني أنا مهاجرة قسريًا، ولا شك قد هاجرت بصندوق مليء بالحكايا عن الرصاص فوق الرؤوس والجيران الذين تفرقوا وتيه الأهل والأحبة، الجوع والخوف والدعاء بالسلامة في العرض والنفس. قصص تتكرر ولكن تتغير الأسماء فقط.
ركبت في المقعد الخلفي وراحت تنظر إلى طبق البيض والخضار، واحتبست في جوفها الكلمات، كالسكين العالق في الحلق لو بلعتها أو أخرجتها لا بد أن تترك جروحا وغصة تدومان طويلًا، فيمنعها كبرياؤها. سألتها أين تسكن فوصفت لي المكان، ثمّ سألتها عن من بقي من أهلها في الوطن، فقالت خرجنا كلنا ولا أدري من بقي وراءنا وخنقتها العبرة عندما تحدثت عن ولديها الذان قضيا وتركا لها إرثًا يقصم الظهر، زوجتين وصبية جياع. يسكنان معها في البيت ولا معيل سوى بضع دنانير مغمّسة بذل اللجوء وطوابير المقهورين في كل شهر.
لم تتحدث كثيرًا بل كانت تقول أشياء مقتضبة، لا تريد أن نسيء فهمها، فلم تزد عن بضع كلمات، واللاجيء يفهم “عالطاير”. أشارت لي أن أتوقف إلى جانب بيت تكسرت بعض نوافذه، أتت الشمس على الجدران فبدت باهته، بابه من الحديد الذي بدأ الصدأ ينخر في أسفله، هنا تسكن هذه المرأة. لم تبك ولم تنكسر ألا عندما رأتني أضع يدي في جيبي.
يالمرارة وقسوة الهجرة!!! مهاجروا فلسطين الأوائل ملأت اشواقهم قبور الارض وملأت ذكرياتم القراطيس والكتب والدفاتر ولم يتنفسوا العودة.
الكاتب محمد العداربة