يا عَبلَ حبُّكِ في عِظامي مَعَ دَمي
لمَّا جرت روحي بجسمي قدْ جرَى
لمْ تأخذني ألفة للمكان بعد، صار الدرب شاقّاً وطويلاً من البيت إلى مدرسة “العمارة الابتدائية المختلطة” في حي نواب الضباط جهة بغداد الجديدة جانب الرصافة، بصورة أدّق على أطراف بغداد، أنا الطالبُ الذي جاء منقولاً للصفِّ الثاني الابتدائي من مدرسة “عمار بن ياسر الابتدائية” من البياع جانب الكرخ وسط بغداد إلى هذا المكان الذي بدى غريباً موحشاً. ما من وجه للمقارنة بين الحيين والمنطقتين، وقت كانت بغداد في أبهى حلّتها ودلالها وجمالها، كان ذلك في العام ١٩٨٢، لذا كنتُ -وبقوة- أحتاجُ لسببٍ هائل لاتقبّل فكرة بقائي في المدرسة، ونجاحي وتفوقي الذي تنتظره عائلتي. كنتُ بحاجة لمعجزة أكثر من سبب ما، لم أمكث طويلاً، وأنا أُنقلُ من شعبة (ب) إلى (ج) ومنها وبعد أسبوع إلى شعبة (أ) في تلك الشُعبة، وفي ذلك الصفّ الذي كان مُرتباً بعناية وحنان ودفء، بورق الجدران ملوّن، وأصيص الزهر، الستائر المصنوعة من الدانتيل، العطر الذي كان يفوح.. دخلتُ الصفّ وأنا أراقبُ غرفة العروس الجميلة، ما هي إلا دقائق ليدخل علينا السبب الذي انتظرته، بل المُعجزة التي تضرعتُ طالباً إياها.. يد العناية، وصورة الإله، نفس رحمته، وضياء عطفه، وانسياب انهاره، وجريان أقداره.. خفيفة ظلّ، واسعة الخطو، بالغة الخطر، جليلة الأثر، عالمة مُعلِّمة، واثقة كالحقيقة، دافئة كأمِّ، كزوجةٍ، كعشيقةٍ نادرة. سبقها بالدخول ذاك العطر الذي -وبعد أربعة عقود- مازال بإمكاني تمييزه.. بشعر أشقر قصير، وعينين زرقاوتين واسعتين حادتين قويتين مشعتين لامعتين.. وابتسامة وسعها السماوات والأرض.. شُدهتُ كمن رأى الملاكُ، أو تجلّت أمامه القُدرة السماوية.. هذه أُمي! قلتُ في نفسي، لتكن كذلك: الأمُّ السماويّة.. مرّ العام كلمحٍ بالبصر، مرّ خاطفاً ساحراً جميلاً.. وخرجتُ من الصفّ متفوّقاً على أقراني، حتى جاء العام الثاني الذي انتظرت أن يكون فيه الملاك مرشداً لصفي، عبثاً انتظرتُ، لكنّ (عبلة) وهذا كان اسمها، لم تباشر الدوام بعد.. عرفتُ من أبن أخيها وكان تلميذاً معنا، أن عبلة، الملاك، الربّة الشفيفة، المخلوق الفرد، في فترةِ حِداد، ابتلعت الحربُّ خطيبها!! آه… احترق قلب الربّة الشفيف!! بعد انقضاء نصف السنة، دخل المدرسة شبح امرأة بثياب سود، وعيون متورمة.. الملاكُ الآسرُ، العالمةُ الخطِرة، الآسرة الضاحكة الواثقة، دخلت مثل شراع مخذول، مثل راية مكسورة.. انفطر قلبي الصغير، اِنثَلم بي ما لم أعرفه أو أعثر على قطعته المفقودة.. رافقتنا (عبلة) حتى نهاية دراستنا الابتدائية، لكنها لم تكن هي، ولم تكن شيئاً نعرفه، حتى في هبوطها من مصاف ما كانت عليها، لكنها فشلت أن تكون بشرية مثلنا، حاولت أن تفعل، لكن آثار اجنحة الملاك وريشه المضيء مازال عالقاً في ابتسامتها..
سلاماً لكِ الآن، بعد أربعين عاماً، سلاماً أينما كنتِ، أيها الملاكُ الذي تجلى على هيئة امرأة اسمها (عبلة).
ميثم عبدالجبار