كريم كطافة
حقيقة فشل اليسار ستكون عنوان عريض لهذه المرحلة القلقة والصاخبة من تاريخ البلدان العربية، تجلت مؤشراتها الواضحة في بلدان وستتجلى في بلدان أخرى ما أن يحين وقت ممارسة تجربة الانتخابات لأول مرة في تاريخها. وشعور أصدقاء ومتحزبي اليسار بالفشل أو بالإحباط هو شعور إنساني مبعثه الصدق والإخلاص لأهداف وأفكار كانوا وما زالوا يعتقدون أنها صحيحة.. وهو قبل هذا وذاك شعور وطني صادق تجاه شعوبهم وبلدانهم. خصوصاً وإن هؤلاء الناس قد عملوا وعانوا وتألموا وفقدوا الكثير على المستوى الشخصي، مدفوعين بأهداف لم يكن من بينها ما سيحصلون عليه لأنفسهم.
وسيكون الألم مضاعفاً، على الأخص حين يكون محور ما يعتقده اليسار، وعلى درجات متفاوتة من الرؤية؛ ما زال صحيحاً؛ إذ أن الرأسمالية وعلى الرغم من نجاحاتها الباهرة في اجتياز أزماتها في داخل بلدانها الرئيسية، إلا أنها ما زالت عاجزة وهي تتصدى عبر (العولمة) لقيادة العالم، عاجزة عن ردم الهوة المخيفة بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم. لم يزل (80) بلداً يهيمن على 80% من موارد الكوكب.. لم تزل آفة الفقر تأكل سنوياً أكثر من مليون طفل في قارات الفقر الثلاث.. لم تزل عسكرة العلم وحروب الإبادة الجماعية.. لم تزل فتحة الأوزون تتوسع في غلافنا الجوي.. لم تزل تتفشى مزيداً من الأمراض الجديدة العصية على التطويق.. لم يزل خطر زوال الحياة من على وجه الأرض خطراً جدياً ماثلاً بفعل انتشار أسلحة الدمار الشامل.. وأخيراً وليس آخراً خطر الحاجة المستمرة لهذا النظام للحروب لتصريف أزماته المتوالية، قديماً كانت تصرّف أزماتها بحروب عالمية الآن أخذت تصريفها على شكل حروب محلية محدودة تكون ميادينها قارات الفقر الثلاث..
كل هذا هو حقيقة ماثلة يعترف بها منظروا هذه الحقبة من تطور الرأسمالية حقبة العولمة قبل أن يقولها أعداءها، لكن الحقيقة الأخرى التي يغفلها اليسار وهي الأخرى ماثلة وتفقأ العين، أن اليسار نفسه وعلى المستوى العالمي لم يعد يساراً وفق التوصيفات الكلاسيكية المعروفة لنا والتي ما زلنا نتداولها كمسلمات. لقد رأينا وسمعنا وتابعنا موقف وسلوكيات اليسار العالمي (ضمنه اليسار العربي) مما حصل في العقد الأخير واصطفافهم المعيب مع كل أنظمة الاستبداد نكاية بأمريكا.. رأينا المظاهرات المليونية في أوروبا وأمريكا التي حركها اليسار، كان ظاهرها ضد الحرب على العراق وباطنها دعم بقاء نظام (صدام حسين) أما المظاهرات المليونية في البلاد العربية فحدث ولا حرج، حيث لأول مرة يصطف اليسار الثوري مع الإسلام السياسي في مظاهرات مليوينة تناصر نظام صدام حسين، النظام الذي لا حدود لاستبداده وبشاعته وبعده عن أي قيم لها علاقة بالإنسان.. ورأينا الشجب والتنديد من قبل اليسار الأوربي واليسار العربي بثورة الشعب الليبي ووقوفهم عملياً إلى جانب العقيد العتيد حتى قبل سقوطه بقليل.. ونرى اليوم مواقف اليسار مما يحدث في سوريا واصطفافهم عملياً مع النظام السوري البعثي القمعي ضد إرادة الشعب السوري.. وأن أحداً لم يحل بعد تلك الأحجية الماثلة حين يكون اليساري في بلده ضد الاستبداد والقمع وهو في نفس الوقت يناصر مستبد وقامع لشعب آخر.. حتى وصلنا إلى هذه المفارقة التاريخية المذهلة حين نجد إمارات وممالك الخليج الرجعية الثيوقراطية المستبدة والقامعة لشعوبها بالسوط وبالدين والمرتبطة بأمريكا ارتباط عضوي كيف أنها تساند وتعاضد إرادة الشعوب العربية المنتفضة ضد مستبديها وتقف مقابلها أحزاب اليسار ومدعي الديمقراطية بالضد من إرادة هذه الشعوب للانعتاق.. ولم يبقى أمام اليسار التقليدي إلا أن ينحت له مفهوماً جديداً لتوصيف هذه الحالة، مفهوم من قبيل (شعوب عميلة) و(استبداد وطني مقاوم).
أجد أن هذه المحنة اليسارية هي عالمية الطابع وليست محلية خاصة باليسار العربي. منذ فشل النموذج السوفيتي الشيوعي وانهيار المعسكر أو المنظومة الاشتراكية، اختفى من حيز التداول المشروع البديل الذي كان اليسار يلوح به لشعوبه ومناصريه ليحل محل النظام الرأسمالي. وبغياب المشروع البديل، تخافت إلى حد التلاشي التنظير لما حدث ولما سيحدث.. أحد لم ينظِّر لأخطر ظاهرة تعرضت لها شعوب كثيرة واقعة في المنطقة المظلمة من العالم، منطقة النظم الاستبدادية وبأشكالها المختلفة تلك هي ظاهرة ضمور إلى حد الاختفاء للطبقة الوسطى في هذه المجتمعات، مقابل حصول تغول غير مسبوق للطبقة الوسطى في مراكز رأس المال إلى الحد الذي دفع بمنظر محترم مثل (فؤاد النمري) أن يعلن وفاة ودفن النظام الرأسمالي كنظام اقتصادي- اجتماعي وحلول نظام الطبقة الوسطى محله.. !!
هذا الأمر يمكن ملاحظته بشكل واضح ومجسم في العراق تحديداً، رغم أنه موجود وإن بدرجات متفاوتة في كل البلدان التي حكمتها انظمة استبدادية لفترات طويلة. لقد جرى تهميش فئات واسعة من شرائح اصحاب الأعمال الصغيرة أو الحرة وقطاعات واسعة من الموظفين وكوادر المهن المختلفة الطب، القانون، الهندسة، العلوم، الآداب.. ومعهم اساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين ناهيك عن طلبة الكليات وعموم المثقفين الذين تحولوا إلى باعة جوالين وسواق تاكسي وكسبة أو عاطلين عن العمل تماماً.. كل هؤلاء واولئك يجدون مطالبهم وأهدافهم في برامج اليسار والديمقراطيين عموماً.. حين يتعرض هؤلاء إلى هجمة شرسة وعلى كافة المجالات، عندها ستتفكك الأواصر والروابط فيما بينهم، بل يجري تفكيك لتلك الشرائح والعودة بها إلى أصولها الأولى ما قبل وصولها إلى ما كانت عليه.. منهم من يترسب في قاع المجتمع وهم الغالبية ومنهم من يصعد إلى رأس الهرم الذي تسلقه الانتهازيون والوصوليون الذين شكلوا الطبقة الجديدة التي نمت وترسخت مفاهيمها وقيمها في المجتمع أقصد الطبقة الطفيلية.. وهي طبقة غير منتجة تراكم ثروة مسروقة عبر أروقة ودهاليز الفساد الحكومي وغير الحكومي.. ولم يقتصر هذا الضمور على الطبقة الوسطى، بل الطبقة العاملة كذلك حدث لها اختفاء واضح من نسيج المجتمع. لم تعد طبقة ولا عاملة.. كيف تكون هناك طبقة عاملة وهذه البلدان تفتقر للصناعات الكبيرة.. حتى استقر التركيب الطبقي لهذه المجتمعات على طبقتين لا غير.. طبقة ضيقة قليلة العدد نسبياً من الطفيليين والانتهازيين تدور بفلك الحزب الحاكم أو العائلة المالكة التي صارت هي الدولة وطبقة واسعة وعريضة من المهمشين هي جل الشعب.. ليرافق هذه الهجمة على البنى التحتية للمجتمعات هجمات شرسة على البنى الفوقية لها، سياسات قمع وتشريد وتغييب طالت كل النخب السياسية من أحزاب وجمعيات وتنظيمات مختلفة تاركة أمام أنصارها ومؤازريها أحد أمرين أما التعفن في جحور أجهزة الأمن أو الرحيل إلى المنافي، الأمر الذي فرّغ الساحة تماماً من هذه النخب ليتوج كل ذلك بسياسة منظمة للتجهيل سواء في مناهج التعليم أو وسائل الإعلام.. وسط كل هذه المحن والكوارث إلى أين سيتجه المواطن المغلوب على أمره.. يقيناً سيرفع رأسه إلى السماء ليناشد الله ومن ثم يتوجه إلى بيت الله (الجامع)..!! لكن ماذا سيجد هناك..؟ مؤكد سيجد الشيخ والفقيه والملا وما شابههم هؤلاء المشغولين بهموم الآخرة أكثر من هموم الدنيا.. وحتى إلى هذا المكان لم تترك الأنظمة مواطنيها، لقد تبعتهم إلى هناك بحملات دينية كان عنوانها العريض في العراق (الحملة الإيمانية) وفي بلدان أخرى تقارب وتصالح مع الدين على صعيد القوانين أو التسهيلات.. هكذا تكون الأرضية قد مهدت وسويت تماماً للبدائل القادمة بعد أنظمة الاستبداد والقمع.. وهذا الذي حصل وسيحصل.
إذن ما وجه الغرابة حين نرى الشعوب اليوم وقوداً وحاضنات اجتماعية للتيارات الدينية السلفية وغير السلفية وبأشكالها الأشد تخلفاً.. حين تختفي من بنية اي مجتمع فئات وشرائح وطبقات إجتماعية بكاملها.. عندها تصبح النخب السياسية التي تعبر عن مصالح هؤلاء كأنها طيور محلقة في الهواء.. قد تكون أشكالهم جميلة ألوانهم خلابة لكنهم للأسف لا يقفون على الأرض.. وهذا ما جعل ويجعل النخب اليسارية والديمقراطية منشغلة بخلافاتها وانشقاقاتها والمزاودات فيما بين أطرافها أكثر من انشغالها بدراسة وتمحيص ما يجري في مجتمعاتهم من تحولات بنيوية مخيفة.. حتى البرامج التي يرفعونها لم تعد تختلف عن ما يرفعه ويقوله الأصوليون الإسلاميون إن كانوا من اخوان مسلمين أو اخوان شياطين.. الجميع يتشدق بالديمقراطية والحرية والتعددية والتنمية وغيرها من الشعارات بما فيهم البعثيون والأخوان المسلمون إذن ما وجه التمييز في برامج اليسار.
لم يعد أمام اليسار من حاضنة اجتماعية وسط هذا التدين الجارف للشعوب حتى غدت الديمقراطية (بجلال قدرها) مدعاة للسخرية على لسان الاسلاميين الذين كانوا يعادونها وحتى وقت قريب يعتبرونها بدعة من الكفر، وها هم اليوم ولسان حالهم يردد (تريدون ديمقراطية.. تفضلوا.. احنا الأكثر.. تريدون ديكتاتورية.. نحن هنا..) لم يعد الأمر تطور اقتصادي –اجتماعي طبيعي يفرز ما يفرزه خلال مسيرته من فئات وطبقات وجماعات تكون لها أهداف خاصة بها وتبحث عن من يتقدم لتحقيقها.. وفي النهاية حين لا تكون ثمة قضية معاصرة شاغلة فئات وطبقات مجتمع من المجتمعات لا محالة ستتم العودة للماضي بعقده ومشاكله.. وما يحدث الآن ليس أكثر من صراع الماضي المدجج بكل أنواع الأسلحة مع حاضر هزيل لا شكل له بعد..