الأصل في هذه الدراسة محاضرة ألقيت في جامعة النهرين (بغداد) بتاريخ 15 كانون الأول / ديسمبر 2021 – بدعوة من كلية العلوم السياسية ونشرت في مجلة قضايا سياسية.الدورية المحكّمة والتي تصدر عن وزارة التعليم العالي العدد 68 في آذار / مارس 2022. وأعيد نشرها في جريدة الحقيقة على حلقتين في 13 – 14 نيسان / أبريل 2022.
توطئة
توقف «جون بول سارتر» عند ظاهرة «افتراق السياسة عن الفكر»، حين عبّر عن ذلك بما معناه، هل يجب أن أقول الحقيقة فأخون البروليتاريا، أم يجب أن أخون الحقيقة بحجة الدفاع عن البروليتاريا؟
وكانت جامعة أكسفورد نظّمت ندوة في عام 2003 في إطار «مشروع دراسات الديمقراطية» حول «الديمقراطية في الأحزاب الثورية»، وفيها قدّمتُ بحثاً بعنوان «حين تزدري السياسةُ الفكرَ»، خلاصاته كيف يتم تبرير التجاوز على المبادئ والأفكار بزعم الضرورات السياسية والحزبوية، وإذا كان هناك من حاجة ماسّة ومستمرة لتكييف الفكر كي ينسجم مع الواقع، وهو ما نُطلق عليه البراكسيس، فإن ذلك لا يعني تعارضهما، أو تعاكسهما، بل توافقهما وتقاربهما.
وكان كارل ليبكخنت زعيم الحزب الشيوعي الألماني طلب من أستاذه فريدريك إنجلز مقالة للنشر في جريدة الحزب، فكتب له ما طلب، لكنه فوجئ وإذا بمقالته قد قُطّعت إرباً إرباً، وحين تساءل في عتاب رقيق من تلميذه عن السبب الذي دعا محرّر الصحيفة إلى التلاعب بأفكارها، ردّ الأول مفتخراً “لقد حذفنا منها كل ما يتعارض مع خطّ الحزب” فما كان منه إلّا وأن هتف “متى علمناكم ماركس وأنا أن السياسة أهم من الفكر؟”.
أعتقد أن ذلك قد يصلح كتوطئة لهذه المحاضرة الموجّهة بالدرجة الأولى لبحث أزمة اليسار عبر مساره ، ولا سيّما بعد تقهقر الكتلة الاشتراكية الذي توّج بانهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 وذلك بانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي العالمي من شكل إلى شكل آخر، وهي تبحث في الجوانب الفكرية والفلسفية والثقافية لهذه الأزمة، ارتباطاً بالتغييرات الجيوسياسية والجيوثقافية التي طرأت على قراءة الماركسية في محنتها السابقة وفي معضلتها الراهنة، بما تركته من قلق وضياع وحيرة في الكثير من الأحيان لدى الماركسيين بمختلف مدارسهم واتجاهاتهم.
ولعلّ هذا القلق يفرض نفسه على الجميع، بما فيه على من يطلقون على أنفسهم “ماركسيين” من العرب، بفعل انتشار مؤشرات غير مطمئنة تزداد حدّة وتسارعاً في ظل انتقال أوساط غير قليلة إلى الطرف الآخر، في حالة هروب وعدم ثقة من جهة، وفي ظل استمرار الجدب الفكري والعقم النظري والاختلال المنهجي، فليس مفاجئاً أن تتلقى أوساطاً راكدة ويقينية هزّات وصدمات وأصوات انهيار المنظومة الاشتراكية وفي مقدمتها أو في طليعتها الاتحاد السوفيتي كما كنّا نطلق عليه، لكن المفاجئ إلى حد الدهشة أنها لا تدرك حقيقة ما حصل، ولم تتوقف لدراسته أو تقييمه على نحو عميق، بما فيه انعكاسه على أوضاعها الداخلية ونمط التفكير السائد.
المفاجأة الأكبر حدّ العجب، أن ترتجل بعض الأوساط اليسارية والماركسية ردود فعلها على ما حصل، وكأنه شيء عابر وليس زلزالاً شمل الكرة الأرضية برمّتها، وبدلاً من أن تتصرّف هذه الأوساط لمراجعة التجربة ونقدها من داخلها وتقديم قراءات جديدة تنطلق من الواقع وتعطي للبراكسيس مكانة خاصة، إضافة إلى دراسة المستجدات والمتغيرات الحاصلة بما فيها ونحن في الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي كطور من أطوار العولمة، الأمر الذي يحتاج إلى تجديد وتطوير وراهنية وأفق مستقبلي لطبيعة الصراع الكوني مع الرأسمالية ووليدتها الامبريالية.
والأمر لا يتعلق بحقل نشاطات أو مسرح تبادل خطب أو إلقاء اللوم على الآخر، فاليسار والماركسية هو عالم لا يتألف من المدى الأول لتجارب حركات وأحزاب عريقة فقط، بل هو قبل كل شيء مدرسة فكرية عريقة لتيار عريض وواسع، سواء في بلدان الأصل، أو في بلدان الفرع، ومنها بلداننا.
مقاربة فكرية
وقبل أن نتوغّل في تقديم تعريف لليسار ومعناه وتاريخه، وهو ما سنعود إليه ثقافياً وفكرياً، لكننا سنعرّج أيضاً على تكوينه وخصائصه ومصائره بعد الطوفان الذي حلّ بالتجربة الاشتراكية الكونية، حيث ستكون مثل هذه المقاربة التاريخية الثقافية مدخلاً لفهم وإدراك المتغيّرات الحاصلة، وذلك ضروري لأسباب عديدة منها تراجع الجانب الموضوعي والعقلاني في العديد من المراجعات الراهنة، وأستطيع أن ألخّص مقاربتين:
الأولى – المقاربة الأيديولوجية المتشدّدة في حماستها، وهي مقاربة عقائدية أقرب إلى الدين، سواء كانت عالمية أم إقليمية أم محلية، وهي محكومة بفكرة أحادية لا ترى غير الأضداد: النور والظلام، الأبيض والأسود، الخير والشر، ولا تعترف بالألوان الوسيطة.
الثانية – المقاربة التبسيطية المأخوذة في البحث عن الوسائل والمتكيّفة، في التبرير والرّد، وهكذا تصبح أكثر استعداداً للتخلّي عمّا اعتبرته أيديولوجيا، حيث الوصفات الجاهزة ذات المسحة السحرية، وذلك بعيداً عن قراءة هادئة وخصبة للواقع والتعامل من وحيه وليس بالقفز عليه، ولا بدّ لأية مقاربة واقعية أن تعتمد على فهم العقل وقناعة القلب وجموح الخيال المبدع.
إن القراءة الفلسفية التاريخية بمنظور سيسيوثقافي واسع ومن منظور جيوثقافي أيضاً هدفها توسيع حقل الرؤية كي ما تكون الأوضاع الراهنة في سياق أكثر عقلانية وإنسانية وواقعية، لتشخيص وصياغة خيارات جديدة وسلوك جديد ينطلق من فهم جديد يستجيب للتطور، من دون إهمال قراءة ما حصل ولكن لاستشراف المستقبل، مستفيداً من دروس التجربة التاريخية وحصيلتها.
في معنى اليسار
يعتبر مصطلح اليسار فضفاضاً وواسعاً، وهو لا يدلّ أحياناً على شيء موحد، وإنما هو ميل واتجاه إلى الراديكالية “الجذرية” والتغيير والتجديد، وليس كما يتصوّره البعض “عقيدة”. وقد وصلنا المصطلح من الثورة الفرنسية 1789، حيث كان ينسب إلى “اليعاقبة” وهي المجموعة الأكثر ثورية وفوضوية، وسميّوا “اللّامتسرولين”، وكان شعارهم الحرية من الاستبداد والحصول على الخبز، وقد اضطرّت الجمعية الوطنية (البرلمان) على تبنّي مواقف أكثر راديكالية لصالح الفقراء المتمردين، وذلك تحت ضغط اليعاقبة.
واللّامتسرول هو من فئة عمالية أقرب إلى البروليتاريا الرثة ممن لدغوا أكثر من غيرهم ولم تحقق الثورة آمالهم وطموحاتهم سريعاً، وهو من يفعل ما يجب فعله حسب اعتقاده ضد أصحاب الامتيازات، مغالباً بالأساليب العنفية وفي الشارع.
وقد شكّل المتسرولون “نادي اليعاقبة” وهم المجموعة التي كانت تتخذ من جهة الشمال واليسار، مكاناً لها في الجمعية الوطنية، والاسم الرسمي لها “جمعية أصدقاء الدستور”، وهي الفترة التي كانت أشد إرهاباً” وكان “دانتون” خطيب الثورة الأكثر عنفاً وتطرفاً، خصوصاً ضد المجموعة اليسارية التي انشقت عن اليعاقبة، وسمّت نفسها بـ “الجيروند” وقد أعدم في 10 تموز / يوليو 1793 ليخلفه روبسير، واستمرت وتصاعدت فترة الاعدامات الفوضوية والإجراءات غير المنضبطة، حيث تم قطع علاقة فرنسا بالفاتيكان واخترعوا ديانة أسموها “عبادة العقل” وأغروا القساوسة على ترك الكاثوليكية، حيث حوّلت 2400 كنيسة إلى أماكن لعبادة العقل. ويذكرني هذا بقول أبو العلاء المعرّي:” فكلّ عقل نبي”.
أيّها الغرّ إن خصصت بعقل / فاتّبعه فكلّ عقل نبي
والمرء بالعقل مثل القوس بالوتر، وهكذا رفع العقل إلى منزلة النبوّة أو كما يقول :
فشاور العقل واترك غيره هدراً / فالعقل خير مشيرٍ ضمّه النادي
وكان عنوان كتابنا ” دين العقل وفقه الواقع” تأكيد على أن لا دين دون العقل ولا فقه حقيقي دون الواقع.
وقد أغلق نادي اليعاقبة في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1794 وبدأت أحكام الإعدام تتضاءل وأطلق سراح عدد كبير من المعتقلين بمن فيهم من “الجيروند” وعاد بعضهم إلى الجمعية الوطنية.
لعل هذا المدخل يساعدنا في فهم معنى اليسار وأزمته، وخصوصاً اليسار الماركسي، فالأزمة لا تخص اليسار العربي وحده، وإنما هي أزمة كونية وبنيوية ومركبة نظرياً وفي البراكسيس أيضاً، وهي أزمة قراءة وفهم ورؤية وسلوك أيضاً، وبغض النظر عمّا آلت إليه أوضاع اليسار، فلا بدّ من الاعتراف أن حلم العدالة الاجتماعية ظل هاجساً عالمياً على مر العصور، اتخذ تجلياته عبر أديان وفلسفات وأفكار وأشعار وصراعات.
الأزمة و الواقع
يمكنني القول أن يسار القرن العشرين الماركسي والاشتراكي خسر معركته مع الرأسمالية، ولم يعد الحديث عن سمة عصرنا “الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية” كما ظلّ الأدب الاشتراكي يتحدث عن ذلك لعقود من الزمن، فقد انهارت التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وقبله في أوروبا الشرقية على نحو عاصف، وإن كان بصورة سلمية ومن دون حروب عسكرية، لكن حرب الرأسمالية ضد الاشتراكية كانت أكثر إيلاماً وغدراً وإن كانت “حرب ناعمة”، خصوصاً الحروب الاقتصادية والثقافية والنفسية، ناهيك عن سباق التسلّح الذي لم يكن الاتحاد السوفيتي قادراً على السير به حتى نهايته في تلك المباراة غير المتكافئة.
لقد خسر المعسكر اليساري العالمي دولته المركزية القوية (الدولة القاعدة) في مواجهة المعسكر اليميني العالمي ودولته المركزية بفروعها القوية أيضاً، فلم يعد هناك مركز أممي، ونعني به الاتحاد السوفيتي بما كان يوفّره من إمكانات المجابهة كونياً، وكان حليفاً لليسار بجميع ألوانه، ولا سيّما القرب من المدرسة السوفيتية. وهكذا فشل النموذج “الموديل” “البراديغم Paradigm” الفكري الذي بقينا نتغنّى به لعقود، ولم يعد اليسار مؤثراً أو فاعلاً على المستوى العالمي، بل انكفأ على ذاته وتشظّى وتفتّت وانقسم على نفسه.
وحلّت مرحلة من التراجع والارتكاس إلى درجة الارتداد، وتحويل الخيارات بزعم فشل التجارب الاشتراكية، والأكثر من ذلك حين انتقل بعض أوساط اليسار إلى الضفة الأخرى ليبشر بسيادة الليبرالية ونموذجها على الصعيد الكوني، ولكي يتساوق مع هذا التطوّر فقد أخذ ينظر لاقتصاد السوق وفشل القطاع العام والتخلّي عن دور الدولة المركزي في التخطيط وأخذ يكيل المدائح لمزايا الملكية الفردية ويستخفّ بأطروحات الملكية الجماعية للوسائل الإنتاج الأساسية ، وغير ذلك.
وكان من نتائج ذلك ضعفت النزعة الأممية لدى اليسار عموماً والماركسي خصوصاً، وانكفأ قطرياً ومحلياً، لا سيّما حين لم يراع مسألة الخصوصية سابقاً، بل سار بالإكراه تارة والقناعة أحياناً بتقليد النموذج أو الموديل “الباراديغم paradigm, ” الذي كنّا ننظر إليه باعتباره الأكثر تقدماً على المستوى الكوني، حتى وإن كان في بدايات سلّم التطور الذي واجه عثرات واختناقات غير قليلة، ولذلك ظهرت التجربة اليوغسلافية مبكّراً بردود فعلها للنموذج السوفيتي، وبعدها التجربة الصينية، ثم التجربة الألبانية والتجربة الرومانية، فضلاً عن تجارب الفيتنام وجنوب شرق آسيا، وفيما بعد التجربة الكوبية.
ولعل أهم التطورات وأخطرها هو نموذج أوربا الغربية، وهو ما سمّي بالأوروشيوعية، حيث اتخذت ثلاث أحزاب كبرى في أوروبا نهجاً مختلفاً عن النهج السوفييتي في السبعينيات، بإتباع الأسلوب السلمي البرلماني وقناعات الناس أساساً للخيار الاشتراكي، وهذه الأحزاب هي: الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإيطالي، والحزب الشيوعي الإسباني.
اليسار العربي
أما في منطقتنا وفي البلدان النامية عموماً، فقد كانت هزيمة اليسار قوية أمام الصهيونية والامبريالية، بقيام دولة “إسرائيل” حيث حدثت النكبة العام 1948 وفيما بعد النكسة في العام 1967، وللأسف لم يتّخذ اليسار العربي ما ينسجم مع آمال الجماهير، ففي النكبة أيّد قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947، وكان هذا في تعاكس مع واقع الشعب العربي بالكامل، حيث استبدل موقف الحركة الشيوعية العربية من الدعوة إلى دولة فلسطينية ديمقراطية وإنهاء الوجود البريطاني في فلسطين، ليتطابق مع الموقف السوفييتي الذي انقلب رأساً على عقب ليدعو إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين، الأمر الذي كان بمثابة صدمة وخيبة أمل كبيرة على مستوى الشارع العربي.
وتحضرني هنا مفارقة نقلها منير شفيق في مذكّراته الموسومة “من جمر إلى جمر”، ومفادها أن فائق ورّاد (أبو خالد) كان ينام في مطبعة الحزب، وفي الساعة الرابعة صباحاً جاء مصفّف الحروف وقال له استيقظ يا رفيق فقد أيّد المندوب السوفيتي قرار التقسيم، فنهض كمن لسعته حيّة، فطلب منه التقاط محطّة راديو موسكو للتأكّد من الخبر، وبعد أن اطمئن إلى أن الخبر صحيح، قام بسحب المقالة التي كتبها للتنديد بقرار التقسيم والدعوة إلى دولة ديمقراطية موحّدة، واستبدلها بمقالة أخرى كتبها أعرب فيها عن تأييده لقرار التقسيم كما أشاد فيها بالموقف السوفيتي، وكان حينها مسؤولاً عن الجريدة وعضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وهو ما سارت عليه غالبية الأحزاب الشيوعية العربية.
وفي العام 1967 كان الموقف السوفيتي يدعو إلى “إزالة آثار العدوان” وهو الموقف الذي اتبعته غالبية الأحزاب الشيوعية، لكن تململات كانت قد حصلت داخلها حين تبنّى بعضها “حق تقرير المصير” وهو الموقف الذي اقتنع به اجتماع موسكو للأحزاب الشيوعية والعمالية في العام 1969، بل ذهبت بعض الأحزاب أو أجنحة فيها إلى أبعد من ذلك، بوصف “إسرائيل” قاعدة متقدّمة للإمبريالية وبُؤرة حرب مستديمة وأداة عدوان مستمرّة. وكان الحزب الشيوعي السوداني وفيما بعد الحزب الشيوعي اللبناني وشخصيات مؤثرة مثل عامر عبدالله قد عمدت إلى إقناع السوفييت بأهمية تأييد مبدأ حق تقرير المصير، وهو ما حصل في الاجتماع التحضيري الذي انعقد في بودابست في العام 1968، الذي حضّر للاجتماع العالمي العام 1969 .
جدير بالذكر أن الحزب الشيوعي اللبناني أجرى مراجعة جريئة في مؤتمره الثاني (تموز / يوليو 1968 ) و خطّأ في إطارها الموقف السابق من قرار التقسيم وأكّد على استقلالية الحزب وتبنّى أسلوب الكفاح المسلح ضدّ “إسرائيل”، وأعاد الاعتبار إلى الشهيد فرج الله الحلو (سالم) الذي عوقب في العام 1952 لموقفه المعارض من قرار التقسيم في ظلّ النهج البيروقراطي الستاليني .
والفشل أو الإخفاق يعود إلى كيفية التعاطي مع مرحلة ما بعد نيل الاستقلالات، فلم يتمكّن اليسار من أن يكون مؤثراً في إنجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، لا بالمعنى الوطني والقومي و بالمعنى الاجتماعي، إلا في نطاق محدود، بل إن بعض المنجزات التي تحققت على هذا الصعيد عادت القهقرى في مصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان واليمن وغيرها، لأسباب خارجية وأخرى داخلية.
لقد ذبل النزوع الأسمى للتساوق مع السوفييت كثيراً، وانقلبت الطاعة العمياء وتلقّي التعليمات إلى نوع من تعليق كل الأخطاء على الأممية وتبرئة النفس من الانصياع لولاءات حزبوية وبعضها أمنية لقيادات شيوعية تعمل لحساب المركز الأممي وتحت تبريرات مختلفة.
إن من أهم مشكلات اليسار الماركسي هي التعويلية على المركز الأممي واعتبار ما يصدر عنه من تعليمات بمثابة سرمديات مقدسة، يضاف إلى ذلك كسله الفكري واتكاليته وتبعيته، لدرجة كان ذيلياً في علاقته مع المركز الأممي، بزعم الإخلاص لحزب لينين والاشتراكية الأول، وفي فترة السبعينيات دخلت بعض الأحزاب الشيوعية في تحالفات، من مواقع أدنى أو حتى ذيلياً، ما قادها للعمل لصالح الحكومات.
ولعلّ من مشكلات اليسار العربي الراهنة هو غياب الاستراتيجيات بشكل عام، وإزاء القوى الدينية الصاعدة بشكل خاص، حيث أصابها نوع من الحيرة والتخبّط، فقد وجدت منافساً قوياً بعد المنافس القومي، وما عليها إما الصدام أو التحالف معه، وكلاهما من موقع أدنى ومن دون استعدادات كافية، ممّا حمّل اليسار أعباءً جديدة، لم يكن مستعدّاً لها فوقع في أخطاء جسيمة أخرى.
فبعد عداءٍ ومن ثم استهانة بدور التيار الاسلامي جرت الاستدارة نحوه ﺑ 180ْ (درجة)، بل والسعي للتحالف معه وبشروطه، وبالطبع من موقع أدنى، وهكذا تتكرّر التجارب السابقة لعدد من الأحزاب الشيوعية، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن السياسات التي كانت تُرسم لم تستند إلى دراسة موضوعية كافية أو أنها لم تكن على معرفة بالواقع ومتغيّراته، دون أن ننسى المزاجيات والارتياحات أحياناً ودور بعض العناصر المؤثّرة.
يُضاف إلى ذلك عدم قدرة اليسار على قراءة الواقع ورؤية توازن القوى على نحو صحيح، فإما المبالغة في القدرات الذاتية على حساب الجانب الموضوعي أو التقليل من شأنها وتضخيم حجوم القوى الأخرى على حساب الذات، وكلاهما قاد إلى نتائج سلبية لعموم حركة اليسار بسبب عدم تقدير الإمكانات بصورة سليمة.
وقاد هذا الأمر إما إلى:
1 – التحالف مع حكومات مستبدة نكاية بالتيار الإسلامي أو بزعم مواجهة الإمبريالية والصهيونية، وتارة بزعم عدم الانعزال أو الانفراد في موقف خارج دائرة الإجماع السياسي، وقاد مثل هذا الموقف إلى المشاركة في حكومات نصبتها القوى الامبريالية، فضلاً عن حكومات محليّة ممالئة لها وذات طبيعة تتعاكس مع أهداف الحركة التحرر الوطنية، ولا سيّما لفكر اليسار الماركسي، أو في مرحلة لاحقة التحالف مع التيار الاسلامي ذاته دون مبرّرات كافية للانقلاب على الموقف الأول.
2 – أما الوجه الآخر للانقلاب على الماضي فهو الانتقال من ماركسية متشددة إلى ليبرالية فاضحة بعد الكفر بالاشتراكية الفاشلة وتجاربها الخائبة.
وأخذ البعض يبرّر النيوليبرالية والاحتلال والحصار الدولي والتدخل الخارجي وسكت عن اتفاقيات مذلّة، بزعم عدم امكانية تغيير الأنظمة الدكتاتورية وتأثير العامل الدولي في عملية التغيير، وعاد بعض أصحابنا من اليساريين إلى رحم الطوائف والمذاهب والإثنيات.
لقد قاد ذلك إلى الاصطدام بتيارات الإسلام السياسي، وهو في لحظة صعوده بعد اطروحاته الشعبوية المذهبية والطائفية، أو قبول هيمنته والتحالف معه دون نقده والاحتفاظ بمسافة كافية لقراءة الواقع.
ماركسيون من دون ماركسية
مثل هذا العنوان لمن ينسبون أنفسهم إلى الماركسية ويعتبرون أنفسهم ماركسيين ومن ينسب نفسه إلى المادية الجدلية وصنوها المادية التاريخية، سيكون العنوان ماديون جدليون أو تاريخيون من دون المادية الجدلية أو التاريخية، والمقصود هو عدم الإنتساب إلى شخص، بل إلى فلسفة ومنهج ، ومع التقدير الكبير لماركس كواحد من أعظم فلاسفة التاريخ والذين أثروا في المجتمعات البشرية، وأيضاً باعتباره الحلقة الذهبية الأولى في التمركس (المادي – الجدلي) وكان ماركس من أبرز مَن اختارتهم هيئة الإذاعة البريطانية، باعتباره واحد من 100 شخصية عشية القرن الحادي والعشرين.
أستطيع أن أقول هناك ماركسيات مختلفة وماركسيون مختلفون، فهناك:
* الماركسية السلفية التي تذكّرنا بالسلفية الدينية، ومثلما هذه الأخيرة تريد العودة إلى الدين الصحيح أو الإسلام الحقيقي والمقصود “الإسلام المحمدي” أو “الإسلام الراشدي”، أي “عهد صدر الإسلام” حتى وإن كان الفرق ما يقارب 1450 سنة من دون الأخذ بنظر الاعتبار التطور والتغير؛ فإن الماركسية السلفية تريد العودة إلى الاشتراكية الصحيحة وهي بتقديرها “اشتراكية لينين” الرسمية وأسس “المدرسة الماركسية السوفييتية” على كل أخطائها النظرية والعملية وتزعم أن الفشل هو في التطبيق، أما النظرية فهي صحيحة ولا غبار عليها وما علينا إلاّ التمسّك الحرفي بما نظّره ماركس وانجلز وفيما بعد لينين، ويضيف بعضهم ستالين أيضاً أو ماوتسي تونع وفقاً للمدرسة الصينية، وتعلق هذه الرؤية الأخطاء جميعها على النموذج أو التجربة وتضع النظرية في منزلة قدسية، وهذه السلفية الماركسية جامدة ودوغماتية وغير متطورة، بل ترفض التطور، وهي تتغذّى على التاريخ.
* الماركسية المتحوّلة، وهناك الماركسيون المتحوّلون، وهؤلاء دعاة الليبرالية، بل والنيوليبرالية بزعم فشل الاشتراكية وهزيمتها أمام الرأسمالية، ودعاة هذه المدرسة بشروا باقتصاد السوق ودور القطاع الخاص، وتبريرهم أن هذا عصر العولمة وعلينا التعاطي معه، بما يجعل التكيّف أمراً ممكناً، وإلاّ فإن عجلة التاريخ ستتركنا خلفها.
* الماركسية الطهرانية، وهي وإنْ تقترب من السلفية إلاّ أنها نظرت إلى عذرية الماركسية ورفضت أي تغيير يحصل على “تعاليم ماركس أو انجلز أو لينين”، ودعت إلى الحفاظ على نقاوة النظرية، ولو قدّر لها أن تضع تلك التعاليم في متحف وتكتب عليها ممنوع اللمس، خوفاً من تعريضها لعوامل التعرية والتآكل، لفعلت ذلك، مثلها مثل الذين يضعون القرآن في مكان منظور وفي إطار جميل، لكنهم لا يفقهون شيئاً منه، فما بالك حين يخالفون أحكامه وقيمه الإنسانية.
* الماركسية الإدارية أو الطقوسية، وهذا النمط يتعامل مع الماركسية من موقع إداري أو طقوسي، يحفل بالممارسة الحزبوية أكثر مما يهتم بالجوانب النظرية والفلسفية، فهو يعرف المواعيد المقرّرة للإحتفال بالمناسبات الشيوعية: ذكرى ثورة أكتوبر الإشتراكية، عيد ميلاد لينين، ذكرى تأسيس الحزب، يوم العمّال العالمي وغيرها. ويهتم هؤلاء بجداول المالية ويحملون شارات الحزب وقصاصات أو مناشير يوزّعونها بينهم دليلاً على النقاء الشيوعي.
* الماركسية الحيوية المرتبطة بالواقع وبالتطبيق على نحو عقلاني، وهذه تحتاج إلى قراءة جديدة للتراث الماركسي (المادي الجدلي) بهدف استيعابه ونقده بما يكيّف الفكر للمستجدّات والمتغيّرات وتجاوز ما عفا عليه الزمن أو أن الحياة لم تزكّيه أو أثبت إخفاقه. ولا يألون جهداً بانتقاد الجميع باعتبارهم “الفرقة الناجية” كما يسميها الاسلاميون التي تدخل الجنّة.
اليسار وقضايا راهنة
ما يحتاجه اليسار هو قراءة جديدة لواقع الرأسمالية في عصر العولمة، فالماركسية هي علم الرأسمالية بامتياز، فقد حلل ماركس قوانين الرأسمالية وفكّك طبيعة النظام الرأسمالي وتناقضاته وسبل مواجهته، لكنه لم يتناول إلّا على نحو عمومي بعض قوانين التحوّل الاشتراكي الذي لم يكن موجوداً في عصره. ولا يمكن اليوم تقديم قراءة حقيقية لواقع العولمة من دون رؤية جديدة لواقع الرأسمالية، لا سيّما بعد التطوّرات العاصفة، وأستطيع هنا أن أرصد وأشخّص بعض الاختلالات القائمة ومنها:
1) العجز عن رؤية الحاضر، بل والعيش في الماضي في إطار رؤية سلفية في الغالب أو تقليدية قائمة على قوانين الصراع الطبقي التي كانت تمثّل واقع القرن التاسع عشر.
2) غياب مشروع ما بعد انهيار الاشتراكية، أي عدم وجود استراتيجيات كونية لرؤية المتغيّرات ما بعد انهيار البراديغم الاشتراكي، فلم يبقَ اليوم سوى خمس دول اشتراكية تتراوح في تعاطيها مع قوانين التحوّل الاشتراكي هي: الصين وكوريا الشمالية ولاووس وفيتنام وكوبا، ولا سيّما بعد انهيار اشتراكية أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي.
3) عدم تحديد أسباب أزمة الماركسية وعلى أقل تقدير الخطوط العريضة لذلك، فقد كان مجرّد الحديث عن أزمة الماركسية أقرب إلى الكفر، وحتى مَن كان يعترف ببعض جوانب الأزمة فإنه يطلق عليها صعوبات أو تحدّيات في حين أن الأزمة كانت عميقة ومعتقة واستمرت الحال لسنوات طويلة من دون علاج، الأمر الذي أدى إلى تعفن النظام الاشتراكي من واقعه، حتى سقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، حينما كانت تنخرها ديدان حفرت في عمقها الداخلي، وإن أبقت على هيكلها الخارجي.
وأتذكّر أنني حين أجرت معي صحيفة أنوال المغربية في العام 1990 مقابلة مطوّلة نُشرت على حلقتين (آب/أغسطس 1990) حول أزمة الماركسية ضجّ البعض مستنكراً ومندّداً، فقد كان الاتحاد السوفيتي رمز الاشتراكية على قيد الحياة، وإذا به بعد عام ونيّف ينهار على نحو مدوٍّ، بل وينقسم إلى 15 كياناً، وكذلك الحال يوغوسلافيا التي توزّعت بعد حروب واقتتال إلى 6 كيانات، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتي التشيك والسلوفاك.
وكان البعض يتحرّج في الحديث عن أزمة الماركسية، بزعم عدم نشر الغسيل الوسخ، بل حتى يعتبر الحديث عن أزمة حركة التحرر الوطني وأنظمتها مبالغة لا داعي للترويج لها أو نشرها لأنها تضعف معسكر الاشتراكية وحلفائها.
4) غياب القراءة النقدية للماركسية والمادية التاريخية في مواجهة العولمة وباستثناء بعض الشعارات السياسية والأطروحات السريعة فإن ثمة نقص فادح على هذا الصعيد النظري المهم، ومن ذلك عدم رؤية التغييرات والتبدّلات التي حصلت في إطار الطبقة العاملة والبروليتاريا تحديداً في الدول الصناعية المتقدمة، والذي اقترب بعضها من طبقة المديرين والمهندسين والمشاركين، ولعل ذلك ما أفقدها دورها، فهل هي مَن سيقوم بإنجاز التغيير أم أنها ستكون أحد عناصره، وهنا لا بدّ من التوقف نقدياً بشأن مبدأ دكتاتورية البروليتاريا الذي لم يعد يصلح لعصرنا.
5) عدم رؤية دور الانتلجنسيا وعلاقة ذلك بالتكنولوجيا، لا سيّما في ظل الطور الرابع للثورة الصناعية، وكان بليخانوف الذي يطلق عليه لينين “أبو الماركسية” هو الذي قال أن حامل التغيير هو الأنتلجنسيا والتكنولوجيا، وذلك قبل قرن ونيّف من الزمان، وأعتقد أن هذا القول أكثر انطباقاً على الواقع الراهن من تلك المرحلة الزمنية البعيدة، وهو ما دعا لينين بعد الانتهاء من الحرب الأهلية والانتصار على الثورة المضادّة في العام 1923 إلى مخاطبة الجمهور الذي كان يستمع إلى محاضرته قائلاً، والآن انتصرنا وماذا بعد؟ فمن يبني روسيا؟ أليس الرأسمال؟ وهذا الأخير لا يأتي بشروطنا بل بشروطه، وقد ابتدع فكرة “رأسمالية الدولة” حينها أو ما يعرف بسياسة النيّب New Economic Policy (NEP)
6) ما زال الكثير من الماركسيين ينظرون إلى الماركسية كعقيدة أقرب الجمود وهي أشبه بالتعاليم المقدسة أو الكتب الإلهية لا يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها وتعاليم ماركس “نهاية التاريخ” وهي تصلح لكل العصور والأمم والشعوب، وهي سرمدية ويرددونها مثل التعاويذ أو الأدعية التي يمكن به شفاء المرضى أو الإتيان بالمعجزات.
أقول أن الماركسية والمقصود المادية الجدلية والمادية التاريخية هي مجموعة أفكار ووجهات نظر وهذه تتبدل وتتغير بتغيّر الأزمان وبالتالي تتغيّر أحكامها، ولعلّ بلداننا بحاجة إضافية إلى الوقوف عند مشروع جامع.
7) لقد اعتمد الماركسيون على تعاليم ماركس التي تصلح لعصره وأهملوا منهجه، وهو الأساس الذي ما يزال محجاً، وردّدوا حرفياً وبببغائية أقواله، التي بعضها لم يكن صحيحاً أصلاً، وبعضها تخطّاه الزمن وبعضها حتى وإن كان صالحاً لعصره، لم يعد يصلح لعصرنا، وأهملوا دور البراكسيس لاختبار صحة المنهج، أي اقتراب الأهداف من الوسائل.
وعلينا التخلص من الأوهام والديماغوجيا والأكاذيب الأيديولوجية، فلا قيمة لنظرية أو فكر أو فلسفة مهما كانت إيجابية وسليمة وإنسانية، لا تعتمد على وسائل شريفة وعادلة، والوسيلة جزء من الهدف، ولا هدف شريف من دون وسيلة شريفة وإلاّ فإن الميكافيلية في تبرير سلوك الحاكم ستكون هي الأساس الصحيح في علاقة الحاكم بالمحكوم، في حين يذهب المهاتما غاندي إلى اعتبار الوسيلة إلى الغاية هي مثل البذرة إلى الشجرة، “وشرف الغاية من شرف الوسيلة”، وهذه الأخيرة منظورة وملموسة وراهنة في حين أن الهدف بعيد وغير مرئي أو راهن.
لقد روّجت الاشتراكية بأساليب ديماغوجية لا تختلف عن أساليب الدعاية الرأسمالية، وقد رفض الكاتب الفرنسي أندريه جيد البرنامج الذي وضعته له الدولة السوفيتية عند زيارته للاتحاد السوفيتي السابق، وقرّر هو من يضع برنامجه ليشاهد الواقع الحقيقي وكيف يعيش الناس وكيف يفكّرون وماذا يشغلهم وما هي شكواهم؟ وللأسف اكتشف أنه واقع مزرٍ إلى حدود كبيرة، فعاد وكتب ضد تلك المظاهر السلبية، علماً بأنه يعتبر صديقاً للاتحاد السوفيتي ومؤيداً للاشتراكية، لكنه رفض الزيف والخداع والدعاية الوردية على حساب الواقع.
المشروع النهضوي
ما نحتاج إليه ضمن رؤية جدلية للتقدم في بلداننا ومجتمعاتنا هو مشروع يزاوج ما هو وطني بما هو سياسي، وما هو سياسي بما هو اجتماعي، والتحرر السياسي بالتنمية المستقلة، والديمقراطية بالعدالة الاجتماعية والحاضر والتطلع للمستقبل بالانبعاث الحضاري والتراث بالأصالة والمعاصرة والحداثة، وذلك في إطار مشروع وحدوي جامع وهو من مستلزمات المواجهة الكبرى في عصر التجمعات الاقتصادية والسياسية العملاقة.
حاجات اليسار
ما يحتاج إليه اليسار هو برامج عمل واقعية عميقة وليس شعارات أو مقولات لا تنطبق على الواقع، وهذه البرامج تحتاج إلى قوى حاملة للمشروع بواقعية وليست طوباوية القرن التاسع عشر، فنحن في العقد الثالث من الألفية الثالثة، ومثلما نحتاج إلى مشروع وحامل اجتماعي، فلا بدّ من آليات معقولة وواضحة في إطار مؤسسات، تنطلق من الحياة ذاتها، خارج دائرة الخصوصية.
يحتاج اليسار إلى إعادة التفكير بفكرة الحزب ذاتها، ولا سيّما بكتاب لينين “ما العمل؟” الذي صدر في العام 1903 فلم يعد في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الاعلام والطفرة الرقمية “الديجيتل” والذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة صالحاً، وقد يكون نموذج مارتوف الذي طالما قرعّناه أو قرعّنا به البعض هو أكثر صلاحاً أي أقل صرامة وأوسع إطاراً تتعدد فيه الآراء والمنابر بحيث يكون أقرب إلى اللّامركزية من التنظيم الفولاذي الذي كان نموذجه “الحزب الستاليني”.
ويحتاج اليسار إلى نبذ العنف وسيلة للوصول إلى السلطة والتخلّص منه نهائياً نظرياً وعملياً، مع ملاحظة أن العنف الستاليني والعنف الماوي والعنف الأنورخوجي والعنف التشاوتسكي والعنف البولبوتي وانعكاساته على بلدان حركة التحرر الوطني، لم يحمِ الاشتراكية بقدر ما أساء إليها وفي منطقتنا هناك العنف الأثيوبي والعنف اليمني وكأنه صراع قبائل ماركسية. وقد قلّدت أنظمة التحرّر الوطني البلدان الاشتراكية في تطبيقات مشوّهة زادت تخلّف بلداننا، حيث تلعب عوامل عديدة دورها في ذلك، منها صدمة الاستعمار والعامل الديني المؤثّر والموقف من التنوّع والتعدّدية والمجموعات الثقافية.
اليسار في أزمة نعم، وهي أزمة فكر وأزمة برامج وأزمة ممارسة وأزمة قيادة وأزمة تنظيم، ولكي يخرج منها لا بدّ من حوار مفتوح لتشخيص عناصر هذه الأزمة وسبل الخروج منها والعوامل المساعدة في النهضة ودور الحامل الاجتماعي، وأولاً وقبل كلّ شيء نحتاج إلى نقد صريح وجريء للماضي واستشراف خذر للمستقبل.
مراجعة نظرية: أطياف ماركس
في حوار نظمه “حزب التجمع الوطني” في القاهرة الذي أسسه خالد محي الدين في القاهرة ومجلة أدب ونقد التي ترأس تحريرها الأديبة فريدة النقاش، التأمت ندوة حوارية حول الماركسية والاختلاف، ولعل المناسبة كانت صدور كتابنا ” تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف” (2009) الذي ناقشه الكاتب والناقد حلمي شعراوي والباحث صلاح عدلي والناقد علي الديب والدكتور أحمد كامل والناقد خضير ميري، إضافة الى مدير الندوة الشاعر حلمي سالم الذي أدار الندوة ونظم الحوار، وكان السؤال الذي ظل معلقاً: هل عادت أطياف ماركس أم أن نجم الماركسية قد أفل وشعاعها قد انطفأ!؟ وإذا كان البعض يستشكل هذا السؤال، سابقاً الاّ أنه بعد الأزمة العالمية المالية والاقتصادية للرأسمالية أصبح مطروحاً من لدن أطراف كثيرة!
يمكن القول أن: الماركسية التي وصلت الى السلطة لا تشبه ماركسية ماركس، كما ان الماركسية المطبّقة لا تشبه ماركسية ما قبلها وما بعدها. وكذلك فإن ماركسية القرن العشرين لا تشبه ماركسية القرن التاسع عشر، وبالطبع فهي لا تشبه ماركسية القرن الحادي والعشرين، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتي فجرتها العولمة، إضافة الى الموجة الجديدة الأولى من الحداثة، التي أطلق عليها البعض ما بعد ” الحداثة”.
كما أن ماركسية ما بعد هدم جدار برلين وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي الى شكل جديد، ستكون مختلفة عن ماركسية القرن الحادي والعشرين، وماركسية السلطة تختلف عن ماركسية المعارضة، مثلما ماركسية الثقافة تختلف عن ماركسية السياسة، وماركسية اكسفورد ستختلف عن ماركسية عدن أو مقاديشو أو اديس أبابا أو غيرها في أرياف الشامية جنوب العراق أو هبت في غرب العراق، أو كويسنجق في شمال العراق – كردستان.
لعل ماركس هو الذي قال ” كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً ” ولم يكن ذلك خروجاً على ” الماركسية ” والمقصود منهجها الجدلي أو تخلياً عنه كما يعتقد البعض، إذا ما رددنا ذلك، بل هو خروج على الأطر والانساق المُحكمة والصارمة التي أراد البعض أن يصهر الجميع في بوتقتها، بإقفال باب العلم والاجتهاد والادعاء بتمامية ماركس واكتمال تعاليمه.
وأتصور أن ماركسية القرن الحادي والعشرين ستكون أقرب الى ماركسية القرن التاسع عشر لا بمعنى تعليماتها، بل من حيث كونها حرّة وطليقة- وتتحرك في فضاء واسع- وسوف لا تحجز نفسها بقوالب جامدة!
وإذا كانت ماركسية القرن التاسع عشر، أي ماركسية ماركس قد عممت معارف القرن التاسع عشر وسعت الى استنباط الحلول والمعالجات للتنمية والتطور والتغيير الذي حلم به ماركس، انسجاماً مع ما توصل اليه وما عرفه من معلومات، فذلك لأن الماركسية- كنظرية جدلية نقدية وضعية- كانت في صراع بينها وبين ذاتها من جهة، وبينها وبين حركة التطور التاريخي من جهة أخرى.
لم تكن الماركسية فلسفة خالصة أو منهجاً للتحليل أو رؤية للتاريخ حسب، أو مشروعاً سياسياً أو حركة ثورية للتحرر والتغيير فقط، إنها كل ذلك، وبذلك اختلفت وتمايزت عن سواها من النظريات الفكرية التي سبقتها أو عايشتها، من الكانطية إلى الديكتارية وصولاً إلى الهيغلية.
نظر بعض الماركسيين الى الماركسية باعتبارها نهاية مطاف أو حلقة ذهبية أخيرة في الفكر الانساني، يمكن اقتناؤها أو الاحتفاظ بها كما هي، أي “متحفيتها” في حين أن الماركسية منهج جدلي، لا يشكل ماركس إلاّ حلقة من سلسلة حلقاته المتصلة والمستمرة وهي بلا نهايات. وبهذا المعنى لا يمكن اختصار الماركسية بماركس، وينبغي قراءة “الماركسية” بمنهج جدلي أي بمنهج ماركس لا بقوانينه، فتعاليمه تصلح له، وعلينا اكتشاف قوانينا وبلورة رؤيتنا.
كان ألتوسير يردّد: إن فهم التاريخ هو في قراءة الوعي بضده، وتلك أزمة المنهج التي يمكن بواسطتها قراءة الواقع بضده، كما ان الفكر يُعرف بضده.وفيما إذا كان نجم ماركس قد أفل فيمكن استعارة حوار بين فوكو وألتوسير ففي زيارة ميشيل فوكو لألتوسير في مصحته العقلية بسانت آن سأله: هل ما زلت ماركسياً؟ أجابه ألتوسير ومن تكون أنت بغيرها؟ لكن ماركس هو الذي نبذ فكرة التأطير برده هذا على برودون.
الماركسية فلسفة حضور، والحضور يعني اختلاف عن الغياب، وكان جاك ديردا في كتابه ” أطياف ماركس” قد توقف عند نصيّة ماركس، التي اعتقد ان بالامكان تجاوزها، بكتابة تؤمن بأن الاختلاف أعلى من الواقع .
ولكن ما هي ” الوضعية النقدية” إنْ لم تكن هي نقد للوضعيات باعتبار الماركسية مرحلة من مراحل الوضعيات. قد تبدو هذه “مغالطة” إذا ما قرأنا الماركسية من الخارج، ولكن إذا ما قرأنا من الداخل فسنجدها هكذا، وقد كان فضل ماركس على البشرية كبيراً بحكم اكتشافه مبدأ فائض القيمة وكذلك الصراع الطبقي، الأمر الذي ينبغي قراءته في ضوء المتغيرات اليوم، لاسيما الحداثة وما بعدها والعولمة ووجهها المتوحش، إذْ ان الحلقات المكوّنة للفهم الوضعي النقدي تقوم على أن كل نص هو مشروع قراءة، وكل قراءة هي مراجعة للنص، وبالتالي لحجم النقد في النص.
هناك تخالق بين القراءة من وجهة نظر نقدية وبين نقدية النص نفسه: ومن الأمثلة قراءة أنتي دوهرينغ وبؤس الفلسفة لبرودون ورد ماركس عليه بكتاب فلسفة البؤس وقلب الجدل الهيغلي ونقد فيورباخ ونقد برنامج غوتا.
لا بدّ من الفصل على المستوى المنهجي بين الماركسية والتطبيقات الشيوعية، وهذا يعني تخطي القوالب الذي حصرت نفسها فيها الموديلات الشيوعية، وهذا يعني أن فشل التجارب الاشتراكية لا يعني نهاية الماركسية، الاّ إذا افترضنا الماركسية الرثة، التي اتسمت بنكهة بدوية وملامح قروية، لاسيما في بلداننا العربية.
إن قراءتي الوضعية النقدية هي في إطار المنهج الجدلي وبمعيته وهو الأمر الذي يدفعني إلى القول أن هناك نقصاً قرائياً فيما يتعلق بالدين وتصويره باعتباره مضاداً للفكر، ومع أن الدين أبرز آيديولوجية دينية ” الأصول- السلف”، تلك التي لم يعرها الفكر الماركسي ما تستحقه من الدراسة والنقد، لاسيّما بفهم الدين كتراكم إنساني، لا تهميشه ولا تقديسه، لأن كلاهما يؤدي الى نتائج كارثية، خصوصاً إذا ما عرفنا حجم التأويل فيه ودور رجال الدين في التأويل والتفسير وإخضاع ذلك لمصالح دنيوية وليست ” الهية” أو ربانية!
ولعل ماركس لم يتحدث عن الدين باستثناء الكراس الذي كتبه عن “المسألة اليهودية”، في حين أن فيورباخ كان قد قدّم قراءة نقدية للدين. أما استخدام مقولة “الدين أفيون الشعوب”، فقد كان خاطئة بالاتجاهين، في التفسير والتأويل من جهة بعض المتمركسين، ومن جهة من هاجم الماركسية وحاول تصويرها باعتباره آيديولوجيا العداء للدين، تلك التي استغلت في منطقتنا لإصدار فتاوى التحريم والتأثيم وربما التجريم.
بتواضع أقول هناك نقصاً ماركسياً في تناول الجماليات لحساب الجانب الآيديولوجي، لاسيّما في الأصول النظرية، وهذه مسألة لا بدّ من التوقف عندها مثلما قرأ ماركس خطأً دور العامل النفسي، وقد ظلّت المدارس الماركسية والجامعات بما فيها في الدول الاشتراكية تحجم عن تدريس علم النفس أو حتى لا تعترف فيه لغاية أواسط الستينات.
وهناك نقصاً في فهم دور الميثولوجيا والأنتربولوجيا في إطار دراسة التاريخ والمجتمع، كما أن هناك فهماً خاطئاً لدى ماركس لجانب من المسألة القومية عندما اعتبر شعباً، مثل الشعب التشيكي رجعياً (بالمطلق)، على الرغم من أن أفق الحل الماركسي للمسألة القومية نظرياً كان صحيحاً عندما قرر ماركس: أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً، وهو ما بنى عليه لينين مبدأً صحيحاً وهو “حق الامم والشعوب في تقرير مصيرها “، وبغض النظر عن ذلك فقد جرت محاولة روسية لـ” لنينة ” الماركسية من موقع الدولة الاشتراكية البيروقراطية وهذه أدت الى تصنيمها وجمودها، لاسيّما باستخدام مصطلح ” الماركسية اللينينية” وكأنها الحدود الفلسفية التي لا يمكن تجاوزها، وبذلك تم اهمال الدفاتر الفلسفية للينين والمادية والنقد التجريبي، وهما من أهم ما كتبه.
أستطيع القول أن ماركس هو بداية الماركسية لا منتهاها، وقد آمن ماركس بحرية النقد لا دوغمائيته، ولعلّ هذا يدفعنا للقول أن المنهج الجدلي بحاجة إلى بنية جديدة تحليلية من داخل الماركسية، كما هو بحاجة الى رفد وإضافة من خارجها.
الماركسية نقدية جدلية وهي نظرية مضادة للمفهوم الميتافيزيقي للمعرفة، إذ أن الماركسية بلا نقيض هي مجرد أحلام نظرية، والوضعية النقدية تعني نقد الوضعيات، وهي المنظار الذي من خلاله أراد البعض رؤية الرأسمالية بتداعياتها وأفقها ومستقبلها، فضلاً عن قدرتها على تجاوز بعض معضلاتها البنيوية، لكن طيف ماركس وربما شبحه يظلّ يطل عليه، طالما ظلّت قضية العدالة الاجتماعية غائبة!