الوطن وتعدد الولاءات والانتماءات!
كفاح محمود كريم
بغياب مفهوم جامع للمواطنة انتشرت وسادات انماط كثيرة من المفاهيم والادبيات السياسية والاجتماعية التي تُذيب الوطن والشعب في بوتقة الدين والمذهب والعشيرة والقرية او المدينة، حتى اصبح الولاء لاحداها يسبق الولاء للوطن الجامع والانتماء للشعب الاكبر، وتصدر هذا الولاء او الانتماء للمذهب او العشيرة قائمة الاولويات على حساب المفهوم الجامع، وقد لعبت الأحزاب الدينية والمذهبية دورا كبيرا في تقزيم المواطنة وحصرها في طائفة بذاتها او دين بعينه، وساندها بشكل كبير النظام العشائري وتقاليده التي ترتقي في كثير من ممارساتها على نظام الدولة ومن ثم القانون.
إن مسألة التداخل السياسي بين الدين والوطن والانتماء في بلداننا وكيفية اقحام الدين في السياسة وشؤون الدولة وكيف يحق لنظام او حزب او مجموعة فرض تعاليم دين بذاته على مواطني تلك الدولة متعددة المكونات الدينية والمذهبية ، حولت الوطن في ظل مختلف انواع الانظمة الحاكمة فيه (ملكية وجمهورية وديمقراطية ودكتاتورية واسلامية) الى مجرد شعارات ومهرجانات واغاني واناشيد لتمجيد القائد او الحزب او الدين والمذهب، بعيدا عن اي مفهوم للمواطنة التي تنضوي تحتها كل هذه المسميات او الكائنات، فهي بالتالي اصغر منها بكثير، لكنهم اي اصحابها عملوا لسنوات طويلة على تقزيم الوطن واذابته في شخص دكتاتور او في كيان حزب مهما كبر أو صغر لن يتجاوز الا نسبة ضئيلة من مجموع ابناء وبنات الوطن.
يتساءل الكاتب والناشط المصري مدحت قلادة قائلا: كيف لنا ان نمزج او نخلط الدين بالنجاسة، وحينما سألته عن النجاسة قال: إن الدين قداسة والسياسة نجاسة، فكيف يحدث ذلك، متهما السياسيين في شرقنا بالتعاون مع بعض ممن يسمون انفسهم رجال الدين بممارسة النجاسة ويقصد فيها التحايل والكذب وربما التنافس غير الشريف من اجل الوصول الى السلطة، والوصول الى السلطة في بلداننا تستخدم كل المعاصي من اجل الكرسي، حتى وان كانت عبر ما يسمى بصناديق الاقتراع، وهي بذلك تبتعد كل البعد او تتقاطع بالمطلق مع المرتكزات الاساسية للدين الذي يعتمد أسس قيمية وروحية مقدسة لا يمكن التلاعب في ثوابتها، ومجرد ادخاله أو استخدامه في السياسة كاحزاب او مجموعات سياسية غرضها الوصول الى دفة الحكم هو تدمير لكيان الدولة وتحويلها الى دكتاتورية تحرق الاخضر واليابس، وتشويه للدين ونقائه الروحي، وبالتالي فان هذا النمط من الانظمة التي تُقزم الاوطان وتذيبها في شخص دكتاتور أو في كيان حزب سياسي او مذهب ديني او دين بذاته على حساب المواطنة التي تضم مختلف مكونات المجتمع عرقيا وقوميا ودينيا ومذهبيا، تؤدي الى انماط من القساوة التي تحدث عنها مدحت قلادة في مقاله (قساوة وطن)، تلك القساوة التي انتهت الى جرائم للابادة الجماعية (Genocide) والتطهير العرقي (Ethnic cleansing) كما حصل في كوردستان العراق فيما سٌمي بالانفال وحلبجة، او مثيلاتها التي تعرض لها الايزيديون عبر تاريخهم هم والارمن في كوردستان تركيا والعراق، وفي كل هذه الجرائم تم مزج الدين بالسياسة معتمدين على فتاوى منحرفة او اطلاق اسماء ايات قرآنية على تلك الجرائم، كما في (الانفال) التي استخدمت كعنوان لجرائم تهجير الكورد وتغييب ما يقرب من مائتي الف مواطن مدني ودفنهم احياء في صحراوات جنوب ووسط العراق، وكذا الحال في جرائم منظمة داعش الارهابية ضد الايزيديين في كارثة سنجار عام 2014م التي راح ضحيتها الاف القتلى وسبي آلاف النساء والاطفال باستخدام نصوص دينية في وطن تهيمن عليه احزاب دينية مذهبية لا تقبل الآخر وتتحمل وزر تغييب الاف مؤلفة أخرى من الرجال والشباب دونما محاكمة لا لسبب الا لكونهم من طائفة دينية مغايرة لهم.
اوجاعنا في اوطان الشرق الاوسط لا حصر لها، فقد تبعثر الوطن بين الدين والمذهب والعشيرة والحزب والقرية والشيخ والدكتاتور، واصبحت الوطنية في ظل هذه الكائنات مجرد اغنية او نشيد او شعار اجوف أو سلم لأعتلاء كراسي السلطة ليس الا!