(الوطن/ كونية) العراقورافدينيه الثانية/2
عبدالاميرالركابي
ساعة يقول ” فهد” يوسف سلمان يوسف، او “الجادرجي” بان العراق صار “طبقيا” و “ليبراليا”فانهما لايفعلان أي شيء سوى إضفاء اشتراطات حالة وظرف عالمي قائم، على واقع صار فجاة وبفعل فاعل، “دولة”. لم يسال هؤلاء حتى ابسط الأسئلة من قبيل “لماذا لم يعرف العراق الدولة الحديثة قبل مجيء الاحتلال؟” بالمقارنة على سبيل المثال، بموضع مثل مصر وهو كيان تاريخي اقل دينامية، يميل “الباحثون” الاحاديون عادة لمضاهاته بارض الرافدين وماتمخضت عنه تاريخيا وابتداء من اشكال وتاسيسات “حضارية”؟، بينما عرفت مصر التي كانت محكومة من العراق ابان الدورة العباسية، وحكمت في اعلى اشكال تجلي الفترة “الإسلامية” فيها من الفاطميين، احد التيارات العراقية/ الإسماعيلي القرمطي(1).
الغريب ان أيا من هؤلاء لم يعرف عنه أي تناول للتاريخ العراقي السابق على بداية القرن، وان جرى النظر لما سبق عام 1920 فلكي يقال بان العلاقات الزراعية الريفية العراقية مساواتيه ومشاعية ديمقراطية، من باب الحاجة لرفض سياسة فبركة الاقطاع بتغيير نمط علاقات الملكية، الناحية الاساسسية المحركة لحالة التناقض، ومؤجج الصراعية الأعلى مع الاحتلال ومشروعة و “دولته”. ويتخذ خطاب هؤلاء”الحداثوي” النافي لعراق ماقبل الدولة الحالية، تبريره من حاجة نشأت وقتها، يمكن ان نطلق عليها”المصادقة كشرط للنفي” بمعنى قبول والمصادقة على واقع كون العراق قد صار كيانا و “دولة حديثة”، كاساس لابد منه لنفي كونه كذلك تماما، بالاحتكام الى الغرب نفسه، ونموذجه، بغض النظر عن اية اعتبارات خاصة، او محلية نابعه من احكام البنية والكينونه.
وكما ان ذهاب الإنكليز لفبركة دولة وكيان من خارج اليات التشكل الوطني والنصاب الاجتماعي قد وقع اعتباطا، ومن دون دلالة واقعية، كذلك الامر بمااتصل بالحداثوية على الجيهة المناقضة من اسفل، وان لم يكن للعراق الفعلي أي حضور او اعتبار، ماكان من شانه موضوعيا، وضع هذه اللحظة بتجلياتها وتجسيداتها التناقضية، بموضع الحالة، او الظاهرة المهيأة لان تشمل بفعل الاليات التاريخية الوطنية، بصفتها مظهرا طارئا، وليس عنصرا اصيلا، وقوة مقحمة على واقع يتعداها حضورا وفعالية، وصولا الى تحولها الى “موضوع” متاثر صياغة باشكال تجل وسيروره خارجة عنه، لا العكس كما يتصور هو بناء لتخيلاته واوهامه، مايعني واقعيا ـ وبغض النظر عما هو ظاهر للعيان من حضور العنصر الحديث ـ غلبة فعل الاليات الازدواجيه على مكونات وسيرورة اللوحة المجتمعية العراقية الحديثة بغض النظر عن حضورغيرها، والوافد عليها، الأكثر ظهورأ للعيان،و الملموس البيّن فعليا.
مرت على العراق في العصر الحديث وابان الدورة الثالثة من تاريخه المعاش، فترتان من تجلي وحضور الخارج ضمن اشتراطات صادفت للمرة الأولى تاريخ ارض الرافدين ودوراته الثلاث، وبالمقارنة بالدورتين الأولى والثانيه، فان الدورة الحالية الأخيرة جاءت اليوم مختلفة عن سابقاتها في واحدة من اهم جوانب واشتراطات تشكلها، وبلوغها الأفق المتفق مع كينونتها، واليات اكتمال حضورها الكياني الازدواجي، يوم كان الأفق الخارجي لجهتي الشرق والغرب مفتوحا موضوعيا، او ممهدا، في الدورة الأولى حين اكتملت البنيه الإمبراطورية الازدواجية(2) بظل تفرد وبكورة المجتمعية المابين نهرية واسبقيتها، وهو ماافضى الى الامبراطوريات الاكدية والبابلية، ومحايثتها الابراهيمية، وفي الثانية العباسية القرمطية الانتظارية، حيث اكتملت الكيانية الإمبراطورية الرافدينيه المابين نهرينيه، ضمن اشتراطات مشابهه، وفرها الفتح الجزيري الذاهب الى الصين والهند، في حين بدات عملية التشكل الثالثة الحديثة، ضمن ظروف مخالفة تماما، فكان انبثاقها أصلا، مع انها ارتكزت لالياتها الذاتية البحته، كما الحال في الدورة الاولى، في ظل الحضور البراني ضمن كيانيتها من اعلى، وعاصمتها المنهارة، على فترتين وطورين، شرقي بداية، وغربي انتهاء.
وظروف تشكل المشهد الأخير الحالي، تضفي بحكم اختلافها عن سابقتيها، صعوبة اضافيه تزيد من تعذر اكتشاف حقيقة السيرورة المعاشة راهنا، بالاخص مع ما يرافق التشكل الازدواجي الحديث من أسباب تبدو مكرسة لامتناع تحققه العملي، الامر الذي يضعنا بمواجهة شبه استحالة على صعيد الادراك، باعثها ثنائية، طرفاها: التعذر الطبيعي التكويني التقليدي، ثم قوه اثرالنموذج الحديث الغالب على مستوى المعموره اليوم، مايجعل من العامل المفترض به لعب دور السبب المساعد، المعين على اكتشاف المطوي في النموذج المجتمعي الرافديني، يتحول لعكس المرجو منه، لابل والى عنصر ناف للخاصيات، ومغيب لعناصر البنية والكينونه التاريخية المتعذرة على الإحاطة اصلا، ومايكون او هو من قبيل “العلم” او بداياته التاسيسية المبشرة بإمكانية التعرف على الظاهرة الاجتماعيىة في الغرب/ “علم الاجتماع”، يصير حين يتعلق الامر بالحالة الرافدينيه الازدواجية، من قبيل الحجة الإضافية المكرسة للاحادية، والمعممه لها كنموذج غالب، وممكن وحيد.
كل هذا كاف لان بضع النمط الازدواجي الرافديني في وضع استحالة مضاعفة، بقدر مايتعلق الامر بالادراك، أوالتعرف الضروري على الذات، ومدى الحاحه، بالاخص اذا كان النمط والنموذج المقصود، منطويا على مالايمكن الاستغناء عنه على مستوى الاليات، ومايتصل بها من مضمر غير قابل للتجاهل، لارتباطه الوثيق بالصيرورة المجتمعية، لاالرافدينيه بالذات او هي يذاتها فقط، بل وعموم الظاهرة المذكورة عالميا. حيث يصير الجهل بمضمر النمط المجتمعي الازدواجي، وتعذر الإحاطة به على مر التاريخ المجتمعي، اقرب الى الامتحان العقلي، والارتقائي الاجباري، الاخذ عبرالطريق المتجه نحو مصير ومآل الظاهرة المجتمعية كما هي مقدرة، باعتبارها حالة “تحوّل” سائرة حكما الى مابعد مجتمعية، والى انتهاء صلاحية الظاهرة المجتمعية بعد أدائها للمطلوب منها، ومن وجودها، بما هي حالة ترق للعقل، وتهيئة لازمة ولا غنى للعقل عنها، قبل بدء عملية انتقاله الى الاكوان العليا.
ماتقدم هو بالدرجة الاولى وعلى قدر الممكن، جهد تحفيز للعقل، او مايمكن اعتباره افقا من موجبات الترقي الوجودي، واللحظة وماتقتضيه من أسباب السمو اليها، اذا اردنا ان لا تستمر حالة “اللااحاطة”، وتظل تلعب دورها المبدد، وبالاخص العقل المحكوم الى الان بحدود ونطاق النموذج والمفهوم الغربي، المحايث لشكل التنظيم المعتبر الأعلى مجتمعيا، أي الدولة الحديثة ( الدولة/ الامة)، او الديمقراطية، او المدنيه، بحسب التسميات القارة، والتي تغدو من هنا فصاعداـ واكثر فاكثر،خارج الاستعمال، سواء بحكم الاستهدافات والقوانين الوجودية الناظمة للعملية المجتمعية تاريخيا، والخارجة عن الإرادة البشرية، او من ناحية وظيفة العقل المجتمعية، ومابعد المجتمعيه، الامر الذي مازال من البعيد مناقشته، او عرضه مفصلا خلال مانحاول تقديمه من كتابات ماتزال لم تصل بعد حد إلتوفر على صيغة، او نوع معالجة مناسبه لتخطيه كحائل تفاهمي خطر للغايه، خصوصا مع هيمنته المكرسة بفعل الزمن والتكرار،والاعتياد القاتل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاوجود ولم يعد من حضور للاسلام المحمدي المباشر الجزيري بذاته، بل تحول لاسلام فقه مذهبي ( حنبلي ، شافعي ، حنفي ، مالكي) ومذهب خامس “اثنا عشري”، وكلها مذاهب عراقية، تولدت ضمن الصيرورة الإمبراطورية التي عادت للتشكل بعد ان ايقظها الفتح الجزيري، واطلق الياتها المعطلة بالاحتلال الفارسي وأسباب أخرى، ذلك غير التيارات الفكرية الأخرى الإسماعيلية والتشيعية بمختلف توزعاتها، والقرمطية، واخوان الصفا، والاعتزال، وقبلها الخوارج، ومانجم عنها من موجة فتح ثانية، وصلت مصر عبر المغرب، والشام، عدا اليمن والبحرين، والجزيرة العربيه ذاتها، علما بان الفاطميين هم من عربوا فعليا مصر واسلموها، ووضعوا فيها “ازهرها”، ولا ننسى مابعد الفاطميين، والجهة التي جاء منها صلاح الدين الى ارض النيل.
لاشي ظل جزيريا كما نشأ تاسيسا وابتداء،لا اللغة التي قعدت وقننت في ارض الرافدين، ولا الشعر وعروضه، ولا السيرة النبوية،او التاريخ، فالاسلام التاسيسي الجزيريي، هو اسلام الدعوة والفتح وحسب، ينتهي مع بدء التشكل الامبراطوري الازدواجي الثاني الرافديني، وابتداء التجلي الابراهيمي الثاني في الموضع الأصل، الاعلى آليات على مستوى المنطقة والعالم.
(2) لن يقبل فطاحل الأحادية الحداثية المنقوله، فرضيىة الازدواج الامبراطوري اطلاقا فهم في بلد “متخلف”، سائر الى تحقيق الثورة البرجوازية، التي حلت على الغرب ونسيته، وعليه اللحاق بها. وهذا الصنف لايمكن ان يقبل مجرد التفكير بوجود مكان لم يتجل في تاريخة اطلاقا، ومنذ يومه وصيرورته الكيانية المجتمعية، الا امبراطوريا، ليس لمرة واحده فقط، او لمرتين، بل لثلاث مرات مشهودة وكبرى على مستوى التاريخ والحضور والفعل، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فان هؤلاء لايرون من العراق الا مابعد عام 1921، لهذا هم كببغاوات ناقلة ومتماهية مع مالا يصح فيها، ولا ينطبق عليها، لن يقروا بانتساب القرون الثلاثة، من السادس عشر الى العشرين والياتها الذاتيه، وتشكلها السابق على حضور الغرب، الى القاعدة البنيوية التاريخية الازدواجية الإمبراطورية، بصفتها ثابته وطبيعة، مقارنه بالغرب ودولته، ونموذجه ومفهومه الذي هو بالأحرى، وبناء على المعطيات التاريخيه المختبرة والمتكرره هنا، “طاريء” ليس ثمة مايبرر اخذه باعتباره قاعدة حكم، وبديل عن اصيل.