————————————————————
د. حسين سرمك حسن
لعلّ الوردي من أوائل المفكرين العراقيين والعرب الذين دعوا إلى المراجعة النقدية لمعطيات التاريخ العربي الإسلامي من دون وضع تابوات وحدود محرّمة مسبقة ، لا من ناحية الأشخاص ولا من ناحية الوقائع .
لقد عُقدت ندوة علمية في كلية الآداب كان شعارها ” نحو ترصين البحث التاريخي في العراق ” ، وكان مُخصّصا لها أربع جلسات لم يحضر الوردي سوى الجلسة الأولى منها ، وخرج قبل انتهائها ، ولم يشارك في مناقشاتها . وحين سُئِل عن السبب – كما نقل لي ذلك الباحث الأستاذ سلام الشمّاع – قال :
( إني أقدّر تلك الندوة كل التقدير ، ولكني لم أستطعْ المشاركة في مناقشاتها لما كنت أشعر به من توعك صحّي . وقد قرأت البحوث التي كتبها أعضاء الندوة ، فاستفدت منها فائدة كبيرة ) .
وبعد هذا التمهيد المُهادن والهاديء الذي يحيّد رد فعل الطرف المقابل إن لم يستمله ويخدّر دفاعاته ، وحتى يدغدغ نرجسيته (وهذه من السمات الأساسية في أسلوب الوردي كما سنرى ) ، يبدأ بالتقرّب التدريجي من هدفه المركزي الذي لولا هذا ” التكتيك ” لتحقّقت الصدمة المباشرة منذ البداية بنتائجها السلبية المتوقّعة. وهو إذ يقترب خطوة من وجهة نظره المغايرة ، فإن اقترابه يكون عادةً من خلال أطروحة عامّة تؤسّس جسراً مشتركا بينه وبين الطرف المقابل ، وتساهم في إضعاف الاستجابة الدفاعية لديه ، فيقول :
( وهنا أريد أن أنتهز الفرصة لكي أبدي رأيي في كتابة التاريخ بوجه عام ، وهو الرأي الذي شرحته غير مرة في كتبي . في رأيي أن المؤرخ يجب أن يكون موضوعيا وحياديا في دراسته لأحداث التاريخ . فهو في ذلك كالقاضي الذي ينظر في قضايا المتخاصمين عنده ، إذ هو يجب أن يكون حياديّاً تجاههم ، وكلما كان حياده أكبر كان هو أقرب إلى العدالة ).
ثم يدخل ساحة رأيه الفعلي الذي يحاول تلطيف فعله الاستفزازي المُتوقع في نفس المقابل من خلال إعلان أسفه الشخصي لأن الأطروحة السابقة المحايدة والمُتفق عليها لا تُرضي البعض من المؤرخين . وهو هنا يُكمل خطة نفسية استدراجية مُحكمة لأنها تضع الطرف المضاد في موضع المشاركة في مسلمات عامة متفق عليها سيجد أن من الصعب عليه الانتقال الفوري منها إلى موقع الخصومة . يواصل الوردي طرح وجهة نظره فيقول :
( يؤسفني أن أقول أن هذا الرأي لا يرضى عنه بعض الأساتذة ، وقد لمحت ذلك في بعض المشاركين في الندوة . فهم يطلبون من المؤرخ أن يكون متحيّزا نحو وطنه أو قومه عند دراسة أحداث التاريخ ، فيذكر الجانب الحسن منها ، وينسى الجانب السيّء . قرأتُ ذات يوم في إحدى المجلات الجامعية في العراق مقالة لأحد الأساتذة كان يدعو فيها إلى كتابة التاريخ على أساس الحماس والتمجيد والفخار، أي ذكر الجوانب الحسنة من تاريخ وطنه وأمته وإهمال الجوانب السيئة منه ، فإن الجماهير في رأي هذا الأستاذ في حاجة إلى تحريك وتوعية وإيقاظ . وهذه هي وظيفة المؤرّخ في رأيه . أما المؤرّخ الذي يذكر الجوانب السلبية من التاريخ بصراحة فهو يكون بالنسبة للجماهير كالطبيب الذي يصارح طبيبه بمرضه المستعصي وهو قد يؤدي به إلى انتكاسة نفسية تزيد حالته سوءا )
(ورقة بخط الراحل الوردي استلمتها من الأستاذ سلام الشمّاع .. فشكراً له) .
والآن ، وبعد أن هيّأ الوردي الجو النقاشي لاستقبال رأيه المخالف نجده يطرحه الآن بعبارات هادئة غير مستفزة :
( إني كتبتُ تعليقا على مقالة هذا الأستاذ في حينه قلت فيه : إذا جاز تشبيه المؤرخ الحيادي بالطبيب الذي يصارح مريضه بمرضه المستعصي ، فإنه قد يجوز كذلك تشبيه المؤرخ الحماسي بالطبيب الذي يترك مريضه جاهلا مرضه ويسمح له بالحركة والأكل كما يشاء قائلا له أن صحتك على خير ما يرام . وفي ختام تعليقي على مقالة الأستاذ قلت ما نصه :
” أننا في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخنا في أشد الحاجة إلى التوازن بين دافع الحماس ودافع الموضوعية في أنفسنا ، فليس من الخير أن يسيطر الحماس على تفكيرنا دوما ، كما أنه ليس من الخير أن تخلو قلوبنا من الحماس ” (202) . (وبالمناسبة هذه النتيجة مكررة بالمفردات نفسها تقريبا من كتاب الوردي “الأحلام بين العلم والعقيدة” ومن كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث – ج/1، وسوف نتناول سمة “التكرار” في أسلوبيّة الوردي في الحلقات المقبلة) .
لقد بيّنا سابقاً أن الوردي كان من اشد المناهضين لوجهة النظر “الملوكية” في كتابة التاريخ وفي إعادة كتابته ، وهو – هنا – يعيد هذا الرأي وسط أجواء محمومة من الحماس للأمّة والدعوة إلى نهوضها وتعزيز وحدتها وسطوتها . فأي جرأة وموضوعية مؤمنة هذه يتمتع بها الوردي ؟! . وسنرى قريباً أنّ الحماسة وكثرة المتحمّسين تغلب شجاعة الرأي وقوّة الموضوعية .
الوردي : (29) كيف يُكتب التاريخ ؟ المؤرّخ المحايد هو الذي يصارح مريضه بمرضه المُستعصي
اترك تعليقا