النّزعة العاطفية .. وقسوة التجربة
في قصيدة (الحُبّ وأشياؤه الأخرى) للشاعرة حذام يوسف طاهر
سعدي عبد الكريم
لقد تعاملت الشاعرة (حذام يوسف طاهر) في قصيدة (الحُبّ وأشياؤه الأخرى) مع مداركها الحسيّة بقوام واقعي صادم من خلال تنافر نزعتها العاطفية مع قسوة التجربة التي عاشتها ، حيث أدت بالتالي إلى بثّ شعورها المُتخم بالرهافة والقسوة معاً للتعبير عمّا يجول في ذاكرتها المُعبئة بكم هائل من التداعيات المؤلمة التي حفرت لها أثرا بالغا في تراتبية تلك التجربة التي تركت بداخلها قلبا منكسرا يلعب ادوار الحُبّ الخفيَّة والمُستعصية على الظهور بشكلها العاطفي والإنساني وبصورة جليَّة ، ويرجع هذا النكوص برأينا إلى المزاجية الحادّة في تعبير الشاعرة عن مكامنها الداخلية ، واتخاذ المواقف الجادّة التي جاءت متوائمة مع معالم الإتقان في توظيف أدواتها الفنية داخل نسق النصّ من خلال مفردتها وألفاظها القاسية التي وضفتها في رصّ غضبها داخل معطيات صدمتها اللحظية الأولى ، للتحضير لملاحق الانتقام التالية ، وإفراغ تلك المظاهر والشحنات في مشهدها الشعريّ ، والتعبير عنه عبر أحاسيسها الغاضبة التي ربما لم تتعافي منها بعدُ ، فوزعتها على مضامين جهدها الشعريّ الذي يحلق أحيانا صوب مديات بالغة الشدّة في التعبير عن تجربتها المريرة على ضوء تحليلنا من خلال المبثوث المتراكم عبر معطيات مداركها الحسيّة ، ودوافع نزعتها العاطفية ، ومن الدلائل الهامة المُترتّبة على خفايا تجربة الشاعرة العاطفية الممزوجة برقة أنثوية خاطفة ، ومشاعر داخلية مسالمة أحيانا ، وأحيانا كثيرة مضطربة وعاصفة.
نرى من وجهة نظرنا الاستقرائية .. إن عوالم الأثر الفاعل في استعمالاتها للمنافع العاطفية التي تتجلى بحيزها الأكبر في الرفض داخل بواعث النصّ ، وبتوالد عميق مأخوذ بالغضب الغير مشفوع بالرضا وعدم الامتثال لخصائص نكران الذات ، أو العفو عن الأسباب المؤدية للحالة التي وصل لها مشروع الحُبّ وأشياءه الأخرى ، التي عبرت عنه بشيء من المباشرة تارة ، وتارة أخرى عبر الرمز أو الإيحاء ، للإشارة إلى الطرف الغائب الذي يبدو لنا بأنه وقف عاجزا في تقديم دفوعاته المبررة ودوره في فشل التجربة.
ونجد بأن امثل صورة صاغتها الشاعرة في محاكاة تجربتها مع الطرف الآخر الغائب ، هي الصورة التي تتنافر فيها النزعة العاطفية مع قسوة التجربة من خلال تأسيس مشروع الحُبّ الذي تناولته حينما تعبّر عنه في افتتاحية القصيدة مصرحة :-
أعلم إنك غادرت ..
فمنذ ألف وهم وأنت
ليس هنا
في خضم تأجج العاطفة في دواخل (الشاعرة) تصرح في هذا المقطع الاستهلالي من القصيدة بأن (الحبيب) او الطرف الآخر الغائب الذي نجهل معالمه ، وربما يكون قد غادر حياتها ، ولا يستطيع المثول في ذاكرتها أو الوقوف أمام محكمتها التداولية الحاضرة في زمن الكتابة ، لأنه منذ (ألف وهم) وهذه استعارة رائعة في انزياح المعنى لينجب معنى ثانٍ لتلك المغادرة فـ(هو ليس هنا) بمعنى انه قد غادر اللحظة التي تعيشها ، او غادر حياتها منذ بواكير تواجده فيها ، وهذا الاستدراك الانزياحي يأخذنا إلى عالم متكامل من الصدق ، والبوح بالحقيقة الغائبة دون مواربة ، واللعب على تداعيات التجربة في أثرها النفسي القاسي في حيثياته المتوالدة من أقاصي مراحل مآسيها ، وقد أطرت الشاعرة هذا المقطع بالكثير من التذاكر مع العاطفة لاتخاذ موقفها الثابت.
نلاحظ في مقطع آخر من القصيدة أن الشاعرة أوغلت في تحدي عوالم التجربة وإعلان موقفها الثابت لمغادرها بفعالية قوة شخصيتها ، وإخضاع ملامسها الحسيّة العاطفية إلى توابع ذات مجسات مواقفية حازمة بإقرارها الثبوتي ، حيث تقول فيها:-
ستبحث عني كثيرا
ولن تجدني
ستكتب عني كثيرا ..
ولن تقرأني س …… تبقى تحبني
لكن الذي في داخلك
سيبقى يلعنك !
إن هذا الإفصاح المُعلن الذي يشي بأن الطرف الآخر الخفي الغائب سيلهث طويلا خلف محاولات إعادة إنعاش التجربة الفائتة ، ولكنه وكما يبدو من تصريحها الواضح بأنه عبثا يحاول ، لأنه (سيبحث عنها كثيرا) ولكنه (لن يجدها) ان هذا الشعور الداخلي الوجداني العالي المتدفق كان ملمحا فحيويا ذاتيا في رصد المعنى في النصّ وفي تكوين الحالة الشعورية التي تدور في ملحق الوعي الكامن لديها ، ويأتي التأكيد على انه (سيكتب عنها طويلا) لكنه لن (يقرأها) وفي احتدام شعوري ملهم تصرح بموقفها اليقيني في إعلان ان الطرف الأخر الغائب او المُغيَّب قصرا (سيبقى يحبها) لكنها وضمن مشروعية موقفها الثابت تعلن ان (الذي في داخله سيبقى يلعنه) وفي عملية تتبع استقراء المخبوء لدى الشاعرة نجدُ في نهاية المقطع بأنها أحسّت بأن شعور تملكها لناصية القرار يمنحها قوة فاعلة في حيز التسيّد على خصوصيتها كامرأة ، وهذه اللعنة التي ستحط بآثامها على الطرف الآخر ، لتكون المكافأة الكبرى التي منحتها له لعدم حفاظه على تلك العلاقة التي تبدو لنا بأنها علاقة ولدت ميتة بين طرفين غير متكافئين في موارد الوعي ، ومعطيات المعرفة ، وأيضا في التعاطي مع التجربة العاطفية التي عاشاها.
وفي مقطع تالي تقرر الشاعرة على ان الطرف الآخر لم يكن بمستوى تلك التجربة العاطفية ، وذلك المخاض الإنساني لتقول:-
أيها البدوي (المتحضر) !
لم تكن إلا أنت
تغادر حروفنا الأولى
وتقتل أغنية على عتبة الوهم
نلاحظ بأن الشاعرة وهي تصف التجربة في سلسلة من المعالجات الوصفيّة التي أرادت عبرها كشف اللّثام عن ماهيّة الحبيب الغائب الذي لا يتمتع بالأهلية لكي يمضي قُدما في مواصلة التجربة وإحيائها لأنه وكما تصفه (البدوي المتحضر) انه وصف ثنائي الأبعاد بطرفيه المتناقضين ، إنها تُشكّل مشاعرها وفق تجربتها الحيّة التي خاضتها مع الغائب والتي لجأت إلى إخفاء معالمه عنا بفرضية عدم كشف هويته ، او ربما كانت محاولة منها لطمس معالمه وفق معايير تنافر عاطفتها مع تجربتها القاسية معه ، وارجّح تماما توفيقها في تلك المحاولة الجريئة ، لأنها أرادت ان لا نستشعر معه بالرأفة والتعاطف ، أو التعامل معه برفق أو التماهي معه ومع حُججه الواهية التي ربما سيقنعنا بها أبان لحظة المواجهة ، أو محاولة تقديم مرافعته المشروعة في قاعة محاكمة التجربة برمتها ، وهذا (البدوي المتحضر) الذي لم يكن في حساباتها سوى (إلا أنت) وهذه الصفة تعبر عن مدى نرجسيته وبلادة مشاعره ، ومواقفه الغير مسئولة عبر مدارات تلك التجربة ، وهو الذي لم يكن إلا شبحا قد اختار ان يغادر زمن تكوير حروفهما الأولى ، وبحسب وصفها (تغادر حروفنا الأولى).
إن تدفق تلك الأحاسيس والمشاعر القاسية اتجاه الحبيب الغائب عن أنظارنا والذي تصفه بالقاتل حيث تقول (وتقتل أغنية على عتبة الوهم) ثم تعود لتصف تجربتهما على أنها كانت أغنية يترنما بها ، لكنها تعود لذات الإشارة لمعادلتها الأولى لتطلق عليه صفة الغدر فهو يقتل الأغنية على عتبة الوهم ، ذلك الوهم الذي غلف حياته التي تستشف منها بأنها كانت مجرد وهم قاده إلى قتل تلك التجربة بنزقه ونرجسيته التي ذبحت تلك التجربة على عتبة الفردانية ، وعدم الوفاء.
وفي نهاية المقطع تختتم الشاعرة (حذام يوسف طاهر) بتصريحها في تقليد ذاتها الساخطة وشاح مراسيم الحكم على التجربة بقولها.
أرجوك ..
لا تبحث عن جدائل حروفي
فلن تجد سوى أحرف العلة !
إن هذا الإحساس الطافح بالعدل والدفاع عن الموقف العاطفي والإنساني وربما الفكري الصادق الحقيقي الذي لجأت إليه الشاعرة للإفصاح عن ملامحها الرقيقة المشفوعة بالرقي من خلال ما تشكّل لديها من منابع عاطفية وحسيّة ونفسية تفضي الى تأشير ملامح شخصيتها ، وفي وصف ذلك التنافر بين الصراع العاطفي المُعتمل داخلها ، وبين قسوة التجربة ، ليصبح من الضروري التنفيس عمّا يجول في ذاكرتها متكئة على قوة شخصيتها وبتعويض تحيطه قيمة إنسانية عالية عن مجمل مشاعرها المتأججة حتى أنها لجأت إلى الرجاء ، وفي تقديرنا هو رجاء نابع من مصادر قوتها ، لا توابع ضعفها ، حيث تقول للغائب عنّا كمستقرئين نقف على الحِياد في إصدار أحكامنا التي من شأنه النظر بعيون أكثر اتساعا ، وبتفاعل جدّي مع النَّسق التصاعدي داخل بنيّة النصّ ، وهو الغائب الحاضر في ذات الوقت وبامتياز واضح ، والتي تخاطبه بـ(ارجوك) وهذا الرجاء يعود بتبعيته إلى منافع للشاعرة صاحبة التجربة لا بالضَّد منها ، حين تكمل قائلة (لا تبحث عن جدائل حروفي) وهذا البحث سيكون بحثا مضنيا دون جدوى لأنه لن يجد ما يروي ذاتيته الغارقة بالنزق ، ومحاولاته المستمرة في إفشال تلك التجربة ، حيث تقول له (فلن تجد سوى أحرف العلة) وهذه الإشارة لحروف العلة في نهاية المطاف هي دلالة واضحة على انه لن يجد سوى الخيبة وما لا يرضيه ، لأن اشتغال حروف العلة في اللغة هي اشتغالات ضمن اطر محددة باعتبارها أصوات متحركة تساهم في نطقها الشفاه ، وهذا المعنى في الإيراد المشفّر الذي تبثّه الشاعرة في النصّ دليل على ان الغائب لا ينظر الى التجربة العاطفية تلك بقلبه ، لكنه كان يتلفظ بها ، او ربما يتشدق بها ليس إلا ، وحروف العلة حروف معتلة متحركة لا تشتغل إلا مع الأصوات الساكنة التي لا يمكن لفظها إلا معها بسبب مخارجها ، وهنا تؤكد (حذام) بأنها ليست صوتا ساكنا ، بل هي كينونة مُشكَّلة مُتخمة بالعاطفة ، وبموارد المدارك الحسيّة العالية ، وبالمواقف الثابتة التي تشفع لها برفض العيش في كنفه المأساوي ، وعند العودة لمشروعية هذا الاستثمار اللفظي الدال الذي يحتاج إلى تفكيكه لإيجاد منبع مدلوله المرمز والذي أرست دعائمه الشاعرة في وصفها الدقيق ، بأنه لو بحث عن جدائل حروفها فأنه لن يجد إلا حروف العلة ، أنها كناية ملازمة للرفض وعدم التراجع عن الموقف الثابت ، واعتبار التجربة من الماضي الذي لا يمكن لها العودة إليها البتة ، أو تكرار ذات اللعبة المقيتة ، لأنها قررت بوعي كامل ، وبموقف جلي بأنها قد غادرت التجربة بكلّ تفاصيلها بداية من مشروع الحُبّ .. إلى أشيائه الأخرى.
لقد حفرت الشاعرة بعيدا في اللغة لتأسيس نصّها الشعري وفي وصف تلك التجربة التي أوجعتها وسببت لها الكثير من الأسى ، ومغادرة مواطن ذلك الوجع الذي خرجت منه متعافية ، فقد آثرت الاحتفاظ بشخصيتها كامرأة ، وبرقتها كأنثى إزاء فحولة المُحبّ الغائب الكاذبة ، رغم إنها تعاملت مع التجربة برفعة عالية ، وثبات موقف جاد ، وتكوَّرت لديها الفكرة الخاطفة واللامعة في هدم كلّ الذكريات التي أفرزتها تلك التجربة العاطفية المرّة بجلّ ملاحق قسوتها وآلامها ، وسطرتها بلغة سلسلة ، وصور باذخة الجمال والقسوة معا لاحتواء المشاهد المأساوية النابعة من الأحاسيس الصادقة ، والعواطف المتجمهرة في دواخلها والتي خلقت ذلك الموقف الحاسم في استرداد حريتها المفقودة.
إن عملية الإحاطة بتطور مؤشرات تلك التجربة القاسية والمؤلمة والتي أخذت مظهرها السياقي الخارجي ، وشكلها النّسقي الداخلي من حيثيات ثبات موقف المرأة إزاء تجربتها العاطفية ، ذلك الثبات المشفوع بالتَّسلسل التصاعديّ في مهام السَّرد الذي سطرت معالمه بدراية العارفة ، ومُكنة السَّاردة الشاعرة المبدعة (حذام يوسف طاهر) من خلال هيبة مواقفها العالي ، وعنفوان رقيّها الإنساني ، بالرغم من تنافر نزعتها العاطفية وقسوة تجربتها ، لكنها استطاعت من خلال تلك التجربة المأساوية التي سطرت ملامحها ، ورصدت تفاصيلها في قصيدتها الرائعة (الحُبّ وأشياؤه الأخرى) أن تقدم لنا نصّا شعريا رائعا .. امتاز بالإبداع .. والجرأة في اتخاذ الموقف .. وبالكثير من الصدق.
سعدي عبد الكريم/كاتب وناقد
نصّ قصيدة / الحب وأشياؤه الأخرى
حذام يوسف طاهر
أعلم إنك غادرت ..
فمنذ ألف وهم وأنت
ليس هنا
تشكّل حروفا من اللا معنى
يا أنت
ستبحث عني كثيرا
ولن تجدني
ستكتب عني كثيرا ..
ولن تقرأني س …… تبقى تحبني
لكن الذي في داخلك
سيبقى يلعنك !
أيها البدوي (المتحضر) !
لم تكن إلا أنت
تغادر حروفنا الأولى
وتقتل أغنية على عتبة الوهم
أرجوك ..
لا تبحث عن جدائل حروفي
فلن تجد سوى أحرف العلة !