خيطٌ رفيعٌ يفصلُ بين المجاملة والنفاق. المجاملةُ مجازٌ يبالغُ في المشاعر قليلا ليبني جسورًا من الودّ بين الناس. أما النفاقُ فكذبٌ وتزوير في المشاعر؛ هدفُه التضليلُ لنيل المصالح وسرقة حقوق الغير. المجازاتُ عمادُ حديثنا اليومي، ولذا فالعقل البشري قادرٌ على التعامل معها بتسامح وفهم، دون أن يضعها في خانة الكذب والتضليل. كأن تقول لصديقك: “قطعتُ الطريق في ساعتين”، فلن يقول لك إنك كاذبٌ لأنك لم “تقطع” الطريق. أو حين تقول لحبيبتك: “بموت فيك”، أو “مزّقت صاحبي في المباراة، وطرحتُه أرضًا في النقاش”. فلا أنت مِتَّ، ولا أنتَ مزّقتَ ولا طرحت أحدًا أرضًا. لكن المنصتَ إليك يفهم تلقائيًّا أن كلامك مجازٌمسموحٌ به. ناقش تلك الغزيرة في الدماغ البشري كتابٌ صدر عام 1980 عنوانه “Metaphors We Live By للكاتبين “جورج لاكوف”، و”مارك جونسون”، وترجمتُ منه شطرًا للعربية. ويؤكد الكتابُ أن العقل البشري مبنيٌّ على قبول المجاز وإدراك المعنى بيسرٍ على النحو الكِنائي لا الحَرفيّ. فى فيلم “اسمى خان” يقول البطلُ المتوحّدُ “شاروخان خان”: “لا أفهم لماذا يكذب الناس! يقول لك شخصٌ: تعال إلى بيتي أيّ وقت، البيت بيتك، وحين تزوره في أي وقت، ينزعج! الناس يقولون ما لا يعنون!” هنا أزمة المتوحّد الذي يصدق الكلامَ بحَرفيته، ولا يعترفُ بالمجاز أو المبالغة أو المجاملة.
لكن “الكذب والنفاق” يقعان في منطقة أخرى مخيفة تُضلِّلُ وتغشُّ وقد تُفجّرُ الحروب، وتدمر المجتمعات. عام 1949 أصدر “يوسف السباعي” رواية “أرض النفاق” ليناقش تلك الآفة المجتمعية القاتلة، متصوّرًا أن الأخلاق ونقائضها من نفاق وكذب ورياء الخ، يمكنُ غرسُها في الإنسان عن طريق أكاسير تُلقى في مياه النهر ليشربها الناسُ فيتحلّون بتاج الصدق أو يتدثرون بعباءة الكذب.
من زاوية أخرى تناول المؤلفُ والسيناريست “عمرو محمود ياسين”، ظاهرة النفاق والكذب عبرَ دراما “النظارة البيضاء”، حيث اخترع عالِمٌ شابٌّ نظارةً يضعها المرءُ ثم ينظرُ في عيني مُحدّثه لتقوم النظارة بتحليل ضغط الدم وحساب نبضات القلب، وبتحليل الداتا تحدِّدُ تفاعلات المتحدث وتُدرك إن كان متوترًا أو خائفًا أو كاذبًا. ولم ينجُ أحدٌ من الكذب، من محيط المخترع العائد لتوّه إلى وطنه من أمريكا. الجميعُ وقعوا في فخّ الكذب والتضليل، بعضهم فعل هذا بخبثٍ بغرض النفعية الانتهازية، وقليلون فعلوا هذا بحسن نيّة مثل الأمّ الطيبة التي كذبت على ابنها لحمايته من نِصال التنمّر والاستغلال. الدراما الجميلة تأليف وسيناريو وحوار “عمرو” نجل الفنان الكبير “محمود ياسين” والفنانة الجميلة “شهيرة”، وإخراج “عصام نصّار”، وبطولة الفنان الجميل “أمير المصري” الذي أدى الدورَ بأستاذية. ولعلّ في عبارة “النظارة البيضاء” يكمنُ المعنى الذي أراد المؤلفُ تكريسَه. حيث يطمحُ العملُ في تنقية العالم من “سواد” الكذب، لتصفو العيونُ وتُنقّى الدنيا من أدرانها خلال نظارة “بيضاء” تهفو إلى النظافة. وتُحيلنا “النظارةُ البيضاء” إلى نقيضها الدرامي ” النظارة السوداء” إحدى قصص “إحسان عبد القدوس” حيثُ ألبسَ بطلتَه الجميلةَ “نادية لطفي” نظارةً سوداء تختفي وراءها من عالم لا ترى فيه إلا الفساد واللهو الرخيص، فتهربُ منه بالانخراط فيه حدَّ الغرق، حتى ينقذَها الحبُّ في الأخير؛ وتخلع نظارتها السوداء لتبدأ حياة الجِدِّ الناصعَ المتحضّر. لكن، على النقيض من هذا، لم ينقذِ الحبُّ بطلَنا “الدكتور فخر” مخترع النظارة البيضاء، بل أكّد له للأسف أن حبيبته الجميلة، “كارولين عزمي”، التي أشرق الحبُّ من عينيها وفتح أمامه بابَ الأمل الموصدَ، هي الأخرى كانت كاذبة ولصّة استغلّت مشاعرَه لسرقة اختراعه وجني بعض المال. غادرت دراما “النظارة البيضاء” عيونَنا بعد خمس حلقات دون أن تضع لنا حلاًّ تبشيريًّا ولا نهاية سعيدة. بل أكدتْ لنا أن الصدق التام ضربٌ من المحال في عالم المصالح والنفعية الراهن. غادر المخترعُ وطنَه بعدما عطّل عمل النظارة البيضاء المسروقة، وعاد إلى أمريكا. هو بالقطع لا يطمح أن يرى الصدق في بلاد العمّ سام، فالكذبُ فيما يبدو صنوُ الإنسان أينما كان، لكنه قرر الهربَ من مطاردة الكذب في عيون الأهل والأصدقاء في الوطن. فكذبُ الغرباء أقلُّ وطأةٍ من كذب الأحباء والأهل. تركتْ لنا الدراما البابَ الأخير مفتوحًا على جميع الاحتمالات. ليكتبَ كلُّ مُشاهِد النهاية والخاتمة بقلمه الخاص وفقَ تجاربه وخبراته ومكوّنه النفسي.
شكرًا لصنّاع العمل الجميل “النظارة البيضاء” التي كانت بمثابة “مِرآة ميدوزا” التي نشاهدُ على صفحتها أدرانَنا الأخلاقية وخطايانا في حق أنفسنا وحق الآخرين، لعلّنا ننجحُ في الاغتسال منها، أو من بعضها.
-النظارةُ البيضاء- … تفضحُ دنيا النفاق
اترك تعليقا