النصر للذباب والبعوض
مذكرات من زمن البارود
بقلم.. علاء الاديب
المكان موضع تحت الأرض بثلاثة أمتار مغطى بالصفيح وكومة من التراب في إحدى جبهات القتال والساعة تقترب من الثامنة مساء.ودرجة الحرارة اكثر من 54.درجة اما الرطوبة فلن تقل عن رطوبة نهر جاسم الذي دارت حوله معارك دامية .
القصف لم يهدا منذ الضياء الأخير لذلك اليوم فهو غاضب اشد الغضب في تلك الليلة فبين قذائف الهاون والمدفعية الثقيلة والمتوسطة .لن تسمع هناك الا صوت الانفجارات وصوت الشظايا التي تمزق الأجوء بلا هوادة.واصوات الذين تختارهم قذائف العدو للموت فصيحاتهم تتعالى فمنهم من يكمل الصياح ومنهم من لم تسعفه الحياة الا لصيحة واحدة.
كل هذا لم يك يؤرق النقيب الذي كان في الملجأ مع خمسة من جنوده فكل هذا بات عاديا جدا في حرب طويلة ضروس.
اكثر ماكان يؤرقه ذلك البعوض المنتشر في كل مكان والذي كان يمتص من دمه ومن دم جنوده كما يمتص دماء القتلى المنتشرين في على ارض المعركة.
شيء مقزز ومؤلم .لم تستطع عيونه وعيون جنوده في احسن الاحوال ان تفغو لبرهة من الليل بسبب هذه الحشرات المقيتة المقرفة الممتلئة بدماء الاموات والاحياء.
يراقبه احد جنوده المهووسين بعالم الألكترونيات ويتبسم عندما يسمعه يكفر بخالق البعوض قرفا.
فيبادره بالقول (هل تعدني ياسيدي بعشرة أيام أجازة لو اني خلصتك من بعوض الليل وذباب الصباح؟)
رد النقيب بغضب على جنديه ..ومنذ متى تهتم بالمبيدات وبالكيماويات وانت من لايهتم سوى بالألكترونيات.هل هذا الوقت وقت مزاح؟
لا امزح ياسيدي ..اعطني وعدا بعشرة ايام اجازة وسترى؟
رد عليه النقيب اعدك بان اعطيك خمسة ايام وهذا وفقا لصلاحيتي ولكني ساسعى لازيدك البقية من امر الفوج إن نجحت.
قال الجندي لكن الامر يتطلب منك ان تتنازل عن شيء من ممتلكاتك في هذا الموضع ياسيدي فهل توافق؟
استغرب النقيب ماقال الجندي فساله وما ذلك الشيء؟
فقال له مذياعك الصغير ذي الموجتين فبه ساعمل على طرد الذباب والبعوض.
لم يكن المذياع مهما ولم يكن ذا قيمة مادية فسرعان ماوافق النقيب على طلب جنديه واسلمه مذياعه.
وما ان طلع نهار اليوم التالي وهدا القصف اخذ الجندي (يبلبش) أحشاء المذياع حتى بدا هذا المذياع بإصدار صفير خافت لكنه مزعج فعلا لو انك اعرت له انتباهك.
وهنا قال الجندي لقد اتممت مهمتي ساجعلكم اليوم تنامون بملابسكم الداخلية دون توجس او خوف. ونوما هنيئا واحلاما سعيدة.
نظر النقيب الى الجندي باستهزاء وقال له اقسم بالله لو انك لم تصدق القول فإني سأعاقبك عقوبة لن تنساها طوال حياتك.
فاذا بالجندي يرد عليه بكل ثقة ..وليكن سيدي.
لكني ان صدقت فعليك ان تفي لي بوعدك.
أجابه النقيب سأفعل بالطبع.
وما ان حل الليل ودخل الجميع الموضع شغل الجندي المذياع وطلب من الجميع الا يعيروا صوته انتباههم وطلب ان يخلع الجميع البزات العسكرية .ولم يك ذلك بالطبع مسموحا به .فهنا تدخل النقيب قائلا انت من ستجرب هذا لساعتين فإن لم تتعرض لقصف بعوضة لحق بك الاخرون فوافق الجندي ففعل .وكان الموضع بالفعل خاليا من اية بعوضة .على خلاف ماكان عليه في كل يوم .نجح الجندي في ايجاد ذبذبة تقلق البعوض وتجعله يهرب من دائرة الصوت .وكان ذلك شأن الذباب في الموضع في صباح اليوم التالي.
اثنى النقيب على ذلك الجندي وسعى له بما وعده به ومنحه الاجازة التي طلبها.
وتنعم النقيب وجنوده لعدة ايام متتاليات بنوم هانئ رغم كل الظروف القاسية التي كانت تحيط بهم .
حتى جاء ذلك اليوم الذي استلم فيه النقيب امرا لاسلكيا بمغادرة موضعه مع جنوده خلال اقل من خمس دقائق.
كان الأمر غريبا لكنه نفذه باقل من ذلك الوقت وما ان لجا وجنوده الى الموضع البديل حتى سقطت قنبلة موجهة على الموضع فدمرته بالكامل.
ومن حسن الحظ بأن النقيب لم يصطحب معه جهاز المذياع
فقد تبين فيما بعد بان العدو قد استمكن من تردداته التي يبثها وقد وجه وحدة خاصة بالقذائف التي تعمل على استمكان الرادارات والذبذبات الصوتية بالاجهاز على مكان الارسال ظنا منه بأنها شفرة عسكرية .
وبعد ان تم تدمير الموضع ارسل مقر الاستخبارات العسكرية بطلب النقيب للتحقيق معه في الامر فوضع الجميع في الصورة فاكتفت الاستخبارات بتوجيهه بعدم استخدام اجهزة المذياع لاي غرض كان وعممت ذلك على جميع الوحدات. ومن هنا عاد البعوض والذباب الى ارض المعركة منتصرين مزهوين بنصرهما على النقيب وجنوده .وما انتهت تلك المأساة الا عندما صدرت الاوامر بنقل الوحدة الى مكان اخر افضل من ذلك المكان الموبوء بكثير.