النسق المضمر ودلالة الانكسار في مجموعة ” خُردَة ذكْرَيات ” للشاعرة العراقية ألق محمد.
غانم عمران المعموري.
خيوطٌ وامضةٌ من نجومٍ متفرقةٍ في السماء تلتفُ بلاوعي حول مُعصميها فتتحرك أصابعها بارتعاشات تهتزُّ مع تهيّج وانبعاث الفكرة التي تكونت من ارهاصات نفسية وأوجاع وصراعات الأنا وما يُحيط بها من صفعات اجتماعية خارجية أبرمت أوتار العود, فكلما ضربت على وترٍ هاجت المواجع..
عندما تُمتع نظرك في عنونة المجموعة الشعرية ” خردة ذكريات ” الصادرة من دار الوتريات لعام 2020 تحس بسيّلٍ جارفٍ من بحرٍ مضطربٍ يحمل هموم وآلام قابعة في الذّات, مفردتين منسجمتين بانزياح لغوي غير مألوف حيث أن الخردة هي الأشياء القديمة والتي ترتبط مع الذكريات رغم أن الأولى مخصوصة بالأشياء والثانية عامة تنطبق على الكثير من المدلولات إلا أن استعمالها جاء بإيقاع موسيقي وخروجاً عن سائد القول حيث أن العنونة لها تأثير بصريّ حسيّ يُحرك مُخيلة المتلقي ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المُفعمة بالإحساس والتأمل فتترك الانطباع الفوري الأولي على ما تتضمنه نصوص المجموعة لا سيما بأن العنونة تُشّكل مع لوحة الغلاف التي جاءت على شكل رأس أنثى ترفع رأسها إلى السماء وكأنها تستغيث من هوّل المصائب والآلام وتُسلم أمرها إلى الله سبحانه وتعالى, لتستهل مجموعتها بقصيدة للشاعر ” علي جمال ” التي تتغلغل في هاجسها الشعري لتستقي منه الصور والمقاطع واللقطات, حتى يكون الإهداء أكثر وجعاً وإيلاماً حتى لا تستطيع أن تبدأ قراءة القصيدة الأولى خوفاً من تراشق سهام الوجع النارية ولا سيما أنها طرزت الإهداء بأعزّ مخلوقين وهما الأب والأم رحمهما الله ..
تتجلى الذّات بنداءاتها الموجعة باعتبارها الموجه الحقيقي للانبعاث حيث ” أنَّ الذّات المبدعة هي الفاعل الأول و المحرك الأساس بامتلاك الموهبة وقدرة البعث والاشتقاق وتشكيل ألوان الابداع بوجود المؤثرات أو لا, اضافة لخلق بؤر نصية تساعد بإحالة المتلقي لجوانب عديدة في النص أهم من يقف عندها الناقد, وربما يكون الأفضل بتحديد المسار الحقيقي لدلالة النص “1.
تبدأ الشاعرة أولى قصائد المجموعة بعنوان ” نوارسي ” وهي ذات من تم الإهداء إليها لتعطي إيحاء للمتلقي بأن نوارسي في الإهداء هي من كانت تقصدهم في قصيدتها بأسلوب تتحقق فيه تدفقات وشحنات من صور شعرية كقطع البلور المتناثر داخل صميم المجسم الواحد لتُشّكل مرآة حقيقية صادقة تعكس مشاعر الحنين والحب لذا فإنها تمكنت من خلال التشبيهات والمجازات والانزياح التركيبي في رفع وتيرة الإيقاع الموسيقي وتموجاته الحسيّة التي تُحّدث هزّة عنيفة في مشاعر المتلقي كما في نصها ” نوارسي ” :
( هجرتني الأنامل, مزقني الشوق, كبّلني الغبار, لِينفض صدى الكلمات, أحدودبَ ظهر الخطى, شاخت ملامح الخطى, أُجدلُ ضفائر الوقت, أستل الحنين, يطأطِأ الحزن رأسي, لتسكب جراحي, أعياني التشظي, أروف فتوق قلبي …)
يفرز النص مؤثرات جمالية نتيجة التنوع في خلق بؤر ضمن الصورة الشعرية من خلال ارتفاع وتيرة وفاعلية الانزياح الشعري بإيقاعاته وتشكيلاته التي تجعل تميزاً في لغة الشعر عن سواها من أحاديث وأقوال فجاء النص عبارة عن موجات متتالية بشحنات إيقاعية انزياحيه تجعل للدال عدة دلالات وخلق هالة جمالية مُثيرة للمتلقي خاصة وإنها جاءت على خلاف الأفق الخيالي الذي رسمه عند الولوج إلى أعماق النص مما يتسبب في اتساع المسافة الجمالية بين أفق المتلقي وأفق النص حيث كلما اتسعت المسافة كان ذلك حافزاً ودافعاً للتأمل والتفكير في التدفقات اللغوية الشعرية عن طريق الفجوات التي استطاعت الشاعرة ببراعة وابداع تركها لقارئ العليم يستطيع ملئها
تتبلور شخصيتها الشعرية عِبْر مجساتها الفكرية والثقافية والموهبة التي نمت تدريجياً, تلتقط بعين شاعرة عارفة وبرؤية إبداعية تصنع من الخُردة المتناثرة هياكل حديدية ذات أشكال هندسية بلغة معمارية تعتمد المفردة واللفظ البديع بدال له دلالات متعددة فهي تشغل حيزاً في المكان والزمان باعتبارها ضمن المسؤولية الفعالة في المنظومة الاجتماعية..
تتضمن نصوص الشاعرة ألق أنساق ثقافية مضمرة لها جذورها وأسبابها ولكنها تجلت وتخفت داخل الصور الشعرية وهي تُمثّل حالة الغياب والصراع الداخلي المتأصل وتلك الأنساق المضمرة تدفع وتثير الناقد للبحث وتقصيّ أسبابها كما في قصيدة ” شُرفة الحياة ” :
أن يا ربَّ خفّف وطئتي
تاهتْ ملامحي بين البشر
وضعتُ في ميادينِ التائهين
أجهضتني الدنيا بزفراتها
بُصاقٌ كثير بيومِ مولدي
فتعربدتِ الأيام عليَّ كعنترةٍ.
نستكشف من خلال النسق الثقافي المضمر في تلك الأبيات حركة انكسارية للذّات الشاعرة والتي تتجلى بأعلى درجات الإنسانية حيث أنها تعترف بحالة الضعف التي تعتريها كإنسانة لها مشاعرها الحقيقية الصادقة وبذلك فقد تحققت الدلالات الانكسارية داخل النص دون وعي الشاعرة وانما تمكن النسق المضمر من التخفي داخل النص وعن الناقد جميل حمداوي ” النسق المضمر هو الذي لا يظهر على سطح اللغة ولكنه تمكن من الاختباء أو من اصطناع الحيل للتخفي ” 2.
وهو واضح أيضاً في القصائد ” هَشاشة الكِتْمان, تْلُ المكائد : احنو عينيّ
لأديرَ الدمع في كؤوس”
وقصيدة ” دهاليز الأحلام : أنتعل المسيرَ بحلمٍ
فأستفيق
لأجد تشييع جثماني.
والقصائد الأخر ” أعلنُ إنطفائي, ما عدّتُ أهتم, ذات خيال, أدسُ دموعي بينَ القصائد؛ فتزهر, ذات وجع, شذرات من ألق, خبايا الأحلام…
وصفت لنا الشاعرة الوجع والهمّ والذكريات القاسية بأسلوب دراميٍّ بلغة سهلة مفهومة من قبل القارئ فأنَّ ” البنية العميقة والسطحية للجمل في التركيب اللغوي يجب أن يكون الاعتبار فيها للمعنى لا للشكل اللغوي لأن الجمل التي تعتبر ذات بنى عميقة عندما يضاف إليها عوامل لغوية أو يغير موقع بعض مفرداتها تؤدي معاني جديدة بدرجات متفاوتة وفقاً للمعنى الذي رتبه منتج النص وتكون الجملة جملة إذا فهم السامع معناها ” 3.
منحت الشاعرة الصور الشعرية طاقة حَرَكية إيقاعية ذات ونسيج وسبك سَرّدي تأثيرات مُفعمة بالشعرية فلم يكن نثراً بكلام عادي وإنما امتازت بالجمالية والتكثيف والانسجام والترابط وقد أشار إلى ذلك أدونيس في تفريقه بين الشعر والنثر بقوله ” النثر يستخدم النظام العادي للغة أي يستخدم الكلمة لما وضعت له أصلاً أما الشعر فيغتصب أو يفجر هذا النظام أي أن يحيد بالكلمات عما وضعت له أصلاً ” 4.
.
لذلك جاءت قصائد ألق تعبيراً وجدانياً انسانياً عن كل ما يعتمر قلبها من أحاسيس وهموم تتعلق بالماضي واليومي والحاضر لتُمثّل لنا نصوصها مرآة صادقة عاكسة للمتغيرات المعرفية والتقلبات الاجتماعية والسياسية والمتغيرات التكنولوجية وتُعد محاولتها الكتابية صقلاً وقراءةً للماضي واليومي والحاضر وليس كشفاً لها وهذا يكشف عن تأزم الصراع والمخاض في الذات الشاعرة وقدرتها على التمشي واستيعاب تلك المتغيرات كما في قصائدها ” دهاليز الأحلام, أجالسُ الوحدة وأشكوك إليها, اعلن إنطفائي, ما عدت أهتم, ذات خيال, من أكون, دنْدنة روح, ذات وجع, شذرات من ألق, خلجات مُتقدة, آفُول, انْثى استثنائية, دوامة البؤس, طُرقات التّيه, ضجيج المضاجع, أحلامنا…
لذلك تقول رينيه حبشي ” ان العمل الابداعي الاصيل هو بالضرورة تعبير فني خلاق عن الحياة وتأويل فني للواقع وصياغة راقية للعمل البشري الذي يمارس من أجل الانسان إن التعبير عن الحياة ليس معناه سرد حيثياتها بل هو الافصاح عن إيديولوجي بارز وبجمالية عالية عن جوهر الحياة البشرية ببؤسها وفرحها ” 5.
تتسلط الأنا وتتجول في كل قصائد الشاعرة ألق والتي يتم تعاطيها بناءً على استعمال الضمائر تسهم في التماسك الدلالي عن طريق خلق بؤر دلالية تتوالد منها الأفكار كما في قصيدة ” علي قَيدِ الحُب ” :
سأنحرُ قصائدي قرابين لذكراك
وأهَبُها للعابرين طريقاً
وأهيلُ ذراتِ روحي جميعها
مِلْءَ أنفاسي الوفاء.ص62 من المجموعة.
تترتب الأفكار في مخيلة الشاعرة بصورة فوضوية غير مستقرة حتى تمارس الذات الفاعلة دورها الأساسي باعتبارها المُحفز لتلك الموهبة التي تُلازم الذات الشاعرة مُنذ انبثاق أولى شرارات الفكرة حيث أنَّ ” الفكرة أسبق من الكتابة واللغة أسبق من الدلالة والدلالة الجزئية تتشكل من اتساق عام يعطي المعنى الكلي على اعتبار تحليل مضمون الرسالة الاتصالية لدلالة كلية ماهيتها جوهر النص حين تحليله وليس حصيلة ناتجه عن لغات وثقافات اخرى” 6.
وبذلك تتأرجح الذات الشاعرة عن طريق بوح الأنا الطاغي في الصور الشعرية داخل النص ظاهرياً وانفراده في الخطاب المباشر والجمع بين الحركية الاستمرارية والوصف والتشبيه واستعمال غير المألوف بأسلوب انزياحي عن طريق الصورة الشعرية التي رسمت جمالية القصيدة الناتجة عن التخييل الشعري لدى الشاعرة وقدرتها على تقنين وصقل الفكرة لغرض بث صور ذهنية في مخيلة القارئ وتحفيزه واثارة انفعالاته النفسية ” وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير رويه إلى جهة من الانبساط أو الانقباض ” 7.
استطاعت الشاعرة عن طريق تشظي الصورة الشعرية إلى صور ذات ايقاعات موسيقية تُحرك وتدغدغ مشاعر المتلقي كما في قصيدتها ” بلا عنوان ” :
لِمَ أُرثِكَ إلى الورقِ المُبتل, ليخط إنثيال كحلي الباهض عنوان قصائدي !
لِمَ الحزن يا زهرة الوَّجد ؟
كيفَ أُخبرك بأنَ قُدسيتك لا تحملُ وجه مقارنة بشياطينهن !
أصففُ كلماتٍ بمشبكِ شعري
ببسمةٍ دامعةٍ
آهٍ حارقةٍ
أوركسترا السّماء, ما لكِ والتَّشظي !. ص 106 من مجموعتها الشعرية.
تمكنت الشاعرة من بث الحياة والحركية في نصوصها من خلال مواطن الجمال المتولدة من العلاقات الحية بين مكونات العمل الأدبي والابداعي الذي ارتكز على اللغة والجمال وصقل الافكار وبلورتها ونتاج المعاني والألفاظ.