صلاح حسن بابان
شهدت محافظة كركوك زيادة ملحوظة في حالات الانتحار في العام 2019 بين جميع الفئات العمرية وكلا الجنسيين، إلا “الظاهرة” باتت تزداد يوما بعد آخر بين النساء والفتيات بسبب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتفاقم دون أن تجد لها الجهات المعنية حلولا.
ويرى مختصون في المجال النفسي والاجتماعي والأمني ان غياب أو قلة فرص العمل والمشاكل السياسية التي يشهدها البلد اضافةً الى الزواج المبكر بالنسبة للفتيات وعدم وجود اماكن ترفيهية مناسبة تأتي في مقدمة الأسباب التي تدفع الشباب الى اللجوء للانتحار وسط غياب الحلول الناجعة لمشاكلهم.
ويؤكد متابعون للملف ان الانتحار في كركوك تحول من مجرد حالات الى ظاهرة خطيرة بين الشباب وخصوصاً الفتيات، محذرين من تفاقم الأمر في حال عدم ايجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلة المجتمعية، مشددين على ضرورة ان تقوم مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين من خلال المنابر بدورهم في تحمل المسؤولية الانسانية والاخلاقية من خلال اقامة ورش تثقيفية وارشادية لزيادة الوعي بين الشباب، وحثهم على عدم اللجوء لخيار الانتحار عند اشتداد الأزمات سواء الاقتصادية اوالاجتماعية.
أكثر من 80 حالة انتحار في أقل من عام
وسجل العراق خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2019 أكثر من 150 حالة الانتحار، منها 50 حالة في كركوك، إلا أن الأشهر الثلاثة الاولى من النصف الثاني سجلت أكثر من 30 حالة وهذا يعني أن كركوك تأتي بالمرتبة الأولى من بين المحافظات العراقية في حالات الانتحار، بحسب مدير قسم الشرطة المجتمعية في مديرية شرطة كركوك المقدم غالب علي.
ويقول علي متحدثا لـ”صباح كوردستان” عن أبرز الأسباب التي تؤدي بالشباب الى اللجوء لخيار الانتحار، ان “تدهور الاقتصاد وعدم تلبية متطلبات الحياة الأساسية الى جانب الفراغ العاطفي والتفكك الأسري اضافة الى تعاطي المخدرات تأتي في مقدمة الأسباب التي تدفع الشباب الى الانتحار بدلاً من اللجوء الى حل آخر”.
النساء أكثر من الرجال
وتأتي حالات الانتحار بين النساء أكثر من الرجال في كركوك بحسب المقدم غالب، مشيرا الى أن أعمار المنتحرين تنحصر ما بين (15-25 سنة)، لافتاً الى أن أكثر حالات الانتحار تتم عن طريق اخذ “كميات كبيرة من الحبوب او الشنق أو الحرق في مرات قليلة”.
ويلفت نشطاء الى ان حالات انتحار النساء اعلى في عموم العراق من انتحار الرجال، لأن الفتيات اقل قدرة على تحمل الضغوط النفسية النتائجة عن المشاكل الاجتماعية او الاقتصادية، ولأن الفتيات عادة لا يستطعن التعبير عن مشاكلهن والبوح بها لغيرهن وبالتالي يتصورن ان مشاكلهن بلا حل فيلجأن للانتحار.
ويتحدث المقدم غالب عن الاجراءات المتخذة بعد حصول عملية الانتحار، مبينا ان الجهات الحكومية “تقوم بتسليم الجثة الى ذوي المنتحر بعد استكمال الفحص الطبي مع فتح تحقيق موسع في أسباب الانتحار”، مؤكداً ان “دور الشرطة المجتمعية ينحصر فقط في نشر التوعية الاجتماعية بمشاركة الجهود المجتمعية الاخرى من الأجهزة الأمنية ومنظمات المجتمع المدني ودوائر الصحة ورجال الدين”.
ما هي مشاكل شباب كركوك..؟
وتتحمل الجهات والمؤسسات الثقافية اضافةً الى رجال الدين مسؤولية كبيرة في ازيادة ظاهرة الانتحار في محافظة كركوك خلال السنوات الأخيرة، بحسب د. عبدالكريم خليفة الذي قال في حديثه مع “صباح كوردستان”: ان لابن خلدون نظرية تقول بأن الانسان يتأثر بالبيئة الاجتماعية والجغرافية بشكل مباشر، وما يحصل في المحافظة من عدم استقرار الأمن وعدم وجود مستقبل واضح المعالم بسبب التغييرات السياسية وما ينجم عنها من مشاكل اقتصادية واجتماعية بالتأكيد يساهم في ازدياد حالات الانتحار.
ويضيف خليفة وهو باحث اجتماعي ونفسي وتدريسي في جامعة كركوك ان “المشكلة الاكبر لشباب كركوك هي غموض المستقبل الوظيفي والاجتماعي، في وقت يحدث انفتاح كبير على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي قد تشكل باباً لبعض العلاقات غير المنضبطة، وبالتالي كل هذه الأسباب تعتبر من السلوك السلبي الذي يؤدي الى الانتحار وهو الخيار الأنسب لأي شابٍ يعاني من هذه المشاكل المعقدة اضافةً الى فشله في اكتشاف قدراته البدنية والعقلية والنفسية”.
ويرى نشطاء مهتمون بحالات الانتحار، ان المنتحرين لا يفكرون بتداعيات اقدامهم على الانتحار وبمآلاتها ونتائجها على اسرهم، ويقدمون على ذلك في حالات الغضب او القلق الشديد او الانهيار وفقدان السيطرة على الذات.
ويعتقد المنتحرون بوجود عالم آخر ينتظرهم أفضل من العالم الحالي، بحسب الباحث الاجتماعي، اذ ان الكثير منهم يقلدون من سبقوهم في الانتحار سواء كانوا من الأصدقاء أو الأقارب.
انتقاد دور رجال الدين
ووجه د. عبدالكريم انتقاداً لاذعاً وحاداً لرجال الدين لعدم تخصيصهم ولو خطبةٍ واحدة على الأقل من خطبهم للحديث عن كارثة الانتحار لاسيما الشباب مع ضرورة الابتعاد عنه.
ويرى الباحث الاجتماعي ان فتح مراكز ترفيهية للشباب واقامة الفعاليات الثقافية والفنية التي تزيد من الوعي الثقافي وتنبههم او تدفعهم لايجاد مواضع قوتهم، تساهم الى حدٍ كبير في تقليل ظاهرة الانتحار في المجتمع الكركوكي.
وعن سبب ازدياد حالات الانتحار بين النساء أكثر من الرجال، في وقتٍ يواجه الرجل مصاعب الحياة ومشاكلها والضغوط والاقتصادية والاجتماعية أكثر من المراة، يفسر ذلك د. عبدالكريم قائلاً: انه هناك أكثر من طريقة ووسيلة يعبر فيها الرجل عن معاناته او مشاكله من خلال اللقاء بالأصدقاء او الزيارات الكثيرة إلا أن الحال يختلف بالنسبة للمرأة”.
ويضيف “علينا ان لا ننسى ان كركوك تعاني من انغلاق في القيم الاجتماعية، وهذا ما يؤدي الى بقاء المرأة في أغلب الأحيان داخل منزلها وعدم تمتعها بالتحرك مثل الرجل، ومع عدم وجود مستقبل وظيفي أو عائلي بالنسبة للكثيرات من النساء ما يؤجج فكرة الانتحار لديهن”.
وعن آلية أو كيفية التقليل من ظاهرة الانتحار بين الشباب لاسيما الفتيات، دعا الباحث الاجتماعي، الأسر الى عدم الضغط على بناتهم، أواجبارهم على الزواج المبكر، مع مساعدتهن في ايجاد فرص عمل لهن، مؤكداً ان انخراط الرجل أو المرأة بالعمل يساهم الى حدٍ كبير في معالجة الحالة النفسية للشخص وعدم دفعه للانتحار.
تحذير من توسع الظاهرة
بدوره يرى رئيس لجنة حقوق الانسان المركزية في جامعة كركوك د. صلاح عريبي ان المؤسسات الثقافية مقصرة في المسائل المتعلقة بحياة الفرد وخصوصاً النساء مع ارتفاع حالات الانتحار بين الشباب.
ويدعو عريبي الى تنفيذ “حملة تكاملية بمشاركة جميع الأطراف والمؤسسات لبحث ظاهرة الانتحار وتخصيص ندوات ومؤتمرات لها في المدارس ودوائر الدولة وحتى في الجوامع والمساجد من خلال خطب الجمعة”.
وأعرب في حديثٍ خاص مع “صباح كوردستان” عن أسفه لفشل جميع المحاولات في كركوك وخصوصاً الثقافية منها من منع ازياد حالات الانتحار بين الشباب والتحذير من خطورتها على المجتمع ما لم يتم القضاء عليه.
ويضيف ان هناك بعض المحاولات لو استطعنا تنشطيها أكثر وجعلها بالمستوى المطلوب لتمكنا من انقاذ حياة الكثير من الذين انتحروا الا انه للأسف كلها لم تكن بالمستوى المطلوب ازاء هذا الملف الخطير.
ابراز الجوانب المشرقة في حياة الشباب
ويتابع، ان تفكير الشاب لايتغير ما لم يتم “ابراز الجوانب المشرقة في حياته وبث روح الأمل فيهم وتشجيعهم على الانخراط في المجتمع والبحث عن العمل وان كانت الفرص القليلة الا انه للأسف لاتوجد لدينا هذه المسؤولية لذلك الانتحار يزداد يوم بعد اخر بين الشباب”.
وحمل الاكاديمي الكركوكي، العديد من الجهات مسؤولية انتشار الانتحار بين الشباب، سواء مؤسسات ودوائر الدولة او الأجهزة الامنية وحتى رجال الدين ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام، مسلطاً الضوء على أهمية الاعلام ودوره المحوري في الحد من هذه الظاهرة وتوعية الشباب من خلال البرامج الثقافية والعلمية المتنوعة.
ويرى عريبي ان ظاهرة الانتحار في كركوك لن تعالج ما لم تتحول الى رأي عام وتدخل جميع الجهات على الخط لبحث اسبابها ومحاولة ايجاد معالجات حقيقية لها عبر توفير ظروف افضل للشباب وخلق المبادرات المجتمعية التي تشجعهم على تحمل الوضع الدائر في المدينة من عدم استقرار الامن وغياب فرص العمل وانتشار البطالة ومحاولة تغييره.
ويؤكد ان المؤسسات الثقافية لو قامت بدورها الانساني والاخلاقي، لتراجع معدل الانتحار في كركوك عاما بعد آخر، مع دعوته لرجال الدين للتأكيد على ظاهرة الانتحار وتخصيص وقت وخطب خاصة من خلال ارشاد الشباب ومخاطبتهم بلسان حالهم والابتعاد عن الاحاديث المعقدة.
ويحذر عريبي في ختام حديثة من “توسع هذه الظاهرة وانتشارها بشكل أوسع خلال السنوات القادمة ما لم يتم ايجاد المعالجات الأساسية وتحسين اوضاع المدينة من مختلف النواحي”.