علاء الخطيب – كاتب وإعلامي لندن
تناقضت الأفكار عندي كإنما / أنا جمعُ أشخاص وما أنا واحد
قد تختلف مدينة النجف عن غيرها من مدن العراق كونها تحمل ميزاتٍ مختلفة, فهي مجموعة مدنٍ في مدينة واحدة ,وهي مدينة الصراع والتصادم الفكري والثقافي , كنتيجة للتنوع الإثني والتعدد الثقافي فهي أممية الثقافة, عربية الطباع والهوى والروح, ففحول الشعراء العرب هم منْ عاشوا في أجواء هذه المدينة وأبدعوا,ولعل نزار قباني كان محقاً حينما قال عن هذه المدينة (تمطر سماء النجف خمسمائة شاعر في الدقيقة في حين لا تمطر سماء جنيف سوى ساعات اوميغا ونيفادا وحليب نيدو سريع الذوبان), فعلى الرغم من أجواء الرومانسية والحياة التي تحيط بالمدينة لكثرة شعرائها إلآ انها تعبق برائحة الموت حيث وادي السلام المقبرة الأكبر في العالم وكثرة المشتغلين بالموتى أو الذين يعتاشون عليهم.
يقول الصافي النجفي ساخراً
إن الغري بلدة تليق أن *** يقطنها الشيوخ والعجائز
فصادرات بلدتي مشائخ*** و واردات بلـدتي جنائز
فلم يكن الصافي النجفي يسخر من مدينته إلا لتناقضاتها , هذا التناقض الذي يؤدي الى الصراع ولكنه صراع منتج وتناقض مبدع, وهكذا كانت على الدوام تحمل النقيضين في آن واحد. ففي العام 1503م بعث إسماعيل الصفوي برسالة الى النجف يدعو علمائها الى الالتحاق به وعضد دولته فسارع الشيخ علي الكركي إليه, فيما كفره الشيخ أحمد الإحسائي لركونه الى السلاطين وكان صراعاً عاصفاً وكبيراً , واعْتُبِر الكركي بعد أن قُلِدَ منصب النيابة العامة ( نائب الإمام) مغتصباً لسلطة الإمام المعصوم وصلاحياته,لأن الإحسائي ومدرسته الإخبارية تعتبر أن العمل بالسياسة رجس من عمل الشيطان يجب إجتنابه.
وليس على سبيل الصُدفة أن يخرج من هذه المدينة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل ( حسين الرضوي) واحد أهم منظري الماركسية ( حسين مروة) و على الجانب الآخر يقابلهم مؤسس الحركة الإسلامية في العراق الشهيد محمد باقرالصدر, فهذه المدينة الحاضنة للحوزة العلمية والتي تحتوي على أكثر من عشرة آلآف طالب للعلم الديني, كانت بنفس الوقت تحتضن الفكر الماركسي وتعتبر النجف من المدن التي أحتضنت الحزب الشيوعي العراقي.
وكنتيجة للصراع الفكري والثقافي في هذه المدينة نشاهد صوراً من التمرد لدى مبدعيها ولربما يصل الى حد التطرف, فشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري أكبر المتمردين على تقاليد مدينته يرمي عمامته في الكناسة التي تعتبر في عرف أجواء النجف شيئاً مقدساً.
وليس بعيداً عن الجواهري نرى السيد محمد صالح بحر العلوم في أربعينيات القرن المنصرم الذي ينتمي الى عائلة علمية عريقة جلها من المعممين ورجال الدين, يتمرد على واقعه ويوجه نقداً لاذعاً حيث يقول في إحدى قصائده :
ليتني أسطيع بعث الوعي في بعض الجماجم
لأريح البشر المخدوع من شر البهائم
وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم
من مآسي تقتل الحق وتبكي
أين حقي؟؟
ولننتقل الى شحصية نجفية أخرى عاشت في بدايات القرن العشرين الى منتصفه وهي حسين قسام النجفي ( 1898 – 1960) كان يعمل متولي لمقام هودٍ وصالح في وسط أكبر غابة للأموات في العالم كما يصفها الجواهري إلا أن هذا الرجل يحمل في داخل شخصيته نقيضين فهو شخصية ساخرة وسيريالية عجيبة, وشخصية الإنسان البسيط الذي يعمل بمقامات الأولياء, فقد كان صاحبنا شاعر له داواوين سمى الأول قيطان الكلام والثاني بسنجاف الكلام ومن يطلع على هذين الديوانين يرى حجم التناقض الي تحمله هذه الشخصية,والإنسان ابن بيئته كما هو معروف
كانت قصائده المتمردة على واقعه تحمل اكثر من دلالة ومنها على سبيل المثال:
لو وقع بيدي أصعدت سابع سمه
ابلا درج واركب بعيرة محزمة
وأقلب البرغوث والبرغش فلك
خاطر أشتل فوكهن شجرة جمه ( الكمأ: وهو نوع من الفطريات)
ومن التناقضات التي يلحظها المتابع في هذه المدينة هي ان منها تخرج أعظم خطباء المنبر الحسيني كالشيخ محمد علي اليعقوبي والشيخ كاظم نوح والشيخ الوائلي رحمهما الله, ومنها أشهر مطربين عراقيين هما ياس خضر وحميد منصور.
حتى المجانين في هذه المدينة لهم مذاق خاص و متميز مجيد جرك وحمد عصا وميخا وشكوري وسفير الحب غماس وصلاح أبو القوات, وشيخ باقر اللذينَه وغيرهم.
كل واحد من هؤلاء كان له صفه فبعضهم يحفظ الشعر والآخر يتكلم الانكليزية وثالث يلعن الحكومة ورابع يحافظ على صلاة الجماعة, وهلم جرا , فترى في هؤلاء صور من المتناقضات وتعبير عن واقع المدينة. فالنجف مدينة المتناقضات حقاً, ومازالت النجف تعيش تناقضاتها الى يومنا هذا , وإن تغيرت الصورة بعض الشئ .