المُثقَّفُ حامل وليس محمولا
المثقف ليس واحداً، فهو كثيرٌ، مُتَنَوِّع، ومُتَعَـدِّدٌ، ومُتَشَعِّبٌ. وهو ليس المُفَكِّرَ دون الشَّاعر، أو الفيلسوف والعالم دون الفنان، أو الجامِعِيَّ المُتخصِّصَ في حقل من حقول المعرفة، دون الناقد الذي يفتح المعرفةَ على كل العلوم والمفاهيم. اختبارُ مفهوم المثقف في تصوُّرِنا، رهين بقدرته على الإضافة والاخْتِلاق، وعلى المُشاركَة في تحويل الواقع وتغييره، وفي تجديد الأفكار وقَلْبِها، وفي وضع النهر في مجراه، أو في ما قد يفتحُه من مسارب، وما يُحْدِثُه في العقل وفي الخيال معاً من شقوقٍ وتصدُّعاتٍ. ولا يعنيني، هنا المثقف الذي يكتفي بالإقامة في الحِياد، أو بين السواد والبياض. لا لَوْنَ له، في ما هو مُقيمٌ في كل الألوان، يتلَوَّنُ بتلَوِيناتِها المُتَشَعِّبَة والمُتعدِّدَة.
هذا المثقف الرَماديّ، المُلْتَبِس، المُتَلَوِّنُ، الهُلامِيُّ، الحِرْبائيّ هو الصورة التي تطبع اليوم وُجوهَ بعض المثقفين، وتجعل من هذا المفهوم يذوبُ في غيره من المفاهيم، أو يصيرُ عائماً، غائِماً، لا يحظى بالمعنى الذي أشَرْتُ إليه قبل قليل، أي باعتبار المثقف سُلْطَةً قائمةَ بذاتها، ولا تحتاج لغيرها من السُّلَط لِتُسْنِدَها، أو لِتَتَعَكَّزَ عليها، وتكونَ حاملةً لها، لأنَّ المثقف هو حاملٌ وليس محمولاً، وهو شخص قائمُ بفكره، وبما له من أفُقٍ وسَعَة نَظَرٍ، وبما يقترحه من أفكار ومشاريع، وليس مُجرَّدَ «خبير» يُدْلِي برأيه في الحالات الآنِيَة والطارِئِة، أو «مستشار» في قضايا لا تَمّتُّ لمشروعه وأفق رؤيته بشيء، يكتفي بتبرير القرارات وتسويغها، دون أن يكون طرفاً في اقتراحِها أو مناقشتها.
……………………………………….