ليث العبدويس
هذا المَقالُ لَمْ يَكتَمِل يوماً وَلَنْ يَكتَمِل، لأنَّ مِقَصَّ الرَقابَةِ أجهَضَهُ كَجَنينٍ مُشوّه، وَضَعوهُ مَعَ فاتورَةِ المُستَشفى في عُلبَةٍ مِنْ الوَرَقِ المُقوّى وَتَحَلَّقوا كالسَحالي حولَ أُمّهِ النازِفة، ينتَظرونَ ما تَجودُ بِهِ الثَكلى.
هذا المَقالُ لَنْ يَرى النورَ أبداً لأَنَهُ ابتَلَعَ خارِطَة الطَريقِ في سَورَةِ التياثٍ مُفزِعَةٍ وَضاعَ في دِهليزِ الكَلِمات، هذا المَقالُ كَزُهورِ الدَفلى الحَزينة، كالخُزامى السوداء، كَسَحجَةٍ، كَلَطخَةٍ، كَلَعنَةٍ، لَئيمٌ، وَقِحٌ، صَفيقٌ، كَضَحكاتِ العاهِرات.
قَصَدْتُ “الزَعتَريّ” أُنَقّبُ عَنْ مُروءَتي العَرَبيّة، إذْ لَمْ نَعُد نَثِقُ كَثيراً بِكلامِ عَجائِزِنا وَمُعمّرينا في عَصرِ ما بَعدَ الحَداثَةِ والخَباثَةِ وَما وراءَ التَفكيكيّة عَنْ نَقاءِ سُلالَتِنا الساميّة، فَرُبَّ “جَدّ” مِنْ غابِرِ الغُزاةِ قَدْ يَكونُ انسَلَّ إلى مخادِعِ جَدّاتِنا تارِكاً بَصمَتَهُ الوِراثيّة وَنَسَباً دَخيلاً بروميّ أو فارِسيّ أو مَغوليّ أو وَغدٍ مِنْ أوغادِ الحَملاتِ الصَليبيّة، وَما الضيرُ إنْ كانَ قَدْ “حَسّنَ النَسلَ القَبيحَ” وَلَطَّفَ مِنْ مَلامِحِنا الصَحراويّة؟ أوَلسنا القائلينَ بأننا نَمُتْ
للسَماءِ بِقرابَةٍ وأن لَنا بالأنبياءِ وَشائِجَ روحيّة؟
قَصَدْتُ “الزَعتَريّ” أبحَثُ عَنْ مِخيالٍ رَسَمَتهُ ريشَةٌ غُمّسَتْ بِجودِ المضايِفِ البَدَويّة، عَنْ سِحرِ شَرقِ الشَهامَةِ والكَرامَةِ والدِلاءِ والوَفاءِ والشوارِبِ التي اشقَرَّتْ مِنْ التَبغِ الرَديءِ واليَشامِغِ المُرَقَّطَةِ بالأحمَرِ القاني كالنُخاعِ الخارِجِ مِنْ قَحفِ الجَماجِمِ، عَنْ موائِدِ الفُقراءِ وموقِدِ حاتِمَ الطائيَّ الذي استَبدَلَتهُ ثَقافَةُ البترولِ بأضواءِ النيونِ وَعُلَبِ الليلِ الطافِحَةِ باللَحمِ الرَخيصِ المُستورَدِ مِنْ أوروبا الشَرقيّة، عَنْ أُكذوبَة التاريخ الكُبرى ورَمادِ َداحِسَ والغَبراء
وَكُلَّ حُروبِنا الأهليّة.
هنا اشتُموني.. فَلستُم تُحسِنونَ مُنذُ بَدءِ الخَليقَةِ غير الشَتمِ وَغيرَ اللَطمِ وَغيرَ اجتراحِ المَذابِحِ والمواشِحِ والفَضائِحِ وَغيرَ الصَهيلِ باستِقلالِكُمِ التامّ وموتِ عَدوِكُمُ الزؤامِ وَغيرِ انتِصاراتٍ هُلاميّة وَجعجَعاتٍ كَلاميّة زَكَمَتْ أنفَ ابن شَدّادَ فَقاءَ مِنْ نُتنِها وأعلَنَ تحويلَ أنشِطَتَهُ إلى البَغاءِ والسَمسَرَةِ مُحرقَاً حماسَتَهُ العَنتَريّة!!
وَقَفتُ قُبالَةَ البوابَةِ الصَدِئَةِ لِمُخيّم “الزُعتُريّ” الذي يَرتَجُّ بآثامِ كُلّ العَرَب، لِمَ َذَكَّرَتني تِلكَ البوّابَةُ بِمداخِلِ المَقابِرِ وأسيجَةِ المَدافِن؟ قِطعَةُ الدَلالَةِ مائِلةٌ كأعناقِ السُحاقيّاتِ في مواخيرِ دُبَي، والدَليلُ المَطبوعُ يَعبَقُ بِرائِحَة الحِبرِ الرَخيصِ وَيُحَذّر بِعِباراتٍ حَمراء” يُمنَعُ دُخولُ ابناءِ القِرَدَةِ أو كُلُّ مَنْ تَحَدّرَ مِنْ خَنزير، وعلى المُتَضرّرِ اللُجوءُ إلى المَحاكِمِ المُختَصّة، مناظِرُ بَشِعة، يُرجى عَدَم اصطِحاب الأطفالِ أو مَنْ لَمْ يَكتَمِل لَديهِم ضُمورُ الحِس
الإنسانيّ”!!
انهَمَكَ عُنصُرانِ مِنْ “ستازي” (هَلْ قُلتُ ستازي أم غستابو؟) شاكيا السِلاحِ في تَفتيشي بَحثاً عَنْ اختِلاجَةٍ بَشَريّةٍ رُبَما تَكونُ أفلَتَتْ مِنْ كاشِفِ العواطِف!! وَقَبلَ أنْ يسمحا ليَ بالدُخولِ إلى “الغيتو” نَبهانيَ إلى تَعليماتِ الزيارَة:
أولاً- يُمنَعُ إطعامُ “الحَيواتِ” الحَبيسةِ أو تَدليلِها باي شَكلٍ مِنْ الأشكال نَظَراً للرَفاهيّة القُصوى التي يَتَنَعَّمُ اللاجِئونَ في بَحبوحَتِها!!
ثانياً – يُحظَرُ التَكَلّمُ أو التواصُلُ أو أيُّ نوعٍ مِنْ التَفاعُلِ البَشَريّ مَعَ سُكّانِ الـ “غيتو” للحَيلولَةِ دونَ “تَقليبِ المواجِعِ” أو استِثارةِ ذِكرياتٍ تَعمَلُ إدارةُ المُخيّمِ عَلى مَحوِها مِنْ ذاكرة سُكّانِه!!
ثالِثاً – بالرَجاء الرُجوعِ إلى مَكتَب الادارةِ في حالِ مُصادَفَةِ أمورٍ غيرِ مُتوَقَّعة أو مُلاحَظَةِ اشياءٍ غيرِ مَفهومَة (صُراخ، عَويل، جُثَث، قُبور حَديثَة، ازدِحام، خيم مُهَلهَلَة، جوع،….الخ) نَظَراً لِوُجودِ نَشاطٍ اعلاميّ مُعادٍ يُحاوِلُ النيلَ مِنْ قيمِ النَجدَةِ والنَخوَةِ والغوثِ والروثِ التي طَبَعَتْ مَسيرَةَ الأُمّة وواكَبَتْ حَضارَتَها!!
رابِعاً – في حالةِ الاخلالِ بالالتزاماتِ الوارِدة في البُنودِ أعلاه، يوضَعُ المُخالِفُ قيدَ الحَجزِ لِحينِ تَسفيرِهِ خارِجَ تُرابِ الوَطنِ الغالي بِتُهمَةِ الإساءَةِ للذوقِ العام وَتعكيرِ أمنِ جَنّةِ اللاجِئينَ التي تَفتَحُ ابوابَها لِساعاتِ الفَجرِ المُتأخِرة، وَيوضَعُ في قَوائِمِ المَنع السوداءِ لِحينِ التوبَةِ أو اثباتِ أهليَتِهِ لِتَقَبُّلِ الواقِعِ الفَجّ بِلا رُتوش أو مَساحيقِ تَجميلٍ أو مُنكّهاتٍ أو سِواها!!
وَدَخَلتُ، أمْ أني لَمْ ادخُل؟ وَعَرَفتُ أنَّ هُناكَ قارَّةٌ سابِعَةٌ مَنسيّة وَخِسَّةٌ بِحَجمِ الكونِ تَتَلَمَّظُ وَتَدلَقُ لِسانَها ساخِرَةٌ مِنْ افلاطونياتِنا الفائِقة الحَماقة والبالِغة السَذاجَة، وانَّ مِنْ بَني البَشَرِ مَنْ لا يَصلُحُ إلّا أنْ يَكونَ زيتَ تَشحيمٍ للمُجنزَراتِ او مَتجَرَ ادواتٍ بَشَريّةٍ احتياطيّة، كما بَشَّرَ بِذَلِكَ نَبيُّ الآريينَ مُكَهرِباً أتباعَهُ في “نورمبرغ”.
لا زِالَ بَعضٌ مِنّي يَقِفُ عِندَ أعتابِ “الزُعتُريّ” دونَ أنْ استَطيعَ استِرجاعَه، ولا زالَ عُنصُرا الغستابو يُغريانِني بالدُخولِ والتَفَرُّج!! وَلا يَزالُ دَليلُ الزيارَةِ التي لَمْ تَتُمَّ بينَ ثَنايا قَبضَتي المُتَعَرّقة رُغمَ ثُلوجِ العامِ الجَديدِ الحَزينة، وَصوَرُ اللاجِئينَ فيهِ تَكادُ تَبتَسِمُ لِعَدَسةِ المُصوّر، لولا أنَّ الموتى.. لا يبتَسِمونَ في الصوَر.