منذ أن لامست الأزمات حياة الإنسان الأوروبي استشعر المشكلة وبدأ يبحث عن الأسباب التي أدت إلى محاصرته بالمتاعب، فالغلاء غير المسبوق اضطر الأوروبيين إلى تعديل خارطة استهلاكهم، وتقليص امدادات الطاقة وإرتفاع اسعارها جعلهم يواحهون تقنينا لم يعهدوه في استمرار التيار الكهربائي، وبدأت بوادر نقص البنزين تظهر، وشاهد الناس طوابير من السيارات أمام محطات الوقود، وتزامن ذلك مع تحديد الحصص التي تصرف لكل شخص، مما اشعرهم بالقلق خوفًا من المجهول. يرى الكاتب سليمان منصور، وهو المختص بالشأن الأوروبي إن الأوضاع التي تعيشها أوروبا قد تدفع حكوماتها إلى تغيير سياساتها تجاه الحرب في أوكرانيا، وما ارتبط بها من تبعية، في فرض الحصار على روسيا، وارسال السلاح والمساعدات المالية والعسكرية إلى كييف، مما جعل موسكو تواجههم باعتبارهم جزءًا من معركتها مع أوكرانيا. في ظل هذه المستجدات التي تعم أوروبا يواصل المواطنون خروجهم واحتجاجاتهم ضد حكوماتهم، بعد أن طالتهم الأزمة الاقتصادية، والآثار السالبة الواضحة لمواقف حكوماتهم من الحرب في أوكرانيا. وإذا قرأنا ذلك مع التغيرات التي تشهدها الساحة السياسية الأمريكية بعد انتخابات الكونجرس النصفية، فإن هذا قد يعني أن تجد الحكومات الأوروبية نفسها محتاجة إلى مراجعة سياستها خاصة مع التهديد بشتاء قارص ينتظر أوروبا بعد النقص الحاد في امدادات الغاز الروسي بفعل العقوبات التي تم إقرارها ضد روسيا وتماهت فيها الحكومات الأوروبية مع الرغبة الأمريكية، وهذا ما لم يجد قبولًا عند الجمهور في أوروبا، فشهدنا المدن الكبرى تتظاهر احتجاجًا على غلاء الأسعار، وإرتفاع تكاليف المعيشة، والخوف من النقص الذي يهدد امدادات الغاز، والذي لا ينعكس فقط على التدفئة في المنازل والمكاتب، وإنما سيقع التأثير الكبير على القطاع الصناعي، وهذا ما سينعكس بدوره على ارتفاع تكاليف الإنتاج وتوقف بعض المصانع، مما يعني المزيد من الغلاء، والمزيد من معاناة الناس، وهذا بدوره سوف يفاقم السخط الكبير لدى الجماهير، وكما خرجت الاحتجاجات في العديد من المدن الأوروبية فإنها ستعاود الخروج مرة أخري، وهذا سوف يسرع بتضعضع أوروبا سياسيًا بعد أن رأيناها الآن تعيش التضعضع الاقتصادي. إنها المواقف الشعبية الواضحة في أوروبا التي تقول لحكامها كفى سيرًا خلف واشنطن.
هل ستستمر نخب أوروبا في التسامح مع السياسات التي تجعلها أكثر تبعية للولايات المتحدة وربما تقضي عليها نهائيًا؟ هذا السؤال طرحته الكاتبة والباحثة اوديت الحسين التي ترى ثمة مؤشرات لولادة «هوية أوروبية مستقلة». فإذا كان كما تقول، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بدأت بعض الأصوات الأوروبية تخرج لتحذر من الانجرار الأعمى وراء السياسات الأمريكية، ولتطالب بصياغة سياسات أوروبية مستقلة تراعي مصالح أوروبا، فإن بعض هذه كانت واضحة في عدائها للسياسة الأمريكية تجاه أوروبا. اليوم بات الوقوف في وجه تسليح أوكرانيا والدعوة إلى التفاوض والسلام هو المؤشر الأهم بالمعنى السياسي لتعاظم الموقف الأوروبي الرافض للبقاء تابعا لواشنطن. منذ شهر مارس الماضي، كتب هانس كونداني، مدير مركز أبحاث «Chatham House» النخبوي في لندن: «على أوروبا أن تتجنب الوقوع في الفخ الذي نصبه المحافظون الجدد في المملكة المتحدة والولايات المتحدة اللذين يسعيان إلى تأطير السياسية الدولية على أنها صراع عالمي بين الديمقراطية والاستبداد. التاريخ ليس حكاية أخلاقية. إن السرعة التي غير الاتحاد الأوروبي مساره وحقيقة أنه لا أحد يعرف الاقتصادات التي ستتضرر بشكل اكبر ومتى، هي أمر مرعب. إن الاعتماد المتبادل بين روسيا واقتصادات الاتحاد الأوروبي أكبر مما يتصور كثير من الناس. سيمنع التأثير المضاعف للعقوبات تصدير القمح الروسي والأوكراني إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هل القادة الأوروبيون بحاجة إلى من يذكرهم بأن الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار ساعدا على اندلاع الاحتجاجات في جميع أنحاء الأراضي العربية قبل نحو عقد من الزمن».
في بريطانيا، ذكرت مظاهرات حملة «جمعية الشعب People Assembly» المناهضة للتقشف والخصخصة الناس بأن سياسة الشارع لم تمت، وبأن النخب الحاكمة البريطانية غير قادرة على إبقاء رئيس وزراء ليس لديه حل للمشكلات. ربما الخوف من الشارع هو ما دفع رئيس الوزراء الجديد ريتشي سوناك إلى رفض إقرار الزيادة في الموازنة الدفاعية التي تم تمريرها في عهد سلفه تراس. علقت صحيفة «مورننغ ستار» البريطانية على موقف سوناك بالقول: «هذا رفض خفي للضغط الأمريكي على الدول الأوروبية لزيادة الإنفاق العسكري. قد يتم إجبار الحكومة على القبول بها بسبب أزمتها المالية، لكنها رغم ذلك تعتبر خطوة معبرة». في إيطاليا نزل أكثر من 100 ألف شخص إلى الشوارع للتظاهر من أجل السلام. كانت صرخة شديدة تكشف عن حجم مناهضة الناتو في الفضاء السياسي – الشعبي الإيطالي – تم توجيه النقد العنيف لإنريكو ليتا، رئيس الوزراء الإيطالي السابق وزعيم «الحزب الديمقراطي PD»، بسبب نفاقه وظهوره في مظاهرات السلام، والتزامه مع حزبه بزيادة صادرات السلاح إلى أوكرانيا. في باريس وبراغ ومدريد نسمع أصواتا متزايدة مناهضة للناتو، ومناهضة للاتحاد الأوروبي. وفي بعض دول أوروبا الأخرى، مثل بلغاريا، وصل الأمر إلى دعوة بعض السياسيين إلى «تقسيم أوكرانيا بين أوروبا وروسيا ورفع العقوبات وعدم الانقياد وراء الولايات المتحدة». تشهد المدن الألمانية بدورها وبشكل مستمر مظاهرات تطالب الحكومة بإيقاف نزيف الاقتصاد الألماني، والائتلاف الحاكم قاب قوسين أو أدنى من الانهيار على مسألة الطاقة النووية. ربما زيارة شولتز إلى بكين في هذا السياق تعني شيئًا، وربما كما يشير البعض فإن شولتز:«عض لقمة يصعب عليه مضغها» حيث الانتقادات الأمريكية الصريحة لهذه الزيارة. يرى البعض بأن شولتز يحاول الاستعانه بماضي أسلافه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني: فيلي برانت «1969 – 1974» وهلموت شميت «1974- 1982». قام هذان بمبادرات رائدة تجاه الاتحاد السوفييتي السابق والصين على التوالي خلال لحظات حاسمة في التاريخ الحديث، ليتحديا بذلك قيود الناتو والتبعية للولايات المتحدة. بالنسبة لعدد كبير من المراقبين، فهؤلاء كانوا قادة على طراز يفتقد له شولتز ومن حوله، ولكن أيًا يكن من سيشغل منصب المستشار في ألمانيا فعليه أن يتعامل مع حقيقة أن العقوبات ضد روسيا قد أصابت ألمانيا بضربة شديدة، وأن قطاعات اقتصادية بأكملها توشك على الانهيار، أو الانتقال إلى الولايات المتحدة «سيكون لانتقال الشركات من ألمانيا إلى الصين أو الولايات المتحدة – هو مسرح جديد من الصراع في الحقبة القادمة، ففي حين أن المدراء التنفيذيين لبعض أهم الشركات الألمانية مثل بورش ومرسيدس بنز قد رفضوا وفقا للتقارير الصحفية مرافقة شولتز إلى بكين، فهناك شركات مثل BASF، الشركة الكيميائية الألمانية متعددة الجنسيات الأكبر قد نقلت إنتاجها إلى الصين من أجل إدامة قدراتها على المنافسة».
يمكننا عبر النظر إلى التغيرات في أسعار الصرف بين الدولار الأمريكي واليورو أن نرى اتجاه رأس المال. لطالما تمتعت أوروبا ببيئة استثمار جيد جذبت الاستثمار من العديد من البلدان، بما في ذلك الصين. لكن كما تنقل الباحثة اوديت عن بعض الصحف ألأوروبية، في إطار فرض عقوبات على روسيا، تزايدت الدعوات من جانب مؤسسات الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي للمطالبة بمصادرة الأصول الروسية، الأمر الذي جعل المستثمرين الأجانب – خاصة المستثمرين الصينيين – مليئين بالشكوك. تسعى الولايات المتحدة بشكل واضح إلى عزل أوروبا ضمن تحالف يتعامل مع روسيا والصين بوصفهما «محور شر». إذا استمر الاتحاد الأوروبي في اتباع النمط الأمريكي وتضخيم التنافس المؤسسي مع الصين في المستقبل، فهل ستظل الشركات الصينية تعتبر استثمارها في أوروبا آمناً؟ إذا تدهور الوضع الأمني في أوروبا وارتفعت تكاليف الطاقة بشكل حاد، فما هي فرص نجاح جهود الاتحاد الأوروبي في إعادة التصنيع، أو الإبقاء على الموجود على أقل تقدير؟ في الحقيقة لا تبذل الولايات المتحدة الكثير من الجهد لإخفاء نيتها تدمير أوروبا اقتصاديا. فإذا ما نظرنا إلى «قانون تخفيض التضخم الأمريكي IRA»، وإلى الظروف التي وضع رأس المال الأوروبي بها نفسه، لن تبقى شركة أو مصنع في أوروبا إلا وستفتح لها فرعًا رئيسيًا أو رديفا في الولايات المتحدة. وكما قال وزير المالية الفرنسي لو مير عنه: «يجب أن نقول بوضوح لشركائنا الأمريكيين أنها مشكلة كبيرة بالنسبة لنا. هذا غير مقبول. يمكن أن يخلق صدمة كبيرة للصناعة الأوروبية». النخب الأوروبية – وخاصة غير المالية – تحت ضغط البقاء اليوم، وهو ما يدفعهم بشكل واضح من أية مرحلة سابقة إلى البحث عن هوية أوروبا المستقلة. ربما لهذا فالمظاهرات التي تتزايد في أوروبا، يدعو إليها القوميون والحركات التي تعتبر «يمينية». إن كون هذه المظاهرات التي لا تزال في مراحلها الأولى قد تضمنت، وفي بعض الحالات تم إطلاقها من قبل عناصر قومية ويمينية، هو ببساطة توضيح أن هناك تناقضات حقيقة بين إستراتيجية الولايات المتحدة ومصالح قطاعات من رأس المال الأوروبي. ولهذا وبالعودة إلى مؤشر «التبعية» الذي ذكرته، فالدعم الأوروبي العام للحرب في أوكرانيا لم يعد له أي وجود.