د زهير الخويلدي
” المهمة التي تقع على عاتق المفسر هي أن يتوسط التواصل بين شريكين مختلفي اللغة: فهو يترجم من لغة إلى أخرى ويحقق صدقية المشترك الواعي بين الذوات للرموز اللغوية وصدقية القواعد”1[1]
في سلسلة حوارات انطلقت بينهما سنة 1967 يفند هابرماس ادعاء غادامير القائل بأن فلسفته الهرمينوطيقية تمتلك نطاقا كونيا بسبب إقحام اللغة في جوانب النشاط الإنساني كلها ويرى أنه لم يزود النقد بأرضية تتسم بالوضوح وأوقع التأويل في التاريخية والنسبية ويجد إصراره على كونية اللغة في مجال الفهم يغض الطرف عن المحددات الاجتماعية للمعرفة مثل علاقات القوة وبنية الفعل ويتبنى نظرية تواصلية ترتكز على التداولية الكونية وتفترض فكرة متعالية للحقيقة تقوم على الإجماع.
الجدير بالملاحظة أن هابرماس يميز بين المجتمعات التقليدية التي تقيم أنظمتها على القرابة والقبلية والأساطير والأديان والمجتمعات المتطورة التي تستجيب للمقاييس العامة للثقافة والعقلنة والتي تتوزع إلى ثلاثة مقاييس:
– وجود فعلي للسلطة المركزية للدولة
– وجود تنظيم تراتبي عقلاني للمجتمع
– وجود رؤية للعالم تضفي الشرعية على سيطرة الدولة وتراتبية المجتمع.
على هذا النحو ينادي هابرماس باستكمال مشروع الحداثة ومواصلة استراتيجية عقلنة المجتمع وذلك من خلال الآليات التالية:
– إخضاع شبكة العلاقات الاجتماعية إلى مقاييس القرار العقلاني ( التصنيع والتخطيط)
– إضفاء طابع دهري لرؤى العالم الموجهة للعمل ونزعة الطابع القدسي للتراث والتقاليد.
– رسملة الأنشطة الاقتصادية وبرجزة المبادلات القانونية وبقرطة التنظيم الإداري.
“إن العقلنة المتصاعدة للمجتمع مرتبطة بمؤسسة التقدم العلمي والتقني بالقدر الذي يدخل العلم والتقنية في القطاعات المؤسساتية للمجتمع وعن طريق ذلك تغير المؤسسات نفسها وتجد المشروعيات القديمة نفسها محطمة”2[2].
بعد ذلك يستبدل بارديغم الوجود الذي كان متبعا من قبل القدامى ويعوض بارديغم الذات الذي اعتمده المحدثون بباراديغم اللغة ويعود إلى هبمدولت في عملية إسناد ثلاثة اللغة وظائف أساسية هي :
ـ التعرفcognition وذلك من خلال تشكيل الأفكار وتمثيل الوقائع
ـ التعبير expressivité عن الأحاسيس والمشاعر وإثارة العواطف والانفعالات
ـ التواصلcommunication عن طريق إزالة الاعتراضات والموانع وبلورة الاتفاقات والتفاهمات3[3].
لقد أوجد هابرماس صلة وثيقة بين نظرية اللغة ونظرية المجتمع وجعل أغراض استعمال الكلام لا تكون معرفية تعبيرية فحسب بل اجتماعية تواصلية وكان التركيز على لغة الحياة اليومية وألعاب اللغة وأشكال الحياة وأفعال الخطاب وتم الاستنجاد بتحليلات فتغنشتاين الثاني وسورل وأوستين ورورتي وعير قيمة نظرية الخطاب في علاقة بوقوع أمر معين في العالم مثل الأحداث والأشياء والأفعال وفق رؤية قصدية.
لكن كيف جعل هابرماس نظرية اللغة وسيطا تداوليا لبناء نظرية المجتمع وأسند لنظرية أفعال الخطاب وظيفة توضيحية للعقلانية التواصلية؟ ولماذا عوض هابرماس عقلانية الحساب بعقلانية الالتقاءentente؟
” نحن نفهم فعل الخطاب عندما نعرف ما يجعله مقبولا”4[4]
تتمثل أطروحة هابرماس في رفض العقلانية الأداتية لكونها تمارس فعل العقلنة من فوق ويتبنى خيار العقلانية التواصلية لكونه يبث حركة العقلنة من تحت ويسمح للأفراد بالتعبير عن معقوليتهم بحرية.
تتمكن العقلانية التواصلية من بلوغ التجربة المركزية للقوة الخاصة بالخطاب الحجاجي حينما يقدر هذا الأخير على إبرام تفاهم دون ضغط وابتكار توافق دون خلاف ودفع المتحاورين الى تجاوز ذاتيتهم الأولية وتبني اقتناعات عقلانية تعكس وحدة العالم الموضوعي وتشكل الأرضية البيذاتية لعالم الحياة المشتركة.
يميز هابرماس بين العمل والتفاعل وبين الفعل الأداتي الذي يتم حسب قواعد تقنية تقوم على معرفة تجريبية ضمن تنبؤات مشروطة وقابل للمراقبة والتحكم والتوجيه والفعل التواصلي الذي يتم ضمن وساطة رمزية ويتفاعل مع جملة من القيم والمبادئ التي تلتزم بمعايير صالحة وتزيد التوافقات قوة5[5].
كما درس هابرماس علاقة المعرفة بالمصلحة وتبين له أن وضعهما لا يكون متساويا أبدا وأن الاستقلالية النظرية غير المشروطة للمعرفة تضعها في خدمة مصالح غريبة عنا وتتشكل ضمن اللغة والعمل والسيطرة وفي هذا الصدد ميز بين ملاحظة موضوعات التجربة الحسية البراغماتية وفهم موضوعات التجربة التواصلية الممكنة وبين براكسيس البحث وبراكسيس الحياة . ولقد كشف عن وجود مصالح توجه المعرفة وميز بين المصلحة التقنية الأداتية للمعرفة والمصلحة العملية الهرمينوطيقية للمعرفة والمصلحة المحررة للمعرفة قائلا:” الحقائق لا تُكَوَّن لأنها ليست كيانات في العالم وإنما ترابطات بين الأقوال على مستوى المحاججة لكن ما يُكوَّن هو موضوعات التجربة العائدة إلى الفعل”6[6] .
بعد ذلك يدعو هابرماس إلى التبصر النقدي وبلوغ مرحة الرشد عبر نقد النقد بالاستخدام اللغوي للإرادة والوعي في وظيفة العقل بانطلاق حوار بين الجميع في مجتمع متحرر خال من السيطرة ويكون الهدف بلوغ التوافق الصحيح بقوله:” في قوة التأمل الذاتي يكون كل من المعرفة والمصلحة واحدا”7[7].
كما يضيف بعد ذلك دعوة الى ضرورة ممارسة النقد الجذري للايديولوجيات قصد التخلص من الأوهام وأشكال التشويه والاستغلال التي لحقت بالإنسان وأفسدت العلاقة بين النظرية والممارسة مصرحا ما نصه: “وحدة المعرفة والمصلحة تثبت جدارتها في جدل يعيد تكوين ماهو مكبوت انطلاقا من الآثار التاريخية للحوار المكبوت”8[8]. علاوة على ذلك” يجب أن أكون قد خبرت في زمن معين بوصفي مشارك في تواصل ماذا يعني إعطاء الأمر أو تلقيه”9[9]. وبالتالي توجد أربعة قواعد أساسية بالنسبة إلى دعاوي الصلاحية validité من طرف الخطاب البشري هي:
1ـ تعني المعقولية intelligibilité بذل مجهود هرمينوطيقي وبلورة توضيح دلالي يمكن من تقريب المسافة بين الباث والمتلقي رغم عدم امتلاكهما لنفس اللغة وبالتالي يصبح التعبير الرمزي عن التلفظ الفعلي مفهوما في سياق اجتماعي معين.
2ـ الحقيقة vérité تعني وجود إقرارات وإثباتات وتفسيرات تقوم بها اللغة حينما تتعرف على حالة الأشياء بوصفها واقع موضوعي وتتواصل معها.
3ـ الوفاءsincérité وهي تلفظات تعبيرية تتعلق بالأحاسيس والأمنيات وتعبيرات الإرادة.
4ـ المصداقية أو الصواب justesse هي عبارة معيارية تشير إلى الوعود والإرشادات والنصائح التي تظهر أثناء الاستعمال التواصل للغة في العلاقات البيذاتية.
اللافت للنظر أن الاستعمال المعرفي للّغة يفترض الاستعمال التواصلي وأن هذا الأخير يفترض بدوره الاستعمال المعرفي وذلك لأن نظرية حول المجتمع تتأسس على التواصل تولي عناية للبنية المزدوجة للخطاب أي بنية معرفية وتواصلية في نفس الوقت10[10]. زد على ذلك يعول هابرماس على الكفاءة التواصلية التي تمتلكها اللغة في سبيل تكوين نظرية نقدية للعقلانية الأداتية وتدشين تصور وسائطي رمزي للمجتمع. ” لقد ارتبط استعمال الكلام من أجل غايات تواصلية بالوظيفة العرفانيةfonction cognitive للكلام، لكي يتم فهم الكلام الأجنبي ينبغي ، إلى حد ما ، على كلا الطرفين الإحالة إلى بعضهما البعض ، من وجهة النظر التي في كل مرة تكون لهما، إلى درجة قبول التقاء متفق عليه في العالم الموضوعي”11[11]. لقد طرح هابرماس في كتابه مابعد ماركس مسألة دور الفلسفة في الماركسية وبحث عن منزلتها في العالم المعاصر وتساءل: أليست الفلسفة قوة إنتاجية أم وعي زائف ؟ هل الفلسفة تقوم بشرعنة السيطرة الرأسمالية على الكون أم أن مهمتها تكمن في التدمير الذاتي لعالم البرجوازية ؟
ألا تعد جزء لا يتجزأ من الطاقة الإنتاجية ومحرك التاريخ؟ كيف تقوم بتصوير الوعي وتعيد بناء مضمونه العقلي؟
على حد رأيه يتمثل الدور الحالي للفلسفة في قيامها بثلاثة مهام:
1- النضال داخل العلوم ( علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية) من أجل تطوير الإستراتيجية الأكثر صلابة فيها كلما برزت لمواجهة التجزيئية التجريبية والاستقرائية. تعتبر الفلسفة إلى أيامنا الممثل الذي لا يعوض لضرورة الوحدة والشمولية. لا يخلو هذا الدور التمثيلي للفلسفة من شرف خاص.
2- تؤدي الفلسفة مهمة الكشف عن كونية الفكر التي تهدف إلى المعرفة الموضوعية، بعد أن كونتها العلوم، مثل كونية المبادئ التي تحكم الممارسة العقلية للحياة التي لا تقبل الشرعنة فحسب بل التبرير.
3- المهمة الأكثر نبلا للفلسفة هي إقامة التعارض بين قوة التفكير النقدي الجذري وكل أشكال الموضوعانية وبالتالي مقاومة كل استقلالية إيديولوجية وهمية تدعيها المؤسسات والاستفادة منها في السياقات العملية التي تنبثق منها وتطبق فيها12[12].
في نهاية المطاف أذا كانت فلسفة اللغة تعتمد على تحليل اللغة العادية وألعاب الكلام وأشكال الحياة وأفعال الكلام في تفسيرها للنشاط الاجتماعي وتتصور العلاقات القصدية بين الذوات على غرار العلاقات المنطقية الحملية بين القضايا فإن التداولية الكونية عند يورغن هابرماس تستمد كفاءتها من مشروع الحقيقة النقدية وترحص على ضمان صلاحية الخطاب ونمذجة الفعل التواصلي في الفضاء العمومي وتعمل على إعادة بناء عقلانية لمنطق النقاش ودلالية التواصل اللغوي. فماهي الاستتباعات الايتيقية لهذا المنعرج التداولي على الفلسفة المعاصرة؟
الإحالات والهوامش:
[1] هابرماس (يورغن) ، المعرفة والمصلحة ، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة اولى، 2001 ، ص.265.
[2] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة اولى،2003،ص.43.
[3] Habermas Jürgen, vérité et justification, traduit par Rainer Rochlitz, édition Gallimard , Paris 2001,pp. 12.13
[4] Habermas Jürgen, logique des sciences sociales et autres essais, traduit par Rainer Rochlitz, édition PUF, Paris, 1987.p.445.
[5] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، مصدر مذكور ، صص.56-57.
[6] هابرماس (يورغن) ، المعرفة والمصلحة ، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة اولى، 2001 ، ص.377.
[7] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، مصدر مذكور ، ،ص.154.
[8] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، مصدر مذكور، ص.155
[9] هابرماس (يورغن) المعرفة والمصلحة ، نفس المصدر، ص374.
[10] Habermas Jürgen, sociologie et théorie du langage, traduit par Rainer Rochlitz, Armand colin éditeur, Paris,1995.pp.76.77.
[11] Habermas Jürgen, vérité et justification,op.cit.p. 17.
[12] هابرماس (يورغن) ، مابعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد ، دار الحوار ، سوريا، طبعة أولى 2002، بتصرف، صص 228-229.
المصادر والمراجع:
هابرماس (يورغن) المعرفة والمصلحة ، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة أولى، 2001 ،
هابرماس (يورغن) ، مابعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد ، دار الحوار ، سوريا، طبعة أولى 2002،
هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة أولى،2003،
Habermas Jürgen, sociologie et théorie du langage, traduit par Rainer Rochlitz, Armand colin éditeur, Paris,1995, chapitre III, ( d’une théorie fondée sur le principe de la communication (Sellars et Wittgenstein). L’usage du langage a des fins de communication ou a des fins de connaissance. pp.55.78.
Habermas Jürgen, logique des sciences sociales et autres essais, traduit par Rainer Rochlitz, édition PUF, Paris, 1987.
Habermas Jürgen, vérité et justification, traduit par Rainer Rochlitz, édition Gallimard, Paris 2001, chapitre I, de l’herméneutique a la pragmatique formelle : philosophie herméneutique et philosophie analytique.1. Deux versions complémentaires du tournant linguistique. 2. La rationalité de l’entente. La rationalité de la communication explicite par la théorie des actes de parole. pp.11.80.
Habermas Jürgen, théorie de l’agir communicationnel, traduit par jean Marc Ferry, édition Fayard, 1987.tome1 : rationalité de l’agir et rationalisation de la société. Tome2 : pour une critique de la raison fonctionnaliste.
كاتب فلسفي
[1] هابرماس (يورغن) ، المعرفة والمصلحة ، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة اولى، 2001 ، ص.265.
[2] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة اولى،2003،ص.43.
[3] Habermas Jürgen, vérité et justification, traduit par Rainer Rochlitz, édition Gallimard , Paris 2001,pp. 12.13
[4] Habermas Jürgen, logique des sciences sociales et autres essais, traduit par Rainer Rochlitz, édition PUF, Paris, 1987.p.445.
[5] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، مصدر مذكور ، صص.56-57.
[6] هابرماس (يورغن) ، المعرفة والمصلحة ، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، كولونيا، طبعة اولى، 2001 ، ص.377.
[7] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، مصدر مذكور ، ،ص.154.
[8] هابرماس (يورغن) ، العلم والتقنية كإيديولوجيا، مصدر مذكور، ص.155
[9] هابرماس (يورغن) المعرفة والمصلحة ، نفس المصدر، ص374.
[10] Habermas Jürgen, sociologie et théorie du langage, traduit par Rainer Rochlitz, Armand colin éditeur, Paris,1995.pp.76.77.
[11] Habermas Jürgen, vérité et justification,op.cit.p. 17.
[12] هابرماس (يورغن) ، مابعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد ، دار الحوار ، سوريا، طبعة أولى 2002، بتصرف، صص 228-229.