المناظرة الرئاسية الأمريكية الأخيرة ودلالتها في سيكولوجيا الأتصال
د.عامر صالح
واجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منافسه الديمقراطي جو بايدن في المناظرة الأخيرة بينهما، بمدينة ناشفيل في ولاية تينيسي، وذلك قبل انتخابات الرئاسة المقررة في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وشهدت المناظرة الأولى التي جرت بينهما في 29 سبتمبر/ أيلول الماضي فوضى ومشادات كلامية، وكان من المقرر إجراء 3 مناظرات بينهما لكن تم إلغاء المناظرة الثانية التي كان موعدها في 15 أكتوبر/ تشرين الجاري، إثر جدل حول قرار لجنة المناظرات بتنظيمها افتراضيا بعد إصابة ترامب بفيروس كورونا.
هناك رأي شعبي يستند الى القياس في المناظرة الأولى ولم يستطع تجاوزه استنادا الى الشخصيتين المتحمستين للفوز بالرئاسة وفرط انفعالاتهما وتشبثهما بالخطاب القهري التعسفي, فأن “الفائز” بالمناظرة الأخيرة بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، هي كريستين ويلكر ” الصحفية التي ادارت الحوار بين بايدن وترامب ” وتهديدها باستخدام زر إغلاق المايكرفون أمام المرشح إذا تجاوز حقه في الحديث. لقد تباينت محاور المناظرة الرئاسية التي افتتحت بطلب بتوخي الكياسة في الحوار بين المتنافسين؛ من فيروس كورونا والتغير المناخي إلى الهجرة والعنصرية والضرائب الشخصية غير المدفوعة. وقد بدأت مديرة الجلسة ويلكر المناظرة بالطلب من كلا المرشحين بعدم مقاطعة أحدهما الآخر وأن يتحدث واحد منهما في كل مرة. وقد نجحت في فرض ذلك في الجزء الأكبر من زمن المناظرة.
وقد أثمر تغيير صيغة إدارة المناظرة (بإعطاء مديرتها ويلكر حق استخدام زر يقفل المايكرفون أمام أحد المتنافسين عندما يأتي دور منافسه للكلام) في إنجاح ثاني وآخر مناظرة رئاسية بين الرئيس دونالد ترامب ومنافسه جو بايدن. وبدا كلا المتناظرين أكثر كياسة من المناظرة السابقة في السماح للآخر بالحديث، وحتى في مهاجمتهما لبعضهما البعض التي جرت نسبيا بأسلوب منظم وموقر. وعلى ما يبدو فأن كل من بايدن وترامب لم يركنا الى قدراتهما الذاتية في تأمين فرص للحوار الديمقراطي الهادئ إلا بتدخل طرف ثالث وسيط يمثل سلطة الأعلام والصحافة لقمع جماح تهور الأثنين للفوز في الرئاسة القادمة.
وقد انجزت السيدة ويلكر مستندة الى أرث والديها اليساريين الى جانب ذكائها الفردي والمهني كصحفية في تأمين ظروف افضل لعملية الأتصال لكلا المرشحين من جانب, ومن جانب آخر لأيصال رسالة واضحة للجمهور الناخب ان ما يجري هو ليست عراك شخصي بل خلاف حول الرؤى للبرامج الانتخابية والطموحات القادمة والدفع نحو ممارسة النقد والنقد الذاتي لحقبة سابقة والتأسيس لحقبة قادمة.
وقد ساهمت السيدة ويلكر بتأمين اتصالا ناجحا نسبيا, والذي يتمحور في جوهره في المقدرة على إيصال أي رسالة أو معلومة أو طلب أو أمر ذي هدفٍ وغاية بشكلٍ سَلِسٍ وبسيط؛ بحيث يتمكّن كلا الطرفين من استيعاب الرسالة وتقبُّل كل ما يصدر عن الطرف الآخر من أفعالٍ أو أقوالٍ لأجلِ الهدفِ الذي جاءَ لأجله هذا الاتصال، وهو اتّصال يتميّز بأنّه مريحٌ ومُجدٍ لكلّ من الطرفين، ويُساهم في تقويض جميع العقبات والحواجز بينهما؛ لكونه لا يتمُّ إلا في أجواء من التصالحِ والتفاهم، ويتطلّب جهد كلّ من الطرفين في إنجاحه. وقد ساهمت السيدة ويلكر تأمين شروط الأتصال الناجح من خلال ما يأتي:
الوضوح: لا بدّ من توفر عنصر الوضوح كي يستطيع الطرف الآخر وهو المُستقبِل، فهم رسالة الشخص المُرسِل، يجب أن تكون رسالة الأخير واضحةً، ولا تحتمل الكثير من التأويلات الصعبة، لأنّ ذلك سوف يُشكّل حجر عثرةٍ في طريق نجاح العملية الاتصالية، أو أنّ إتمامها سيأخذ وقتاً أكثر من المطلوب.
عدم الإطالة: قد يُراعي الشخص مسألة وضوح رسالته وبساطة المعنى الذي تحمله، لكنه قد يتناسى أو يتجاهل مدى أهمية اختصار كلامه، فُيكثر من التفاصيل المُملّة، والحشو غير الضروري، وهذا ما يضطر الطرف الآخر لتجاوز بعض السطور، إنّ كان الاتصال من خلال رسالةٍ مكتوبة، وإنّ كان مباشراً وجهاً لوجه فإنّ المُرسل إليه سينسحب من الحوار، أو يُشغل نفسه بأيّ أمرٍ آخر غير الاستماع للمرسل إليه، كما يجب أنّ يكون موضوع المضمون الاتصالي مُتمحوراً حول الهدف الأساس من إجراء الاتصال.
البراهين: يجب أنّ يكون كلام المرسل أو ما يُقدّمه مدعوماً بالدلائل والبراهين الواقعية، لأنّ أي ذكر لمعلومات لا تمتّ للواقع بصلة، سيتم تجاهلها بكل بساطة، كما أّن تقديم الإثباتات تُحفّز الطرف الآخر لتبنّي الرسالة أو الحوار وهذا حسب الوسيلة الاتصالية، وبالتالي دفعه لاتخاذ سلوكات إيجابيّة.
مراعاة الأسلوب اللغوي والصياغة: من الضروري أن يحرص الشخص على استخدام الألفاظ المناسبة عند التواصل مع الطرف الآخر، وعند الكتابة مثلاً مراعاة أن يتم استخدم اللغة المناسبة أيضاً، وصياغة المحتوى الاتصالي بصورةٍ لائقةٍ، من شأنها إنجاح العملية الاتصالية، كما من الضروري تفادي كتابة الكلمات العامية، في أشكال التواصل الرسمية خاصة.
الكلمات التي تُشبه الشخص: إنّ الكلمات التي تصدر عن أي شخص، هي بالضرورة تُعبّر عن شخصيته، وقناعاته الداخلية، لذا من الضروري أنّ يُعبر الشخص عن نفسه بطريقةٍ صحيحة، وإنّ وجد نفسه مُفرغاً من الكلمات اللبقة، أو أنّه غير قادر على التصرّف والتعبير بُرقي، عليه أنّ يقوم بمراجعةٍ شاملةٍ لنفسه، قبل الشروع بأي عمليةٍ اتصاليةٍ محكومٌ عليها بالفشل مُسبقاً.
التكامل: ما العبرة من أنّ يُرسل أحدهم رسالةً منقوصةً للآخرين، أو ربما يبدأ حديثه معهم دون أنّ يتمكن من إيصال ما يُريد، ليعود بعد انتهاء الحوار بدقائق مُعبراً عن رغبته في استئناف الحوار، وغالباً ما سُيقابَل هذا التصرف بكثيرٍ من فتور الآخرين، وقناعاتهم بأنّ المُرسل إليه لا يملك السيطرة على أفكاره، وخير دليل أنّه لم يتمكّن من توضيح ما يُريد، في أول فرصةٍ للنقاش مثلاً.
اللطْف: إنّ مراعاة اللطف أو اللطافة في الحديث أو الكتابة، أمر ضروري لمنح الآخر فرصة التفاعل مع الرسالة الاتصالية بكل أشكالها المعروفة، أما إن تمسك الشخص بشرح المصطلحات والمفاهيم بطريقةٍ توحي للناس بالفوقية والتعالي، ناهيك عن تقزيم الطرف الآخر، وتخطيئه، فحتماً سوف يُفشل في اتصاله مع الآخرين.
وبشكل عام، يمكن القول إن مديرة المناظرة ويلكر قد حصلت على إجابات على أسئلتها، وعلى مناقشة أكثر كياسة وثراءً من المناظرة السابقة وقد ساهمت في توفير فرص الأصغاء الممكن للجمهور المستمع والمتابع والذي يشكل القاعدة الانتخابية لكلا المرشحين, الى جانب تأمين شروط الأتصال الجيد نسبيا كما تم ذكره اعلاه.
في الختام هناك نجاح لبايدن قابل للزوال وهناك خسارة لترامب قد تتحول الى نصر تحت ضربات المزاج الترامبوي الأمريكي المتأثر في اللحظة بالخطاب المنفعل وبلحظات العزف على الشعبوية الأمريكية واوراق مختلفة من الكراهية لبعض حكومات العالم الخارجي وفي مقدمتها الصين وروسيا وايران. وبالتالي فأن المزاج العام والأنفعالات تلعب دورا في اختيار الرئيس القادم وليست بالضرورة البرامج الأنتخابية وسعة أفق التفاعل مع المستقبل, فالكثير من الخطابات تخلق قطيعا يساق ولا تخلق تفرد في الأختيار.