د. مثنى عبدالله
تحكمت بالمشهد السياسي العراقي منذ التاسع من نيسان/ابريل العام 2003 ولحد الآن ثلاث قوى رئيسية.
هي قوة الاختيار وقوة الضرورة والقوى المستفيدة. وقد مثلـــــت الولايات المتحدة الامريكية قـــــوة الاختيار، بعد أن قررت باختيارها هي أن تكون الساحة العراقية هي المسرح الجديد لتنفــــيذ صفـــحة أخرى من سياساتها العدوانية المعروفــــة، بعد أن خرجت مطعونة الذات مجروحة الهيبة في أحداث الحادي عشر من أيلول.
وقد ساهم الوضع الدولي في ذلك الاختيار بعد أن حشدت دول أوروبية وعربية جهدها الدبلوماسي والإعلامي في ماكنة التبريرات الأمريكية لتعزيز ذلك التمادي لأسباب تخص حقول الأمن والاقتصاد والمال أو لدفع القوى العالمية الناهضة عن منطقة الشرق الأوسط وتعزيز هيمنة القطب الواحد. كما أن من الأسباب المهمة أيضا كان دفع الضرر عن النفس. فالاندفاع الأمريكي نحو العراق لتنفيس الشعور بالمهانة والثأر من عدو مجهول، أفضل من التصادم في مكان أخر من الخريطة الجغرافية الدولية، قد تكون استحقاقاته العسكرية والأمنية على الصعيد الدولي والإقليمي أكبر.
فالعراق في ذلك الوقت دولة باتت ضعيفة أنهكها الحصار، كما أنه كان خاليا تماما من أية مصالح حقيقية على أرض الواقع لهذا الطرف الدولي أو ذاك يستوجب الدفاع عنه أو الوقوف الى جانبه، كما أن الامتيازات التي عرضتها دول الاقليم مقابل أحتلاله كانت مشجعة تماما للولوج في هذه المغامرة. أما القوى المستفيدة، فلقد تجحفلت تحت هذه الراية أجهزة مخابرات دولية وإقليمية، ومافيات سلاح وقتل وسرقة، ودول صغيرة وكبيرة وشركات خاصة وعامة، وكانت لكل منها أجندة خاصة تستهدف العراق وشعبه، بعضها لأغراض أنية دوافعها الحقد والسرقة والانتقام بالأجر المدفوع أو لأهداف إستراتيجية بعيدة الأمد هدفها التحكم بالقرار السياسي العراقي أو المشاركة في صنعه. أما القوة الثالثة فهي قوة الضرورة التي مثلتها المقاومة الوطنية العراقية بكل فصائلها وتوجهاتها الفكرية والسياسية على اختلاف وسائلها، التي كان وجودها حتميا وضرورة فرضتها اللحظة التاريخية التي مر بها الوطن، وتطلبها الدفـــاع الذاتي والعفوي عن الوجود.
وإذا كانت الأسس المادية والمعنوية والداعميــن الدوليين والإقليمين قد توفرت جميعها لولادة القوتين الطارئتين، نعني بهما قوة الاختيار والقوى المستفيدة، فأن قوة الضرورة كان داعمها الوحيد هو الحاضنة الشعبية وهو الأساس المعنوي والمادي الذي قامت عليه، لذلك كان فعلها اكبر أثرا في حركة القتال والتحكم بمساراته على مدى سنوات الاحتلال، على الرغم من عدم توصلها الى قيادة ميدانية وسياسية واحدة حتى هذه اللحظة.
إن التحولات التي شهدها الموقف السياسي والعسكري على أرض الواقع في العراق، لم تكن قوة الاحتلال مخيرة فيه مطلقا، بل كانت المقاومة العراقية هي المحرك الأساسي له والدافع الرئيسي في اتخاذه، وقد وعى المحتلون هذه الحقيقة منذ الأشهر الأولى للغزو فراحوا يتعاملون معها كقوة لا يمكن السماح بظهورها بالشكل الحقيقي الذي تمثله، فجنحوا الى عقد الصفقات السرية والعلنية مع دول الجوار العربي والاقليمي بهدف حرفها، وتشكيل قوى جديدة من داخلها أو من بعض الرموز التي كانت محسوبة عليها، كما أوعزوا لحكومتهم في المنطقة الخضراء للشروع بما يسمى المصالحة الوطنية، لاجتذاب بعض المترددين بين استحقاقات الوطن واستحقاق المجد الشخصي والسارقين لشعارات المقاومة، وإبرازهم إلى الواجهة السياسية ومنحهم ألقابا وصفات ومناصب استشارية حكومية، وتسليط الأضواء والبهرجة الإعلامية عليهم بغية صنع نموذج مقاوم قد عاد للتو من ساحات القتال، وبات يرتدي الزي المدني وربطات العنق في مكتبه الأنيق، وتحت تصرفه آلاف الدولارات كتعبير عن استحقاقات المرحلة، لأشخاص حققوا النصر على الأعداء بقرار الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق. وقد كان الهدف من كل ذلك هو خلق مقارنات في الأوساط الشعبية الحاضنة للمقاومة، بين استحقاقات الابتعاد عن المشروع السياسي للعملية السياسية الذي يوجب المطاردة والاعتقال والقتل والتنكيل بعوائلهم، وبين استحقاقات من يلتزم به ويعمل وفق شروطه والذي يوجب المكافأة والتمتع بالامتيازات، وبالتالي جعل هذه المقارنة ذات الركيزة المادية عامل ضغط مجتمعي على كل عناصر المقاومة لإخماد جذوة النضال ضد العدو. وقد رافقت هذه الإجراءات حملة إعلامية تصور أن العدو لم يعد موجودا في الحياة اليومية للمواطن كما كان في السابق، فلقد جدول انسحابه وتموضع في قواعد خارج المدن وسلم السيادة وأنه قد تاب عن أفعاله السابقة، وبذلك فأن الكرة الآن في ملعب المقاومة التي أمامها طريق واحد هو إلقاء السلاح والانخراط في العملية السياسية، وبعكسه فأنه ليس هنالك أي تفسير أخر لوجودها سوى أنها تستهدف المواطن.
لقد تفاعلت قوة الاحتلال مع الاستحقاقات التي فرضتها عليهم المقاومة العراقية، وقاموا بتطوير وسائلهم وأدواتهم للحد من نفوذها العسكري والسياسي والمجتمعي. لكن المقاومة لم تطور أساليبها السوقية والتعبوية، كي يستمر الزخم المادي والمعنوي لها في ساحات المواجهة، أو في الأوساط الشعبية لحد الآن. فهي لازالت بلا رأس واحد على الرغم من وجود أشارات تدلل على أن التنسيق حاصل فيما بينها، لكن الرأس القائد له دلالة رمزية يحسب حسابها العدو خاصة في الميدان العسكري كما أن توحيد الخطاب السياسي يعجل من انحناء العدو للتفاوض ويقضي على حلم المراهنة السياسية على هذا الفصيل أو ذاك في المستقبل القريب أو البعيد.
كما لابد للمقاومة العراقية أن تستفيد من الحراك الشعبي الموجود الآن في الشارع العربي ومنه الشارع العراقي، لكسب القوى الشعبية الفاعلة للحصول على تعاطفها وطرح نظرتها ومشروعها السياسي، وإبراز مستوى الجريمة التي حصلت في العراق، وبيان أحقيتها القانونية والشرعية في طرد المحتل وأعوانه من الوطن. كما أن الأمانة التاريخية التي تصدت لحملها المقاومة العراقية، أنما تتطلب منها عدم السماح بجعل الحالة السياسية القائمة الآن في العراق واقعا سياسيا يتم التسليم به من قبل دول الجوار وخاصة الأقطار العربية، وضرورة استغلال حالة الرفض الشعبي للحكم الراهن للبناء عليه، بما يقوض الدعائم التي يضعها المحتل لجعل حكومة الدمى واقعا سياسيا مقبولا من الآخرين.
لقد انطلقت المقاومة العراقية بإرادة شعبية عارمة، وأن استمرار تواجدها بين صفوف الشعب هو الرافد الوحيد لاستمرار فعلها لذلك لابد من بروز شخصياتها الدينية والثقافـــية في أوساط المجتمع، كي تصنع النموذج الأخلاقي المثالي وتعكس روح المقاومة، وتعري الشخصيات الدينية والعشائرية الزائفة، كما عليها أن تخطو خطوات جديدة على أرض الواقع، وتنفتح على الجوار العربي وتتفاعل مع المنظمات الشعبية والاتحادات والنقابات المهنية فيه، وتحتضن الجاليات العـــراقية وتكافح لدى السلطات في تلك الدول لتسهيل أمــــورها الحياتية والمعيشيـــة. كـــما أن تعزيز الإعلام المقاوم وتطـــوير الصحافة والقنوات الفضائية الخاصة بها، هو وسيلة ناجحة في التعريف بحقيقة المقاومة وأبعاد التصويرات الكاذبة عن ذهن المواطن، التي تبثها وسائل أعلام المحتل والسلطة. بمثل هذه المنهج يمكن البناء على طريق منهج وخارطة جديدة.