عبد ألامير الركابي
مهما فعلنا، فإن ‘المسالة اليهودية’، تظل تذكر بقوة حضورالمنظور التوراتي. ولايبدو أن هنالك حل متوقع لهذه القضية خارج هذا الإطار. وإذا كنا نتصور، أن لهذا المنظور آليات تطور، وسيرورة تاريخية مستقبلية، فان حل هذه المسالة المستعصية، يبدو بعيداً، ولايمكن تصوره خارج تلك الآليات، وحيث أن هذا التاريخ يترافق مع سلسلة من التحريفات، وأن الصهيونية آخر مايمكن إدراجه ضمن هذا المسلسل، إلاأن العالم المعني بهذه القضية، وهو هنا العرب والمسلمون، ناهيك عن الفلسطينيين، لم يقدموا من جهتهم، التخريج التوراتي المناسب، ذلك مع العلم أن عناصر ‘الرواية’ أو السردية التوراتية، وجدت هنا بالأصل، وهنا يفترض أن تنبعث وتتجدد .
وحيثما يطول رفض، أوالتذمر من مسالة إستخدام الديني، لبناء دولة قائمة على الإغتصاب. إلا أن هذا الإستغلال بحد ذاته، كان يمكن أن يستحث تعديلا في الرؤية التاريخية والتصورية، من الطبيعي أن تاتي مقابلة للرؤية ‘اليهودية الصهيونية’ المعاصرة، غير أن هذا الجانب على مايبدو، تحول دونه أسباب، لها علاقة بتكلس المفاهيم، ووثقل التراجع الطويل، وبضيق مدى وحدود توجهات التحديث العربية،وبالأخص اللاهوتية، وكما أفلح الغرب والصهيونية، في خلق ‘يهودية جديدة’ معاصرة، ومتمحورة حول ‘الدولة’، بما هي ‘وعد’ أساسه، ألهبة الإلهية لابراهيم بأرض فلسطين. فمن الملاحظ مع ذلك، وبالرغم منه، وجود ‘حركة حنين’ جماعية، قوية ومستمرة، بين اليهود العراقيين إلى أرض الرافدين. بالأخص بين اليهود الذين غادروا العراق مكرهين، ليستقروا في فلسطين المحتلة. وهذه الظاهرة ماتزال مستمرة، وإن هي قد ضعفت بمرور الزمن، وإنغلاق الأفق، وإنعدام التصور، أو المفهوم، الذي يبرر ويؤطرمثل هذه الظاهرة، ألتي هي بالأصل ‘نتاج’ وعد’ أصلي، تجعل من اليهود العراقيين بالذات، حالة متميزة وملفتة بين اليهود عموماً، بما فيهم بقية اليهود الشرقيين.
غير أن لهذا الموقف مايبرره تماماً، فطريق اليهودية ممتد بين فلسطين والعراق، والأصل الذي جاء منه العبرانيون، هو جنوب العراق. وسمات هؤلاء كجماعة،، كما يوصفون، وكما هم حتى الآن، نتجت بالدرجة الأولى، عن ‘عراقيتهم’ لاعن فلسطينيتهم. فالجماعة، أو القوم المنفي المرافق لإبراهيم، إتخذ جانب العزلة عن المحيط، لأنه ماكان قادراً، على الإندماج في المكان الذي إضطر للإنتقال إليه، أي ساحل الشام ومصر . ويمتاز العبرانيون، بأنهم ‘توحيديون’، بينما المنطقة التي حلوا فيها، وثنية في الغالب.
وهذا السبب أقام حاجزاً بين هؤلاء، وبين الأقوام ألتي إضطروا للعيش بين ظهرانيها، خاصة في وقت، كانت ‘علوم الدين’ هي أرفع العلوم، ومبرر حالة من التشاوف. ولأن إبراهيم، أسس في المنفى، لإستمرارية تحولت إلى خصوصية تنتج ذاتها، عبر سلسلة متصلة من النبوات، فقد وجدت حالة متفردة، وظاهرة مستقلة بمفاهيمها، وثقافتها المتواصلة والمعاد إنتاجها،خارج أرضها، بينما هي إحتاجت من أجل الإستمرارية، إلى التشكل تحت خيمة ‘الوعد’، الذي هو إسقاط لصورة الأرض المفقودة، إي أرض ‘جنة عدن’ أرض المساواتية، وثورتها ‘الأبراهيمية المطرودة’ من العراق. وهذا ليس الأثر العراقي الوحيد،الذي يعيد نسبة اليهود للعراق، فاليهود تم سبيهم إلى أرض الرافدين مرتين، و’التوراة’ المتداولة، كتبت في بابل في القرن السادس قبل الميلاد، على يد النبي عزرا، والعملة الإسرائيلية الحالية، ‘الشاقل’، كانت بالأصل هي العملة المتداولة في بابل.
يجد اليهود خلاصهم، في العودة إلى الأصل، أي إلى ‘التوحيدة الابراهيمية’، وليس إلى اليهودية الصهيونية. وهذا تماماً مايتفق مع صفاء التوحيد الإبراهيمي، فاليهودية هي إختراع لاحق. والأصل العبراني هو الأصل العراقي الأول المفقود، أي التوحيدية الحنفية الأولى. أما اليهودية، فهي التحريف اللاحق كما مورس، أوكما أ ُنتج في ظروف المنفى، ومابين الأصل ‘أرض الرافدين’، وساحل الشام ومصر، ومع إمتدادات الزمن، وضنك المنفى، والتيه، وتواتر السبي، كان لابد أن تتحور الفكرة الأصل، وتصاب بكل مايمكن تصوره من التحريفات، بعد أن إنقطعت عن البنية ألتي أنتجتها، هذا بينما تضع ‘الصهيونية’ أمامنا. نمطاً من أنماط تلك التحريفات، كما قررها العصر الراسمالي العالمي الصاعد. فانعكاسات مُثل، ومفاهيم هذا النمط المستجد، زاد من تحريف الأساس التوحيدي، وأبعد اليهودية عن أصلها، ومغزى تاريخها كثيراً جداً.
يبدو الخلاص اليهودي اليوم مرهون بالعودة إلى الجذور، لاإلى أرض مفترضة، لم تكن أصلا غير ‘بدل عن ضائع’، وكل هذا يعني أن قراءة مختلفة، ومغايرة للتوراة، صارت واجبة، فاليهودية، أما أن تعود إلى مصدرها، أي ‘العراق’، أو تستمر في ممارسة عودة مزورة، ومحرفة، تكرر مساويء المنفى، وتستفيد من تحول الغرب إلى ‘يهودي’ دينه راس المال.
والتوحيديون من هؤلاء، عليهم أن يفكروا بالثورة، ويعودون إلى حنفيتهم الأولى، إلا أن هذا الفصل التوراتي الراهن، لن يكون ممكناً، إذا لم تكن الرواية، أو السردية التوراتية، متجهة الآن، إلى مايمكن أن ندعوه، ‘عودة الإبراهيمة إلى إرضها’ وهنا لاتقع المهمة على عاتق اليهود بالدرجة الأولى، فالإبراهيـــــمة الأولى، هي ‘الوطنية العراقية’ المطرودة، وغير المتحقــــقة، وهذه تبدو اليوم، القاعدة الحيوية لثورة تأريخية، لاحل للأوضاع ألتي يغرق العراق في دوامتها، من دون تفجرها، وبالتحديد تحولها إلى قاعدة إنقاذ ودفع نحو المستقبل.
دائما تطرح ‘المسألة اليهودية’ الشائكة، علينا، قضايا شائكة، لكن هذا الجانب كما نتعرض له هنا، هو قضية فرعية، ضمن قضية أوسع وأكثر خطورة، تتعلق بالسردية التاريخية التوحيدية، ومساراتها اللاحقة، أو الوشيكة الراهنة والمتفاعلة، على إعتبارها/ التوحيدية الإبراهيمية / الظاهرة إلتي شكلت سمات هذه المنطقة، حضارياً وتاريخياً. وبغض النظر عن الإعتقادات والرؤى ‘العلمانية’ الفجة، والمتراجعه، عن التاريخ.فإن هذه الظاهرة، تبدو أكثرحضوراً وفاعلية باطراد، بينما هي تستعاد وتتجدد، وتنزه، فتبدو الأكثر توفراً على الحلول الكبرى، حتى لأكثر المشكلات تعقيداً، والمسالة اليهودية بمقدمتها.