د.إدريس لكريني– مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات؛ المغرب
إن تكلفة الاستبداد في المنطقة العربية باهظة وخطيرة؛ إن على المستوى الداخلي في علاقتها بقمع الحريات والحقوق وصدّ أي تغيير سياسي بنّاء وإهدار الطاقات وتعطيل مسار التنمية.. أو الخارجي في علاقتها بتدهور النظام الإقليمي العربي وتنامي التهديدات الخارجية والصراعات في عدد من الدول العربية وتأزّم أوضاع جامعة الدول العربية ومختلف المنظمات الإقليمية الفرعية الأخرى..
وفي ظل الإحباطات والهزائم العربية المختلفة؛ أعادت الاحتجاجات و”الثورات” الشعبية العارمة التي شهدتها مختلف دول المنطقة الاعتبار والأمل للشعوب نحو غد أفضل. وإذا كانت هذه التحولات تفرض اعتماد إصلاحات جذرية تروم تحقيق الديمقراطية والتنمية داخليا؛ فإنها تحيل أيضا إلى أن واقعا إقليميا عربيا جديدا يمكن أن يتشكّل إذا ما تم استثمار هذه التحولات والفرص للخروج من المأزق الذي تعيشه مختلف هذه الأقطار في عالم متغير؛ وبخاصة على مستوى مواجهة تحديات العولمة؛ واستثمار الإمكانيات البشرية والطبيعية والاقتصادية للدول العربية في بناء نظام إقليمي متطور ووازن وإيجاد موقع ضمن القوى الدولية الفاعلة؛ ومواجهة التدخلات المتزايدة لبعض القوى الإقليمية والدولية في المنطقة ودعم القضية الفلسطينية..
لقد أضحى التكتل في عالم اليوم خيارا ضروريا وحيويا؛ تمليه التحديات الدولية التي تجعل من التجمعات الإقليمية وسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية المتزايدة في أبعادها العسكرية والاقتصادية والسياسية.. ومدخلا لتحقيق التنمية الشاملة.
ففي الوقت الذي حققت فيه مجموعة من الدول إنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية.. في إطار تكتلات قوية؛ في كل من أوربا(الاتحاد الأوربي) وأمريكا(الأنديز) وآسيا(النمور الأسيوية)، فإن الدول المغاربية وعلى الرغم من الإمكانيات البشرية والموضوعية المتاحة (اللغة، الدين، التاريخ المشترك، الإمكانيات البشرية والجغرافية، الخيرات الطبيعية والموقع الاستراتيجي والتحديات المشتركة..)؛ فشلت في بناء تنظيم إقليمي قوي؛ قادر على رفع التحديات الداخلية والخارجية، مما يجعلها ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية عرضة للتأثر السلبي بالتحولات الدولية الحاصلة على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري.. بعد الحرب الباردة.
فالاتحاد المغاربي الذي أحدث بموجب معاهدة مراكش المبرمة بتاريخ 17 فبراير 1989؛ لم يراوح مكانه؛ ولم تتبلور بعد الإرادة السياسية الكفيلة بتطويره ليكون في حجم طموحات شعوب المنطقة وتطلعاتها.
وتشير مختلف التقارير والدراسات إلى أن العوامل التي تقف خلف جمود الاتحاد متعددة؛ وتتراوح بين تباين الأنظمة السياسية للدول الأعضاء؛ قضية الصحراء؛ غياب تعاون اقتصادي متين بين الأعضاء، بطء وضعف وتيرة الإصلاحات السياسية المتخذة في الأقطار المغاربية؛ وغياب إطار قانوني ومؤسساتي منفتح وديمقراطي يؤطر عمل الاتحاد..
لقد رافق تأسيس الاتحاد بروز آمال وطموحات وانتظارات واسعة في أوساط الشعوب المغاربية؛ باتجاه تحقيق الوحدة والاندماج؛ وتجاوز مختلف الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية التي ترزح فيها أقطار المنطقة.
وبعد مرور زهاء عقدين من الزمن على توقيع معاهدة مراكش؛ جاءت الحصيلة هزيلة وصادمة؛ بفعل الجمود المؤسساتي والسياسي للاتحاد وعدم تفعيل مختلف الاتفاقات المبرمة؛ وعدم اتخاذ مبادرات شجاعة على طريق الوحدة والاندماج..
وبجانب العوامل البنيوية التي حالت دون تطور الاتحاد وعلى رأسها ضعف التبادل التجاري بين بلدانه الخمسة؛ هناك أيضا عامل الإرث الاستعماري الذي تمخضت عنه مشاكل حدودية بين المغرب والجزائر؛ بالإضافة إلى تداعيات قضية الصحراء التي حالت دون تطوير العلاقات المغربية – الجزائرية؛ بل وأسهمت في تأزيمها، ثم غياب مشروع اقتصادي مغاربي واضح المعالم؛ ودخول بعض دول الاتحاد في أزمات سياسية داخلية أثرت في استقرارها(الجزائر في بداية التسعينيات من القرن المنصرم؛ موريتانيا إبان حدوث عدد من الانقلابات السياسية..).
وعلى الرغم من هذه الإكراهات؛ فإن الظرفية المحلية والإقليمية والدولية أصبحت تفرض التكتل والاندماج؛ فعلاوة على التهديدات والضغوطات والتدخلات السياسية والعسكرية الخارجية التي أصبحت تتعرض لها الكيانات الدولية الضعيفة في كل حين؛ فإن العولمة بكل تجلياتها وأبعادها؛ أصبحت تفترض العمل الجماعي لمواجهة تداعياتها الجارفة.
كما أن الثورتين اللتين شهدتهما كلّ من ليبيا وتونس بالإضافة إلى ما تشهده بعض دول المنطقة من إصلاحات سياسية وحراك مجتمعي؛ يفرضان اتخاذ قرارات شجاعة كفيلة بردّ الثقة إلى المجتمع؛ من خلال سياسة خارجية ديمقراطية تستمد مقوماتها من مصالح الشعوب المغاربية ورغبتها في التواصل وتحقيق الاندماج..
ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل المحفزة على تفعيل الاتحاد والتعجيل بتحقيق الاندماج بين أعضائه؛ فعلاوة على المقومات البشرية والطبيعية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.. التي تمثل أرضية صلبة وجديرة بخلق تكتل قوي قادر على فتح مشاريع تنموية رائدة في المنطقة؛ تواجه منطقة المغرب العربي مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية في أبعادها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية.. التي تجعل من الاندماج والتكتل قدرا وضرورة.
فالإكراهات الاجتماعية والاقتصادية(الهجرة؛ ارتفاع معدلات الفقر؛ البطالة..) التي تمرّ بها مختلف هذه الدول؛ بالإضافة إلى تزايد التهافت الخارجي على هذه المنطقة الاستراتيجية بموقعها وخيراتها الطبيعية؛ وضعف القدرة التفاوضية للدول المغاربية في مواجهة الاتحاد الأوربي وغيره من القوى الدولية الكبرى.. التي تتقاسم معها عددا من الملفات الهامة؛ تفرض استثمار مختلف الإمكانيات الاقتصادية والبشرية.. المتاحة لتفعيل وتطوير الاتحاد.
وتوفّر رغبة الشعوب المغاربية وتوقها إلى الوحدة والاندماج؛ قاعدة أساسية تدعم هذا البناء؛ الذي سيسمح في كل الأحوال بإرساء دعائم تنمية إنسانية واعدة لأعضائه؛ تمكّنها من ردم الهوّة التي تفصلها عن دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط؛ بالشكل الذي يمنحها وزنا متميزا في هذه المنطقة الحيوية؛ وقوة تفاوضية تكفل لها مقاربة مختلف القضايا والملفات المشتركة(الأمن الإقليمي؛ “الإرهاب” الدولي؛ الهجرة السرية، الصيد البحري؛ التبادل التجاري؛ الاستثمار..) مع دول الاتحاد الأوربي بشكل ندّي.
وتزداد ملحاحية هذا التفعيل في ظل وضعية من التشتت؛ فوتت على المنطقة المغاربية برمتها فرصا عديدة؛ فقد أظهرت إحصاءات اقتصادية أن دول الاتحاد المغاربي تخسر نحو عشرة بلايين دولار سنويا، أي ما يعادل نحو اثنين بالمائة (2%) من ناتجها القومي الإجمالي، بسبب غياب التنسيق في المواقف الخارجية، وتعثر قيام سوق مغاربية مشتركة.
وعلى عكس بعض التجمعات الإقليمية التي استثمرت التحولات الدولية لصالحها ونجحت في جلب عدد من الرساميل الاستثمارية إلى منطقتها؛ فإن جمود الاتحاد حرم الدول المغاربية وشعوبها من الاستفادة من مختلف الاستثمارات البينية أو الدولية التي تعد مدخلا للقضاء على عدد من الإكراهات الاجتماعية المطروحة؛ ولإعادة الأمل إلى نفوس الشباب المغاربي.
إن ترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل الأقطار المغاربية وفي ضوابط وممارسات الاتحاد؛ يعدّ أحد المداخل الرئيسية والهامة على طريق بناء الاتحاد على أسس متينة.
فالممارسة الديمقراطية هي التي دفعت بمجمل الدول الأوربية إلى نبذ خلافاتها التاريخية الكبرى؛ واستحضار مصالح شعوبها الاستراتيجية لتجعل من الاتحاد الأوربي نموذجا رائدا في الاندماج والوحدة.
وتؤكد مسيرة هذا الاتحاد أنه استفاد في تطوره من الأجواء الديموقراطية التي شهدتها مختلف الأقطار الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية؛ قبل أن يسهم من جانبه في تعزيز هذا المسلسل الديمقراطي في مناطق عدّة من أوربا الغربية والشرقية؛ وبخاصة وأن الانضمام إلى هذا الاتحاد يظل مشروطا بوجود أنظمة تؤمن بالديموقراطية وتطبقها.
وتعود الوضعية المأزومة للاتحاد المغاربي في أحد أهم أسبابها إلى عدم وجود أرضية ديموقراطية صلبة؛ وإلى غياب إرادة سياسية حقيقية تترجم إرادة الشعوب المغاربية وتوقها نحو التعاون والاندماج؛ على طريق بناء تكتل إقليمي عربي في منطقة استراتيجية هامة. لأن أنظمة سياسية لا تؤمن بالممارسة الديمقراطية في مؤسساتها وممارساتها؛ لا يمكن أن تبني اتحادا ديمقراطيا قادرا على الإقلاع ودخول غمار المنافسة والتحدي.
إن المركزية في اتخاذ القرارات التي تطبع ممارسة السلطة داخل الأقطار المغاربية؛ هي نفسها التي حرص مؤسسو الاتحاد على تكريسها ضمن المعاهدة المنشئة له؛ فالمادة السادسة من هذه الأخيرة تؤكد على أن: “لمجلس الرئاسة وحده سلطة اتخاذ القرار، وتصدر قراراته بإجماع أعضائه”.
الأمر الذي يفسر غياب أية مبادرة من الأنظمة المغاربية تقضي باستشارة شعوبها عبر أسلوب الاستفتاء بصدد الاتفاقيات المبرمة في إطار الاتحاد، ولذلك فمعظم القرارات والاتفاقيات اتخذت بشكل فوقي لتظل حبرا على ورق.
وأمام تركيز مختلف الصلاحيات التقريرية والحاسمة في يد مجلس الرئاسة؛ لم تحظ باقي الأجهزة الأخرى من قبيل مجلس وزراء الخارجية أو مجلس الشورى.. إلا بصلاحيات محدودة؛ الأمر الذي كان له عظيم الأثر على مستوى بطء اتخاذ القرارات وعرقلة تطور بناء الاتحاد.
كما أن اعتماد قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات بموجب المادة السادسة من معاهدة الاتحاد؛ تمكن أي عضو من تعطيل اتخاذ القرارات إذا ما اعتبرها في غير صالحه.
لقد أضحى إعمال إصلاحات سياسية ديموقراطية مبنية على الحوار والحرية وحقوق الإنسان والانفتاح على المجتمع.. مطلبا ملحا في المنطقة؛ لكونها ستهيّء الأجواء اللازمة لبناء الاتحاد المغاربي الذي يعد مطلبا اجتماعيا في كل أنحاء المنطقة.
وإذا كانت الشعوب المغاربية تؤمن بالوحدة وتتطلع إليها؛ فإنها تبقى بحاجة إلى أنظمة سياسية ديمقراطية تترجم هذه الرغبة واقعيا؛ وبخاصة وأن الاندماج هو ضرورة وخيار استراتيجي بكل المقاييس؛ تفرضه الظرفية الدولية المتميزة بتحدياتها الكبرى.
وتؤكد العديد من التجارب الاندماجية الوازنة؛ أن إحداث تنظيمات إقليمية مبنية على أسس ديمقراطية قوية؛ يسهم من جانبه في تطوير وتقوية المسار الديمقراطي لأعضائها.
ومما لا شك فيه أن استمرار الأوضاع راكدة وجامدة على حالها؛ سيكلف شعوب المنطقة هدر مزيد من الفرص والطاقات المتاحة لولوج عالم متحول ومتسارع لا يؤمن إلا بالتكتلات.