محمد شمس الدين بريفكاني
أعتقد بأنه ليس غريبا على المالكي التشبث بموقعه كرئيس لوزراء العراق، وليس غريبا أيضا إستماتته في البقاء على رأس السلطة، ومحاولاته المشروعة وغير المشروعة للإمساك حتى بأسنانه إن تطلب الأمر، بكرسي الحكم الذي يجلس عليه منتشيا منذ منتصف سنة 2006 وإلى الآن، بعد أن إستحوذ على السلطة وذاق حلاوتها، ووضع الحجر الأساس أو بالأحرى تجاوز منتصف الطريق، في بناء وتأسيس دكتاتورية شمولية جديدة تختلف عن سابقاتها، تدفع بالعراق إلى نفق مظلم ومستنقع ضحل، يهدد أمن وسلامة ووحدة العراق أرضا وشعبا.
لكن الغريب برأيي، هو تجاهل قادة ومسؤولي الكتل والأحزاب السياسية المتآلفة، الكوردية والعربية، التي تعارض سياسات المالكي الخاطئة وتوجهاته الدكتاتورية الفاضحة لهذه الحقيقة، وأيضا الطريقة الديمقراطية لتعامل هذه القوى مع أزمة تمادي المالكي، وفقا لآلية دستورية تنص على إمكانية سحب الثقة من رئيس الوزراء في حال إخفاقه، أو إرتكابه أخطاء إدارية أو سياسية تهدد أمن وسلامة ووحدة الوطن.
في الوقت الذي يعلم جميع هؤلاء القادة والمسؤولين، ونحن كمواطنين نعلم أيضا، بأن نوري المالكي الذي عاش منذ بدايات حياته السياسية وإلى مابعد سقوط سلفه الدكتاتور صدام، بعيدا عن العراق، في سوريا وإيران، أي في ظل نظامين إستبداديين قمعيين دمويين، يتصفان بكل مزايا ومعاني الدكتاتورية، ويمارسان كل أنواع الظلم والقهر والإستعباد ضد شعوبهما منذ عشرات السنين، وقد تعلم المالكي كل هذه الأمور من أسياده وتخرج من مدارسهم، فكيف يمكن التعامل معه وفقا لمواد الدستور ومبادئ الديمقراطية، وهو أصلا لايؤمن بالديمقراطية، ولا يعترف بمادئها، ولا يعمل بآلياتها! بل لقد أطلق على الديمقراطية الوليدة في العراق رصاصة الرحمة وهي لما تزل في المهد، عندما رفض التنازل عن السلطة وتسليمها إلى أياد علاوي الذي فاز عليه في إنتخابات آذار 2010 وأبقى العراق لأكثر من سبعة أشهر بلا حكومة، إلى أن أسندت إليه مهمة رئيس الوزراء لدورة ثانية في إجتماع عقد في أربيل، دعى إليه السيد مسعود بارزاني رئيس أقليم كوردستان، ضم ممثلين عن جميع الأحزاب والكتل المشاركة في العملية السياسية في برلمان العراق، فتحت الأبواب أمام تشكيل حكومة شراكة وطنية، أو بالأحرى حكومة محاصصة طائفية يرأسها نوري المالكي، بعد أن وقع المشاركون ومن ضمنهم المالكي، على إتفاقية من 19 مادة تحدد نوعية العلاقة بين حكومة أقليم كوردستان، والحكومة المركزية في بغداد.
لكنه وكعادة حكام العراق سابقا ولاحقا أيضا، عندما إستقوى أمره، تنكر لتلك الإتفاقية تماما، كما تنكر للمادة 140 الخاصة بتطبيع الأوضاع في المناطق المنتزعة، أو كما يسمونها المتنازع عليها.
كان هذا في تصوري هو الخطأ الكبير الذي وقعت فيه جميع الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية، الكوردية والعربية التي شاركت في إجتماع أربيل.
لأنهم وضعوا العراق بأيد غير أمينة، وسلموا إدارته وسلطته التنفيذية بعيدا عن صناديق الإقتراع ونتائجها، وفي عملية إنتهاك صريحة للديمقراطية، إلى رجل أثبت بأنه ليس أهلا لهذه المسؤولية على الإطلاق. وبذلك ساهموا دون قصد أو دراية في تحقيق نوايا المالكي وتوجهاته الدكتاتورية، بوضع اللبنات الأولى لعراق المالكي، الذي إن إستمر وبقي على هذا الحال، فسوف يتحول إلى نسخة متطورة من عراق صدام حسين.
المالكي ومنذ البداية يعرف جيدا ماذا يريد، ويعرف من أين تؤكل الكتف، وأين تكمن مفاتيح القوة وأسرارها، فلم يضيع وقته بل إتجه فور إستلامه المسؤولية في دورته الثانية إلى محاولة تثبيت سلطته، من خلال إطباق سيطرته على جميع مفاصل الدولة، الأمنية والعسكرية والإقتصادية، والإمساك بجميع خيوط اللعبة السياسية والتحكم فيها، طبعا بالإعتماد والإستقواء بنظام الملالي في إيران، المتنفذ في جميع مفاصل الدولة العراقية، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد. وفي حالة لم تكن معهودة حتى في عهد الطغاة، أمثال صدام والقذافي ومبارك وبن علي والأسد الأب والأبن، فهو الآن رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية والقائد العام للقوات المسلحة ومدير الأمن الوطني، بالإضافة إلى تأسيسه الكثير من الأجهزة الأمنية والعسكرية والإستخباراتية الخاصة المتصلة به، تتلقى الأوامر منه شخصيا، وأيضا قوات خاصة أشبه ما تكون بفدائيي صدام، نجح المالكي أيضا بالقيام بحملة واسعة لإستهداف المشاركين في العملية السياسية، بهدف التخلص من معارضيه ومنتقديه سرا وعلانية، وبشتى الطرق والوسائل، من إعتقال وتهديد وإبعاد وتهميش وتلفيق التهم، بل وحتى التصفيات السياسية والجسدية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يلوح بالجزرة، أي المكاسب والإمتيازات لمن يقف إلى جانبه.
بممارسة هذا النهج الشاذ والمنحرف، الذي لا يحترم تضحيات الشعب العراقي بكل مكوناته، ولا يتلائم مع تطلعاته نحو غد أفضل لعراق ديمقراطي فدرالي موحد، يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات ويتمتعون بخيراته. قاد المالكي العراق إلى نفق مظلم، وإنحرف بالعملية السياسية من مسارها الديمقراطي السليم، إلى مسار آخر مختلف تماما، يتميز بدلا من الشفافية بالضبابية، حيث تنعدم فيه الرؤية ولا يمكن رسم أو تكوين أية صورة واضحة المعالم، لا على المدى القريب ولا البعيد. وتحول نوري أو جواد المالكي إلى الرجل الأقوى على الساحة السياسية في عراق ما بعد صدام.
بالتأكيد لم تكن هذه الحقائق غائبة عن رؤية قادة القوى والأحزاب السياسية في العراق، لكنهم لم يدركوا خطورتها إلا بعد أن إستفحل أمر المالكي وتفاقمت الأزمة، حتى باتت تهدد مسار العملية الديمقراطية، وأصبح العراق يعيش حالة من الفوضى والتفكك والإنقسامات السياسية والطائفية، التي تهدد أمن وسلامة الوطن والمواطن، مما دفع هذه القوى إلى التكاتف والإتحاد وعقد لقاءات في أربيل والنجف، بهدف رسم خارطة طريق وإيجاد آلية دستورية لإزاحة المالكي بطريقة قانونية وديمقراطية، من خلال سحب الثقة عنه تمهيدا لإستبداله. وهذ حالة حضارية ودستورية، تلجأ إليها وتمارسها أنظمة الحكم في الدول التي يؤمن قادتها بمبادئ الديمقراطية، ويعملون بها ويلتزمون بقراراتها. فهل إن نظام الحكم في دولتنا العراقية قد إرتقى إلى مصاف هذه الدول المتحضرة؟ وهل إن قادتنا يمتلكون الحد الأدنى من الحس الوطني والشعور بالمسؤولية تجاه شعبهم ووطنهم مقارنة بقادة هذه الدول؟
وهل تجدي نفعاعملية أو محاولة سحب الثقة في إزاحة من إلتصقت مؤخرته بكرسي الحكم بلاصق إيراني معروف بقوته ومقاومته لكل المؤثرات؟ أقولها كمواطن متابع للحراك السياسي في العراق، ومطلع على سيرة المالكي منذ بداية جلوسه على كرسي رئاسة الوزراء في العراق وإلى الآن، ومدرك لمدى تعلقه بهذا الكرسي وعشقه المهووس للسلطة، وأعرف جيدا بأن هذا الرجل قد إستفحل أمره وإشتد عوده، ولن يتنازل أو يستسلم لأية قرارات سياسية أو برلمانية. أقولها بكل وضوح بأن عملية سحب الثقة الدستورية من هذا الرجل الذي لا يعترف أصلا بالدستور، ويحمل عصا غليضة وإغراءات كثيرة كما قلنا، سوف لن ترى النور. وإن حدثت فإنها سوف لن تنجح في تحقق أهدافها أو النتائج المرجوة منها في إزاحة أو حتى زحزحة المالكي عن هذا الكرسي اللعين. بل بالعكس فإنها ستدفع بالعملية السياسية والديمقراطية إلى متاهات ودهاليز جديدة، أكثر عتمة وأشد خطورة، وتجعل من العراق ساحة للصراعات الطائفية والأقليمية، السرية والعلنية في الداخل، وكعكة رخوة وشهية يسيل لها لعاب دول الجوار، التي تحمل سكاكين حادة وجاهزة لتقطيعها. وسيكون الخاسر الأكبر في هذه الحالة وكما هي الحالة دائما، هو الشعب العراقي بكل أطيافه وقومياته وإنتماءاته.
إنها أزمة حقيقية وخطيرة تعصف بالعراق الذي لم يشهد مثلها منذ سقوط النظام البعثي وإلى الآن. تنذر بما لا يمكن أن يحمد عقباه. فالصورة أصبحت قاتمة وغير واضحة المعالم، والمشهد الساسي يزداد تعقيدا، وحدة الخلافات باتت في تصاعد مستمر،
حتى أن بوادر إنشقاق وخلافات داخلية بين الكتل المتحالفة ومنها التحالف الكوردستاني، بدأت تطفو على السطح وهذا ما أسميه أنا شخصيا بالخطر الأكبر، لأنه بالضبط ما يريده المالكي وأعداء شعبنا الكوردي، أتمنى أن لا نقع في هذا الفخ الخبيث.
للخروج من هذا المأزق، أرى بأنه يجب على جميع الكتل السياسية المتآلفة والمعارضة للمالكي، التي تطالب بسحب الثقة عنه الكف عن هذا المطلب، لأن الكل يعلم بأن هناك إجراء قانوني وآلية دستورية تسبق سحب الثقة، وهي الإستدعاء والإستجواب أمام البرلمان، وهناك مادة دستورية واضحة، تتيح لخمس أعضاء البرلمان إستدعاء رئيس الوزراء وإستجوابه، لذلك على هذه الكتل ممارسة هذا الحق القانوني، وفي حالة مثول المالكي أمام البرلمان وإدانته، ولأني واثق بأنه سوف لن يلتزم بأي قرار لسحب الثقة عنه، يجب وضعه أمام خيارين، الأول دفعه إلى تقديم الإستقالة، مع إعطائه فرصة شخصية لتقديم مرشح بديل عنه من داخل حزبه أو إئتلافه، ليكمل ما تبقى من مدة ولايته التي تمتد إلى 2014، والثاني إلزامه على تغيير سياساته، وإجراء إصلاحات عامة سياسية وإدارية وإقتصادية، تلبي مصلحة الشعب العراقي بكل قومياته ومكوناته وإنتماءاته السياسية، مع البدأ بتفعيل وتنفيذ بنود المادة 140 التي نص عليها دستور العراق الجديد.
ومن ثم تشكيل حكومة أغلبية معارضة داخل البرلمان، تعمل كحكومة ظل، مهمتها مراقبة عمل الحكومة المركزية، وتشخيص أخطائها وكشفها للجماهير عن طريق جلسات برلمانية مفتوحة ومنقولة إعلاميا بالصوت والصورة، وبشكل مباشر، ليطلع الشعب على الحقائق، ويكون على بينة مما يجري، وشاهدا على العملية السياسية ومداخلاتها. وبهذا ستكون أعمال المالكي وحكومته تحت مراقبة البرلمان والشعب إلى أن تنتهي مدة ولايته،
أما فيما يخصنا نحن كشعب وحكومة أقليم كوردستان، في هذه المرحلة البالغة الحساسية، أعتقد بأن أفضل ما يمكن أن نقوم به، هو ترميم بيتنا الكوردي من الداخل، وما مطلوب منا تأريخيا ووطنيا، هو قبل كل شئ وحدة الصف والموقف والكلمة، بكل ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث من معاني ودلالات عميقة، وما تحمله من مسؤوليات وإلتزامات سياسية وأخلاقية تجاه كوردستان وشعب كوردستان بكل مكوناته. من خلال إجراء المزيد من الإصلاحات السياسية والإدارية والإقتصادية، ومن ثم تهيئة الأجواء داخليا وخارجيا ورسم خارطة طريق واضحة تحدد معالم دولتنا الكوردية المستقلة، التي ننتظرها كحق مشروع منذ زمن بعيد، وقد آن الأوان لإعلانها.
المانيــــــــا