المأساة المخفية من صراع العـقـل مع الـدّيـن
الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين*
كان جو الرعب وكتم الأنفاس الذي فرضته الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى مخيفا، قبل أن يتم تحطيم صنم الثالوث والإقطاع والملكية، مع بزوغ عصور التنوير.
في المجلـد العاشر من كتابه الملحمي The Story of Civilization “قـصة الحضارة” ، الذي أمضى عشرين عـامـا في تأليفـه ، يروي المؤرخ Will Durant ويل ديورانت، حكاية مثيرة عن أجواء الخوف في أوروبا عن القس جان مسلييه ( 1678 ـ 1733 ) راعي أبرشية أتربيني في شمبانيا، الذي كان في كل عام “يمنح الفقراء كل ما يتبقى من راتبه بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير”، ولكن الرجل في أعماقه “عاش أزمة فكرية حادة”، بقيت فيها أفكاره محبوسة في زنزانة الجمجمة، طوال حياته في حالة خوف وترقب، أن يفتضح أمره و “يقرأ الناس ما كتب”، وتلاحقه الكنيسة الكاثوليكية وآلتها الجهنمية من محاكم التفتيش، أو هجوم العـوام عليه بالسلاح إلى عقـر داره و “تقطيع لحمه بتهييج الكنيسة وجواسيسها…”
وعندما مات ، بعـد ثلاثين عاماً من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي ، قضى نحبه وهو في الخامسة والخمسين، موصياً بكل ما يملك لأهالي الأبرشية؛ فدفنه أهل القرية بكل إجلال وتعظيم، ولم يعرفوا أي شيطان لئيم كان في ثياب هذا القسّ الورع…
ولكنه ترك خلفه مذكراته، في ثلاث نسخ من مخطوطةٍ، بعـنوان My New Testament“عهدي الجديد”، وعندما بدأ الناس يطـَّلعـون على ما جاء في أوراقه، “أصيبوا بزلزال”…. وبدأوا في صبّ اللعنات على رأسه… “كيف استطاع هذا الأثيم، أن يتكتم على آرائه طيلة ثلاثة عقود…؟!”
قام جـان مسلييه باستعراض كل التساؤلات الخطيرة في عصره عن “خرافات الكنيسة” بأسلوب شيق، وعـرضها في صفحات مـُطولة؛ فلم يترك مسألة مزلزلة، أو وضعاً غير منطقي للكنيسة، والعـُرف السائد، إلا وتعـرَّض له في نقد لا يعرف الرحمة… ولكنها أسطر كتبها بينه وبين نفسه في هدوء الليل، في غيبة الفضوليين والجواسيس والمخابرات، وبقيت أوراقه سرَّه حتى الموت، وفي نهايتها تقدم باعتذار شديد لأهل القرية، أنه لم يكن ليخون ضميره، وأنه كتم آراءه عـنهم كل تلك الفترة بسبب الخوف من النكال؛ فلم يكن يوماً معتقداً بما كان يمارسه من طقوس.
و”توَسـَّل” إليهم في المخطوطة أن “يغفروا” له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم، فقد تقلد عمله ليس طمعاً في المال، بل “امتثالاً لما أمره به أبواه…”
ومن الطرافة ذكر بعض نفثات أفكاره المثيرة للجدل حتى اليوم، فهذا الرجل أطلق العنان لـ “حرية التفكير”، في الوقت الذي حـَبـَس كل مجاري التعبير عنده طوال حياته، لنعرف مصير الأفكار المحبوسة عن التعبير. ومما كتبه هذا القسّ المتمرد:
“لن أضحي بعقلي؛ لأنه وحده الذي يمنحني التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والضلال… لن أتخلى عن الخبرة؛ لأنها خير مرشد وهاد، وهي أفضل بكثير من الخيال أو من سلطان المرشدين… لن أرتاب في حواسي، ولست أتجاهل أنها يمكن أحياناً أن تؤدي بي إلى الخطأ، ولكنني من جهة أخرى أدرك أنها لن تضللني دائماً… إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة…”
ومن الغريب أننا نقرأ هذه الفقرات الآن ببراءة في الوقت الذي كانت في أيامه ضلالا وعذابا.
لقد كانت كتابات مسلييه في مقاييس عصره، أكثر الكتابات إيغالاً في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار؛ لذا لم يتجرأ فولتير نفسه، إلا على نشر أجزاء منها، ورأى فيها “شيئاً من التطرف” حاول تعديله… ومن الواضح أن مسلييه كان قد وصل إلى “الطلاق الكامل” مع الكنيسة الكاثوليكية ، بل مع المسيحية ذاتـهـا …
وعندما يتحدث عن الحروب الدينية المسيحية في أوروبا يقول : “زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات، وأدت إلى الثورات، وخربت أوروبا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزاعات الحقيرة، حتى في أنهار من الدماء… إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو إلى البر والإحسان والتآلف، أثبتوا أنهم أشد ضراوة وقسوة من أكلة لحوم البشر أو المتوحشين…” ؛ ليصل في نهاية أطروحته إلى أن الناس أشقياء ” لمجرد أنهم جهلة، وهم جهلة لأن كل شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين الاستنارة، وهم أشرار لمجرد أن عـقـلهم لم يتطور بدرجة كافية…”
وبعد أن ذكر جان مسلييه ما سلف يختم عهده الجديد بعبارة يتحدى فيها كل الذين يمقـتونه ويصبـّون عليه اللعنات : “دعهم يفكروا، أو يحكموا، ويقولوا و يفعلوا ما يريدون…. لن أعـبأ بهم كثيرا. بل إنني اليوم لم أعـد أعبأ كثيرا بما يحدث في العالم…”
ويعلق الدكتور ول ديورانت على صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة، على هذا النسق من العبارات الصاعقة بقـولـه :
“هل وجد ثمة عهد أو ميثاق، مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ يعيش صاحبه منسيا لا ذكر له، في قرية نائية، قد ترتعـد فيها كل النفوس رعـبا وهلعا إلا نفسه هو، لمجرد الاطلاع على أفكاره الخفية، ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته…؟!”
وقام فولتير بنشر أجزاء من كتاب مسلييه كما أن ديدرو ودي هولباخ قدما خلاصة له عام 1772 تحت عنوان “رجاحة عقـل الكاهن مسلييه”، ولكن النص الكامل للكتاب لم يطبع إلا بعد 130 سنة من موت صاحبه، في عام 1864 م والمخطوط اليوم محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس.
هذه القصة الحزينة المثيرة تروي المأساة المخفية من صراع العـقـل مع الكنيسة، وكيف أن أوروبا ناضلت بقوة غير عادية للتخلص من الفكر الكنسي، ولكنه بكل أسف كان فراقا ليس فقط بين العـقـل والكنيسة، ولكن بين العـقـل والدين ، أي دين على الإطلاق..
عـنـدما كنت أحَـضِّـر لرسالة الدكتوراة في ألمانيا ، كان أستاذي الدكتور Wilhelm Von Reichelt فـلـهـلـم فون رايـشـلت يسـالني دائمـا ، كلما احـتـدَّ النقاش بيننا في مسألة فـلسفـية مـعـقـدة ، : ” Glauben Sie…oder wissen Sie…?! هـل تعـتـقـد ..أم تعـلم؟؟
ولم أكن ، في ذلك الوقت ، قـد أتـقـنت اللـغـة الألمانية الكلاسيكية، ولم أكن ـ بالتالي ـ أعرف الفـرق ، فـكنت أقـول لـه: ، وما الفـرق؟ هما واحـدٌ عـندي؟
وكان يـقـول لي بلهـجـتـه البافـارية المميزة بلكنة أرستقراطية :
“إذن ، لا بد لك من تغـيير عـقـلك كلية…!!”
وينقـل عن فريدريش نيتـشه قوله :
“إذا أردت أن ترتاح فاعتقد… أما أن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل؟!”
Jawohl…Herr Professor!!