د.علي ثويني
منهجية ومقاربات
لقد قلد الإنسان الحيوان في بناءاته مثل بناء العشش والقباب أو الأنفاق تحت الأرض، لكنه فاق عليه في تسجيل صوته ومعنى كلامه،من خلال الكتابة التي تمكث النقلة الأكبر في التأريخ البشري. وهكذا أدرك ماهو تطبيقي في الحياة البرية. ولم تحل رموز لغة الحيوان والطير ، لكننا نعتقد أن تطورات فيها لم تحدث على منهج التقليد الموروث كما حال بيوت النحل ، لكن الإنسان بدأ بعشش القش ، ووطأ اليوم ناطحات السحاب. يقول دومينك شـوفالي(اللّغة تمثل ذاكرة تمنح الفرد عناصر الوعي للتعبير عن هويته قياساً على الجماعة التي يتحرك داخلها وعلى إمكانية التسامي عن هذا الحد الاجتماعي) وهو الأمر عينه الذي ينطبق على العمارة .
وثمة الكثير من المتشابهات بين العمارة واللّغة كبيوت وحافظة وذاكرة. يقول الألماني هايدغر عن اللّغة بأنها: بيت الوجود، والذين يفكرون بالكلمات ويخرجونها هم حراس ذلك البيت. ورغم أن البيت اللغوي الذي تحدث عنه هايدغر يتسم بالتجريد ؛ فإن الإنسان في الحقيقة لا يدرك قيمته إلا حين يوجد في “العراء”. والعراء هنا الثقافي والحضاري والفكري الذي يذوب بسببه الإنسان، وتُطمسُ هويتُه وثقافتُه، وتُجتث جذورُه، ويضيع أصله.
وهنا لابد من الإقرار بحاجة المعمار الى فهم نظري، فلسفي وعلمي معمق للأمور، بما يسهل عليه مهمته في العمل التصميمي من جهة ويرتقي بحسه ومنتجه الى الذروة الإبداعية.وهنا نضرب المثل بمنهجية اللّغة التي تقوم على مستويين عام وذاتي وتنعكس من منهجيتين للفكر إحداها أفكار نفكر معها( مثل قواعد و صيغة اللّغة.. الخ ideas-we-think-with’ وأخرى نفكر فيها (وهو معاني ما نقوله) لكي يستوعبها المقابل ideas-we-think of’. وهذا ما يحصل في التصميم المعماري، فالعمارة التي تختزن في العقل أفكار نفكر معها مثلها المعرفة للأشكال الهندسية بأبعادها الثلاث ،مع معرفة كيف ننسب ونهئ الفراغ والشكل للاستخدام البشري. فالمصمم بذلك يشبه شخص يحاول تعلم القراءة والكتابة والقواعد، حيث ينبغي عليه أولاً أن يفهم الأبجدية قبل أن يتمكن من تكوين الكلمات ومن تطوير مفرداته، كما ينبغي علية أن يفهم قواعد علم النحو والصرف وتركيب العبارات قبل أن يتمكن من انشاء الجمل،وينبغي علية أن يفهم مبادئ الانشاء قبل أن يتمكن من كتابة المقالات والروايات.وإذا تمكن الشخص من فهم هذه العناصر فإنه يستطيع أن يكتب مايشاء.ولو حدث وغاب ذلك عن مخيلتنا فمن الصعب جدا البدء في العملية التصميمية التي تبقى هبة ملكة الخيال .وهكذا فإن ما نكسبه من التعليم النظري من خلال معرفة لغة التصميم و قواعدها ومفرداتها وطرائقها وأنواعها في المدارس التعليمية ، وكيف نركب الشكل في التصميمات من أجل أن يتلاءم مع الاستخدام أو الهدف البشري.وهذه الحاجة للمعرفة النظرية تحاكي اللّغة في (الأفكار التي نفكر بها)، التي تجعلنا نولد الكلام . بيد أن هذه المعرفة ” معرفة التوليد” ليست وحدها التي نحتاجها في التصميم، الذي يبقى عملية معقدة تعكس الوعي والبيئتين المؤثرتين والسليقة ومكامن النفس العميقة.
أن أهمّ خاصية للمعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا والتي تميزنا عن باقي الكائنات الحية , والتي تشكلت نتيجة إستعمالنا للغة وتعتمد السببية والمنطق وهما موجودان في صلب الفكر المعماري , ويعتمد على تراتبية ومسار للتفكير والمعالجه من ضمن المدخلات الكثيرة التي تعتمدها , ومن المفيد هنا تجنب تشتيت الانتباه عند ملاحظة المثيرات الجديدة , والتركيز على تحديد الأهم منها لمعالجته حصرا ، والتغاضي عن البقية , والاستمرار في ذلك المسار حتى نصل إلى نتيجة أو إستجداد أمر ما هام يستدعي قطع المعالجة الجارية والالتفات لمعالجة هذا الجديد ، أي تسبيق المنهج على حيثيات المنتج. فالتفكير السببي والمنطقي والرياضي تعتمد المعالجة التسلسلية, لذلك فإن المصمم المعماري مسّير في خط متسلسل من الأفكار، مثلما هي سلسلة أفكار المتكلم بغرض الوصول الى القصد أو الفحوى أو كما نسميه (رباط الكلام) conclusion .
إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا تكون معالجة متسلسلة , وفي نفس الوقت تجري لدينا معالجة بالتوازي غير واعية , ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى معالج الوعي , فتشارك في تحديد الاستجابة . فالشيء المهم أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم يلزمها معالجة بالتوازي , فلكي تتم مقارنة مجموعة مدخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضها البعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة , والتسلسلي يمتاز بدقته العالية ووضوحه ( لأنه واعي ) أكثر من التفكير المتوازي الحدسي . لذلك يستخدم الدماغ المعالجة التسلسلية والمعالجة المتوازية الحدسية في المخيخ في نفس الوقت،وهما جوهر المنهج الذهني للغة والعمارة على حد سواء . والمخيخ يستطيع معالجة أعقد الأوضاع الحركية دفعة واحدة مثل المشي مع المحافظة على التوازن أو ركوب الدراجة مثلا. وعندما يتدخل الوعي تنخفض قدرات المخيخ ويطفق المعالجة بمسار واحد لحركات الجسم، وعندها يصعب تنفيذ الحركات المتزامنة في نفس الوقت ويختل نظام أداء العمل . إن المعالجة الفكرية التسلسلية تعتمد تراتبية زمنية ، كما هو في المنتج اللغوي الأدبي كالقصص و الروايات و السير , والتسلسل السببي يقتفي الأسباب والنتائج والترابطات السببية أو المنطقية , كما في الرياضيات والهندسة المجردة, الفرض – الطلب – البرهان كمثال . وعمل دماغنا يعتمد على المشاركة بين التفكير التسلسلي والتفكير التفرعي أو المتوازي وهو يظهر على شكل حدس وإلهام , لإدارة وتنظيم أمور حياتنا ومنها المنتج المعماري . وهناك إختلافات بيننا من ناحية إعتمادنا عل التفكير التسلسلي أو التفكير التفرعي , فبعضنا يركز على التفكير التسلسلي مثلا, وعادة ما يكون متفوق بالرياضيات والمنطق , والبعض الآخر يركز على التفكير التفرعي وعادة يكون متفوق بالشعر والأدب والموسيقى والرسم ومخيلة خصبة وهو الأنجح في اللّغة والعمارة على حد سواء ، وثمة من يحويهما الإثنين معا، وهذا أقل حدوثا.وهنا نقف على الفرق بين سجايا البشر، والتي يمكن أن تأخذ بالإعتبار في السياقات التربوية والتأهيلية، وعلى العموم فإن أصحاب النجاحات في اللّغة يمكن أن ينجحو في العمارة.
ومن سمات المحاكاة البنيوية بيت اللّغة والعمارة التي حددها السويسري دي سوسور في اللّغة هي الدال Significant والمدلولsignifie وهي الربط الذهني بين الفكرة الذهنية (concept) والصورة الصوتية ،ونجد لها تطبيقات عامة في العلوم الإنسانية ، ففي الفلسفة هي (السبب والنتيجة) وفي الإقتصاد هي(العمل والأجور) وفي العمارة نجدها في جدلية (الشكل والمضمون)، الذي تأخذ سياقات شتى تشكل الفرقُ بين الفرقِ المعمارية ، ضمن البحث الدائب عن إتزان وحلول تخشى طغيان الشكلية أو المبالغة في المضمون الذي يقود الى الإنتفاخ والتشقق للشكل.وهنا نتلمس التطابق في ماهية أزمنة غلبة الشكل أو المضمون على العمارة واللّغة على حد سواء، فحينما نجد البديع والسجع قد أخذ مداه وتجسد، فهذا يعني بالمقابل طفوح الزخرف والتزويق وحتى المغالطة على حيثيات العمارة، في نزعة عجيبة لملئ واهن المضمون ببهرج الشكل، وهذا يقودنا الى قراءة مشتركة دلالية لتمييز الأزمنة من خلال قراءة عمارتها من خلال لغتها أو العكس.
لقد نهج دي سوسير منهجا بنيويا([1]) وعرف اللّغة مفرقا فيه بين مصطلحين هما: اللّغة Langue والكلام Parole . إذ تمثل Langue نسق اللّغة ، أي القواعد ، والمواصفات والاتفاقات التي يشترك بها كل من يستعمل اللّغة. أما Parole فهو الكلام الفردي الذي تعمل فيه المبادىء والمواصفات والاتفاقات التي تمثل اللّغة ،ويؤكد سوسير على انه ( فردي دائماً ، ويكون الفرد سـيداً له )، و نفس الأمر نجده في العمارة، فثمة قواعد ومعيارية (نورم) وقوانين ثابته تتعلق بالهياكل ومقاومة المواد وخواصها المثلى، ثم تأتي طريقة الأداء المعماري ، التي لاتخلو من الفردانية،وتدخل هنا مساهمة الذات بما تحمله من أبعاد كالفطرة واللاوعي والتأثيرات النفسية والإجتماعية وحتى البعد التأريخي وسطوة الموروث على الذات ، التي تحكم الفوارق في المنتج المعماري وشواخصه المعلنة أمام البصر وداخل البصائر.
ثمة منهجية يدعوها سوسير التزامنيه والتعاقب ؛ من الممكن أن تكون دراسة نسق اللّغة أما من ناحية تزامنية Synchronic أو تعاقبية diachronic وعرفهما ( يمكن أن تصف كل شيء يرتبط بالجانب السكوني static من عملنا بأنه تعاقبي. وهكذا تختص التزامنية بوصف حالة اللّغة في حين تختص التعاقبية بوصف المرحلة التطورية. وهذا الأمر يحاكي ظاهرة الطراز في العمارة ، الذي يتطور من نموذج أول prototype ثم يأخذ مديات في التشذيب والفذلكة، وربما يتحول الى طراز آخر كما حدث عند ظهور طرز القوطي والباروك في العمارة الغربية من تأثيرات إسلامية، والذي لم يجد ما يحاكيه في مدارس العمارة الإسلامية الإقليمية، لاسيما الغربية التي نمت عضويا ووجدت لها السند المنهجي والحجة السابقة على عكس تلك الطرز التي مازالت جذورها سائبة.
وثمة مفهوم يجمع اللغة والعمارة هو (التناص) ،و الذي ظهر مفهومه في الغرب عند(جوليا كريسيفا) عام 1966م،إلاّ أنّه يرجع إلى أستاذهاالروسي (ميخائيل باختين)،ونجد له إشارات في الأدب العربي القديم .وفحوى الأمر أن ثمة تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعراً أو نثراً مع نص القصيدة الاصلي بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الشاعر.فثمة نص أصلي على علاقة بنصوص أخرى مقتفية الأثر حتى يقع الحافر على الحافر أحياناً،أو أن هذه النصوص قد مارست تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على النص الأصلي في وقت ما . و اتسع مفهوم التناص ،وأصبح بمثابة ظاهرية نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والإهتمام،وشاعت في الأدب الغربي،ولاحقا انتقل هذا الإهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية ضمن الاحتكاك الثقافيوالأمر عينه نجده في العمارة حينما تحاكي بناية أخرى، وتطابق معالجات فنية أخرى سابقة لها.وهذا ما حدث خلال حقب التأريخ من إقتباسات كان الفيصل بينها التقادم الزمني كما حدث بين العراق وفارس، أو الشرق القديم واليونان. ونجد من يتهكم من تلك الظاهرة و يسميها (تلاص) أكثر منها(تناص)، أي سرقات وتقليد منمق لنماذج سابقة، دون تغيير كما شاع عند بعض المعماريين كعبدالواحد الوكيل مثلا، حينما قلد مسجد السلطان حسن بالقاهرة، في مسجد حداثي بناه في جدة.
وتبقى العلامات خامة الدراسة اللغوية، فالكلمات وجمعها بالجمل كلها علامات أي دوال مرتبطة بمدلول ،ويمكن تحليلها الى علامات صغرى مكونة لها. وهي نفسها عناصر العمارة التي لها دلالات تتعلق بمشأها والتي تفصل الى مفردات تكون أساس الطراز المعماري.وقد فتح (هوسرل) الباب واسعا امام دور الافتراض والتأويل , وعد العلوم جميعا , بما فيها الآداب واللّغة والعلوم الانسانية علوما فرضية , وانهى بذلك ادعاءات الحقائق الكاملة وامكانات تحققها بشكل مطلق .وقد فسح ذلك المجال امام المناهج التأويلية النظرية, والمعروف ان الاعمال الجمالية انما تستمد ديمومتها من حركية التأويل والتفسير السيميائي كونها في الاصل نصوصا وفضاءات تحمل انظمة من العلامات والرسائل والشفرات الرمزية الباطنية مثلما هي العمارة بالتمام. فالعمارة واللّغة كيانان إبداعيان موجودان في حياتنا، نحاول أن نحلل ونأول حيثياتهما من خلال شروح النظريات وتطبيقات الفلسفات، التي تصيب في سبرهما وتطور ملكاتهما، ومنها البنيوية ومابعدها والحداثة ومابعدها.
التفكيكية بين اللّغة والعمارة
حدث وأن ظهرت في اوربا بعد أن افلَ نجم البنيوية اتجاهات سيميائية جديدة ربطت بين اللّغة والدلالة وتقاربت مع العمارةأو ولجتها فأعطت النظريات السيمائية للغة بعداً دلالياً كان مفقوداً من قبل وما أن وصلت العلاقة بين اللّغة والدلالة على هذا الحد ظهرت نظرية جديدة رفضت كل أنواع الدلالات والأرتباطات وجعلت الدلالات تائهة إلى ما لا نهاية وهكذا فلم تعد هناك دلالة واحدة بل عدد غير محدود بل لا دلالة. وهذا هو ما نادت به التفكيكية التي يرفض مؤسسها الفرنسيالجزائري جاك دريدا(1930-2005)، بأن تدعى منهجاً أو مدرسة أو نظرية وهو ينظر للنص، أي نص على انه ( عبارة عن ترسبات ثقافية وان ما تفعله القراءات المختلفة عملية تقليب للنص حتى. يتحرك ما في القاع وتطفو الترسبات الثقافية المختلفة على السطح).ودريدا هذا بدأ مشروعه الفلسفي معتمدا على البنيوية حتى دعيت التفكيكية (مابعد البنيوية)،وأنتقلت من عالم اللّغة والنقد الأدبي الى العمارة منذ العام 1982 حيث أملى بعض أفكاره على معماريين شباب أنيطت بهم تهيئة فردسية لحديقة (لافاييت) في وسط باريس، وهكذا أنتقلت تلك الشطحة الفكرية من عالم اللّغة الى العمارة ،وشاعت بها العراقية(زها حديد) المولودة في بغداد 1950،وتعد اليوم إحدى دالاتها ورموزها المؤثرة ،كونها وردت من خلفية لاغربية والأمر الآخر أنها أنثى أثبتت جدارة في عالم العمارة التي كانت محض إحتكار للفحولة، بما وسمت من رؤيا اوسع وإدراك أشمل على عكس الطبيعة النسوية على العموم، “مع قبول الإستثناءات” والتي تهتم بالتفاصيل والجزئيات في العادة. وبالمقابل فإن النساء أكثر حذقا من الرجال في عالم اللّغة، وقابليتها على تقمص روح اللّغة أكثر من الرجل، ونجد من الموهوبات في الشعر والادب أكثر من العمارة.وهنا جدير أن نشير الى أن مدرسة الجمعية المعمارية(AA) التي أنتمت لها زها حديد، عادة ما تستقطب أصحاب النزعات المغامرة والشطحات الغرائبية، إعتقاداً منهم أن جموح الخيال وفوضى التجريب كفيل بإنتاج الجديد الذي يظن بأنه السبيل لتجديد روح العمارة وتياراتها.
إن طريقة أداء دريدا اللغوية تتجسد في تفكيك النصوص منطقياً من هوامشها أو مصطلحاتها ويقوم بإبراز التضادات التي تنسف النص منطقياً ومن ثم تبرز تناقضات النص وبذلك فأنه يذهب إلى أن لا وجود لنص أصيل البته ، فكل النصوص معتدية بصورة أو بأخرى على نصوص سابقة ولا يوجد نص واحد فكل نص مركب من نصوص وكل نص كذلك يمارس لعبة لغوية هي لعبة التباين والأختلاف ولهذا لا يوجد أتساق في النص فكل نص يفكك نفسه ( ومن هنا وجه دريدا نقده لـ (دو سوسير) على اساس أنه وقع في اتجاه مركزية الكلمة وأسس الحضور في الكلمة بوصفها نقطة أصلية). ومن هنا اصبح تفكيك النص تفكيكا للعقل ولمركزيته ، وأصبح النص خطابا وذابت الدلالة المركزية وتحول الحضور إلى غياب والغياب إلى حضور، وصار النص حلقة أو سلسلة متواصلة من الدالات غير المقترنة بمرجع، والدلالة تنقل من طبقة معرفية إلى أخرى دون إستقرار وثبات. والتفكيك في هذه الحالة يدعو للمزيد من الحرية في هدم النصوص كي ينتقض الإجماع على دلالة النصوص ، ويصبح النص ساحة لإظهار التناقضات والتباينات لا البيانات . والتفكيك كما يقول د. عبد الله إبراهيم ( على التعداد والأختلاف وإلغاء الحضور والتعالي ويهدف إلى تقويض نماذج الحضور التي تستند إليها الحضارة العربية وهذا يسمح بظهور بدائل حضارية وفكرية وفلسفية تتغاير في نظمها وأهدافها عما أرسته الغيبية أو الورائية (الميتافيزيقيا) الغربية. فلا غرابة أن يعنى اليابانيون بطروحات دريدا فذلك يتيح لهم فضلاً عن توافر عوامل مهمة أخرى في اليابان إلى الأنفصال عن أوربا والأنتقال في مرحلة لاحقة إلى الواقع البديل اقتصادياً وفكرياً.
ولم تدرس خلفية دريدا العربية(الجزائرية)، وإنما قرأ على أنه نتاج البنيوية الغربية ،بعدما صنف في الجزائر من جماعات المستوطنين ([2])،بالرغم من أنه كان من أكثر المنتقدين للاستعمار الفرنسي للجزائر.وبالرغم مما يقال بأن تفكيكية دريدا اليهودي الجزائري جاءت تكملة لبنيوية ليفي شتراوس اليهودي الفرنسي ، بيد أن بعضهم يعتقد بانها تقع على النقيض منها ، فبعد أن أرسلت البنيوية الأسس الحتمية والشمولية للأنساق قامت التفكيكية بالتشكيك بتلك المسلمات والقناعات المتوارثة لأن هذه النظرية أعتمدت أصلاً على طروحات ( القبالة اليهودية التي تجعل النص قابلاً لأن يمنح عدة تأويلات(حمال أوجه) غير منتهية لتحطيم مستواه التعبيري الخطي)، واعتمدت النظرية التفكيكية كذلك على آراء نيتشة 1844- 1900 العدمية وآراء هيدگر 1889-1976 الوجودية إذ أنطلقت هذه النظرية من شكوك هذين الفيلسوفين، في صحة كثير من المقولات والقناعات السائدة في الفلسفة والحضارة الغربية .
وعدت التفكيكية حقلا معرفيا بلاغيا في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل. وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل (التفكيك) في السنوات الأخيرة .ونتيجة لنظرة التفكيكيين للنص التي ترى أن النص لا يمثل بنية لغوية متسقة منطقياً تخضع لتقاليد ثابتة يمكن الكشف عنها بل يمثل تركيبية لغوية تعارض نفسها من الداخل وتعج بالكسور والشروخ والفجوات على نحو يجعل النص قابلاً لتفسيرات وتأويلات لا نهاية لها)، يرى بعض الباحثين ان تاويل التفكيكيين ما هو إلا ( هذيان محموم كهذيان الفصاميين أو الفارين من حرب مدمرة(الفرارية عندنا)). وبذلك من الطبيعي أن تكون تلك الطروحات التي تدعو للحرية غير المنضبطة في التأويل والتي تدعو كذلك على نقض المركزية الأوروبية ، أن تلاقي قبولا في المزاج الأمريكي وان يقوم الأمريكيون بالدعوة لهذه النظرية التي وجدت في اللّغة والعمارة على حد سواء.
ويمكن تصنيف (التفكيكية) كخلف معاكس لما بعد الحداثة أو حتى نتاج للجدل بينها وبين الحداثة على مبدأ الفيلسوف هيغل الجدلي. و جاءت من جراء نداءات ناقدة لأسلوبها،و دعوات لتناص قائم على التكرار الصعب لمعطيات الماضي بالنظر إلى بنية الاختلاف بينها والغور في جوهرها بدلا من الالتصاق بالأشكال والصور السطحية .وفيما يخص التناص ، أشار المعمار( تاكي (Taki / Fragments and Noise إلى نوعين ، الأول كلاسيكي رافق ما بعد الحداثة في بدايتها، يعتمد على استخدام الموضوعات التأريخية كخلط حر لأشكال متنوعة تنتج تراكمات صورية. ويظهر فيه التراكم على شكل تجميعات صورية غير مقصودة، غير منظمة وحتمية لتجميع رموز الماضي. أما النوع الثاني، اللا كلاسيكي فيعتمد على تكرار معقد لأشكال بسيطة، وهذا النص لا يبدو عفويا بل يعد بعداً فردياً لعملية الخلق المصاغة بتداخل تراكمي طباقي . Counterpoint وهو يؤشر إظهار الاختلافات بدلا من البحث عن التشابهات بين النصوص المتعالقة.
وتعاملت العمارة التفكيكية مع عملية التراكم باعتبارها آثار وأن النص المعماري هو كتابة لموضوع ما وليس إلصاق صور الماضي والموروث، و أشارت نقاط التحول من مفهوم التناص في عمارة ما بعد الحداثة والمعتمد على تراكم الصور والرموز الماضية إلى توجهات ومفاهيم (ما بعد البنيوية) المعتمدة في العمارة (التفكيكية)، تحولا في مفهوم التراكم نفسه، فابتعد عن تجميع صور الماضي المعتمد على بنية التشابه الظاهرية بين المفردات، إلى تراكم يعتمد على بنية الاختلاف، والتعامل مع النصوص السابقة كآثار تفتح مجال حوار التأويل الخاطئ من قبل المتلقي، مما يؤدي إلى تعدد القراءات وبذلك يبتعد التناص عن التكرار السهل للنصوص السابقة باتجاه تراكم آثار النصوص.
يشير بعض منظري العمارة التفكيكية إلى ضرورة التناص بتراكم الأساليب باستخدام تراكب وتجاور عدة أنظمة في آن واحد، واستخدام عدة أساليب كاللصق، والتراكب،و التجاور والانتقائية الجذرية لتحقيق التنوع، ويسبق هذا التنوع، الاختلاف، فالاختلاف هو الغالب more is difference وإلى ضرورة تفكيك تقاليد العمارة وإعادة تركيبها في اندماجات متعددة لينتج نسيج لخليط من الانقلاب،و التموج،و إقحام حركة ستمرة .. لتنتج بالنتيجة عمارة معقدة تعتمد على التراكم وليس التكرار ([3]) .
وكانت التفكيكية المعمارية قد حاكت في بعض جوانبها الطراز (الإنشائي Construction) الذي كان قد ظهر في الاتحاد السوفيتي في ثلاثينات القرن العشرين ، بالرغم من أن العديد من النّقادِ والأنصارِ قَدْ أنكروا عليها تلك المحاكاة والتداخل، وعزوه الى موائمة مؤقتة قد حدثت بالصدفة. وربما كان المسعيان قد توحدا عندما راما بناء(عالم جديد)،كما هو حال كل التوجهات الشمولية التي لم يرق لها تجذر مع الماضي. يقول دريدا بهذا الصدد “إذا كان التفكيك مدمرا حقا.. فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوهة.. من اجل أن نعيد البناء من جديد.. “..الخ ([4]).
ومثلما تقوم التفكيكية ببعثرة النصوص والأحداث ،فإنها إمتدت نحو عناصر العمارة وهيكلها الإنشائي ورامت إعادة تركيبها من جديد.وهي بذلك رافضة لمركزية العقل الداعي إلى تراكب وتراتب الأشياء وتكوينها الثابت و المنطقي الوارد من صلب المنتج البشري. وبذلك فأنه رافض للتراث وإحياءه،ويمكن أن يكون مذهبه رد فعل “منطقي” لما رامت أن تشيعه “مابعد الحداثة” حينما مارست نوع من الخداع في إعادة “تسويق” التراث.وهكذا لايوجد بشكل صريح منهج للتخطيط الحضري التفكيكي، ولاسيما لحلول مدن عتيدة، تحمل من الموروث المعماري الذي يهبها القيمة والمنزلة ،كما هي المدن الإسلامية مثلا.
ويبدو أن (دريدا) كان متمردا، حينما رفض كل عمليات التجميل التي تجري على التراث أو الترميم الحضري، ورام أن يؤسس لصرعة مستجدة. ويبدو أن فكره قلق ومحض(شكوكية) على الخط الديكارتي، دون أن تثبت على شئ ،حتى لنجده لا يلمس شيئاً إلا لينسف مسلماته ويفجره شظايا،ويشرع بآخر.كل ذلك يجعلنا نجزم أن التفكيكية مغامرة عقلية، سوف تتوقف بعد أن تهدأ صرعتها،لكنها ستشكل مرحلة متميزة في تطور العقل البشري،وعامل محفز من أجل الشروع بمرحلة فكرية لاحقة أعمق وارسخ.وربما يكون هذا سببا وراء نزعة صاحبتنا(زها) الحاملة للأرث العراقي (الشكوكي والقلق)، وفي ذلك سياقات تأريخية وفلسفية ونفسية لامحل لسردها.
وما يخص الجوانب المـادية للغـة وآليات التجريـد والتجريب فيها يشــير جــون لوك (ان التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادىء جميعاً. والتجربة نوعان: تجربة ظاهرة واقعة على الأشياء الخارجية أي إحساس ؛ وتجربة باطنة واقعة على أحوال النفس أي تفكير ويعطي مثلاً في اللّغة تأييداً لهذا الرأي: فإن الألفاظ في الأصل تدل على جزئيات مادية ثم نقلت بالتدرج على ضربين ، أحدهما من الجزئيات إلى الكليات بملاحظة التشابه وإسقاط الأعراض الذاتية والضرب الآخر من الماديات إلى الروحيات بالتشبيه والمجاز: فألفاظ التخيل والاحاطة والتعلق والتصور والاضطراب والهدوء وما إليها اخذت أولاً من الماديات ، ولفظ النفس معناه الأصلي النفس وهكذا.وعلى أساس التشابه وإسقاط الأعراض تظهر القوانين العلمية وعلى أساس التشبيه والمجاز تظهر الميتافيزيقيا والدين والأدب.وهذا يحاكي إنتقال الأشكال المعمارية في الطرز من اصلها المأخوذ من الطبيعة كما في قصب سومر وبردي مصر التي مكثت في السواقي الغائرة على ظاهر الأعمدة اليونانية المسترسلة من اعمدة القصب(الشبة في الصريفة العراقية)، او أوراق نبات الأكانثوس في التاج الكورونثي ، وحتى تيجان الاعمدة في الكرنك المحتفظة بالأصل النباتي الأول .