عبدالامير الركابي
سادت في العصور الحديثة، فكرة او تصور ثابت، يقول بان المواضع او البلدان، او المناطق الجغرافية البشرية المتجانسة، لابد، او يفترض ان تتشكل في كيانات ودول. ومع الوقت تحول هذا الراي الى مايشبه البداهة او القانون، الذي لايمكن خرقه او تجاوزه. هذا الوضع ترتبت عليه حالات، تؤدي او ادت لتبني اوهام لااساس لها، طبقت على مواضع لايمكن ان تتمخض عن صيغ دول، لابل وقد تكون اذا فرضت عليها اتجاهات تقسرها على اتباع مثل هذا المنحى، فانها تصاب بعلل عضوية، وتتعرض لترضضات فادحة، تصيب سماتها وعناصر كينونتها وخاصياتها التا ريخية.
ليس هذا فحسب، فان الانسياق وراء المناهج الغربية في النظر الى الكيانات، او ترك هذا الموضوع على عواهنه، وتسييد الاعتباطية، من شانه ان يفقد مواضع بعينها، ماتتميز به من صفات قد تكون متعدية للوطنية او القومية المتعارف عليها اليوم وكانها هدف اسمى، الامر الذي قد يصل احيانا لما هو ابعد من ذلك بكثير، كما هي الحالة على سبيل المثال، في نموذجي العراق والجزيرة العربية، فهذان التكوينان لاينتميان الى المتعارف عليه من بنى، تتقبل من الناحية التطبيقية، المفهوم الوطني او القومي، فهما متعديان لمثل هذا النمط من التعابير ويتجاوزانهما بعيدا الى التعبير الكوني، وهما مع اشتراكهما بهذه الميزة، فانهما يختلفان عن بعضهما في الكثير من النواحي، فالتكوين العراقي مركب و معقد، وارفع وارقى من حيث الفعاليه وتشعب وتلون البنية والآليات، مقارنة بالتكوين الجزيري الذي هو تكوين احادي.
واهم مايشترك فيه كل من التكوينين، هو خاصية كونهما مجتمعات ” لادولة “، فالجزيرة العربية هي كيان لادولة احادي، بينما الكيان العراقي مجتمع لادولة اساسا، الا انه نمط مزدوج تتعايش وتتصاع داخله دولتان،هما ” دولة اللادولة ” في الاسفل، و” دولة قاهرة” تمايزية وتسلطية في الاعلى. ان اكتشاف الكيان العراقي لهويته وكينونته، امر ظل مؤجلا، وهو لايمكن ان يتحقق للوهلة الاولى تاريخيا، بل هو يتطلب المرور وقد مر بفترات ودورات حضارية، وصولا الى اللحظة التاريخية التي لايعود من الممكن عندها الاستمرار من دون التعرف على تلك الهوية واكتشافها. ان الكيانين المذكورين، هما كيانان نبويان، فاللادولة تفرز التعبير المطابق لها والمعبر عنها ،والتعبير المطابق لحالة اللادولة، هو التعبير التوحيدي النبوي، الا انها تتوزع في حالة العراق على مستويين ومرحلتين، بينما تتجلى في حالة الجزيرة العربية في حالة واحدة وحيدة، هي النبوة الملهمة الحدسية الاعجازية.
وهذا ماحصل في الدورة المستمرة، من الابراهيمية العراقية الى الابراهيمية الاسلامية الجزيرية، فالنبوة التي ظهرت في العراق، وتكاملت بالتوحيد، انتهت او ختمت في الجزيرة العربية، وقد تحولت الى رسالة ودعوة عمت المنطقة والعالم، وكانت سببا ومحفزا لدورة حضارية في المنطقة، هي الدورة الحضارية الثانية، الا ان هذه الدعوة توقفت، ولم تعد قادرة على الفعاليه بعد بضعة قرون، بينما انفتح الطريق امام التعبير الآخر” المهدوي”، وصارت المنطقة محكومة الى نمط ووسيلة تغييرجديدة، لاحقة على النبوة الالهامية.
ان مانشهده منذ الابراهيمية الاولى، هو التعبير الاول، او النبوي عن التوحيدية التاريخية المطابقة لحالة، او مجتمع اللادولة. ففي الدورة الحضارية الاولى، لم يكن بالامكان التعبير عن التوحيدية في العراق، الا بصيغة النبوة الحدسية الالهامية كما مثلتها الابراهيمية، وهذه او هذا النموذج، هو الذي استمر في التوالد تباعا، خارج محيطه وارضه الاولى، الى ان ختم في مجتمع لادولة، هو مجتمع الجزيرة اللادولوي الاحادي. وهذا المجتمع مع النبوة الخاتمة المحمدية، تحقق كونيا، ولم يقتصر على الجزيرة العربية بحكم طبيعته. ومع انتشاره اصبح هو القاعدة، في حين نشب صراع بين المكونات التي انتقل اليها، وبين بنيتة الاساسية، فعمل هو بكل الوسائل، على ضبط بقية التعبيرات المنتمية الى المواضع الاخرى التي توطن فيها عن طريق العصبية القبلية التي تداخلت مع الدعوة: ” الامامة في قريش “،غير ان هذه النزعة لم يكن من الممكن لها ان تستمر منتصرة الى مالا نهاية له. وبعد صراعات امتدت لاكثر من اربعة قرون ، توقفت الدعوة الكونية الجزيرية الالهامية الحدسية عن الفعل، ولم تعد قادرة على منح المنطقة الديناميات المحفزة، فتراجعت ووقعت في الانحطاط والتاخر والظلمة، التي ماتزال مستمرة الى الوقت الحاضر، وقد تطول اكثر.
ان مايسميه الاستاذ احمد الكاتب، ازمة المذهب الشيعي الاثناعشري، هي في الحقيقة مازق فعلي، وقع في تلك الفترة المذكورة، وتمثل في وصول النبوة الخاتمه الى منتهى فعلها،فالامر لم يكن مجرد ازمة في سيرورة التشيع الاثنا عشري، بقدر ماكان ازمة النبوة الالهامية متجليا في ازمة النبوة البديلة. فالعصمة والوصية والامامة الاثناعشرية، هي في الواقع الصيغة العراقية من النبوة الجزيرية وقد تم سحبها ومد أجلها، الامر الذي تبين انه هو الاخر غير ممكن، وهذا يعكس ازمة النبوة الجزيرية الاصل، لان النبوة الاثناعشرية قامت على الوراثة، واتخذت صفات وتبريرات اصلها جزيري وليس بعراقي صرف، ويمكن البحث عن الاشكال الاخرى من التعابير العراقية، عن النبوة عبر تمظهرات برزت بعد التشيع الاثناعشري، او معه او الى جانبه، ومنها الاسماعيلية والقرمطية، اما بما يخص الصيغة الاثناعشرية، فان ماتعبر عنه هو الطبعة، او الصيغة الاكثر تقليدية واقترابا من المفهوم الجزيري المنقول الى العراق، وهذا، وصل الى نهايته مع الامام الحادي عشر، بناء على تحسسات للواقع الحضاري السائر وقتها الى الانهيار،من خلال ماكانت تنم عنه حالته الارقى اي حالة عراق العباسيين.
اذن واذا اردنا ان نرسم فترات ومراحل للنبوة ومسارهابعد الختام النبوي المحمدي، فاننا نلاحظ :
1 ـ الثورة النبوية الاخيرة والختام النبوي، اي انتهاء صيغة ومفعول النبوة على النمط الابراهيمي الالهامي، وهو ماحصل في الجزيرة العربية على يد النبي محمد / ص / .
2 ـ استمرارها في العراق ومد اجلها بصيغة الوصية والعصمة والوراثة الاثنا عشرية.
3 ـ توقفها وبدء ظهور مابعدها او مايعقبها اي ” المهدي ” او صيغة المهدوية التي هي مفهوم وطني عراقي حصرا.
4 ـ حلول عصر ” الغيبة “، وهو مااستغرق قرونا من الانحدار العام مع الاصرار على احياء صيغة النبوة الخاتمة بلا جدوى وخلافا لواقع كونها قد ختمت.
5 ـ بدء وانفتاح عصر الهداية والدخول في العصر المهدي وهذا مانحن اليوم في الطريق اليه او مانعيشه واقعا وما نشهد مقدماته .
ان عصر الهداية هو الصيغة التوحيدية العراقية، المطابقة للذات العراقية الوطن كونية، في حالتها الاكمل العليا، وهذه الذات، او هذا التكوين، عبر عن نفسه حتى الان، من خلال الصيغة النبوية المعروفة اي النبوة الالهامية قبل مئات السنين، الى ان انتهت وقد ادت مهمتها ودورها في التاريخ وفي الحياة. ومع اللحظة الراهنة، فقد صارت كل محاولة احياء للنبوة بصيغتها الماضية مسيحية او يهودية اووبالاخص اسلامية، لايخرج عن السلفية، وعن الرغبة الناجمة عن الانهيار والتردي، للخروج منها بما هو متوفر ومتاح. ولان مايشير الى المستقبل لم يولد بعد، ولم يتشكل تماما، فالعلم التوحيدي التعليلي الاجتماعي الروحي، او اللادولوي لم يكن من مميزات الفترة الماضية ، وهو لم يتوطد في الفكر والمفاهيم والرؤى الامر الذي مايزال يطيل من عمر المنظور الالهامي الاعتباطي للتاريخ ولتاريخ التوحيد والنبوة. بينما يترافق عصر الهداية والمهدي مع تبلور وحلول ” علم الاجتماع الا لهي ” على الوعي العام مع تراجع الوعي المرتكز الى مفاهيم ورؤى الفترة النبوية الالهامية.
.