بدأت تتوضح يوما بعد أخر، بوادر سلسلة من المواجهات غير المباشرة ما بين تركيا وروسيا، فالقصف العشوائي للمنطقة الكوردية، عن طريق مرتزقة تركيا وبمساعدتها، كالتي تمت على عين عيسى وبعض القرى في عفرين، ليست سوى الحلقة الأخيرة من الرسائل المتبادلة بينهما حتى اللحظة، والكورد كما في معظم الحالات هم حطب الاحتراق، وبدمائهم تكتب الرسائل، ومن خلال قضيتهم ترسل.
وما يجري في المنطقة الكوردية ليس سوى رد فعل على ما قامت به روسيا من الضغوطات على تركيا لتنسحب من مراكزها في جنوب إدلب، أو مما تسمى بمراكز المراقبة، وخاصة التي أصبحت ضمن جغرافية السلطة، كمواقع مورك، والمتوقع أن تقوم بإخلاء خمس مراكز أخرى، وجميعها تتواجد خارج مناطق المعارضة، وفرض الإخلاء دون حوار مسبق، جاءت كرد فعل على هدم تركيا للهدنة التي تم الاتفاق عليها ما بين أذربيجان وأرمينيا في موسكو، وبضغط تركي خرقتها أذربيجان في اليوم التالي.
فجميعنا نعلم أن تركيا الدولة القوية عسكريا ولا يمكن مقارنة القوة الكوردية بها كليا، فهي تستطيع وعن طريق مرتزقتها أن تحتل كل المنطقة الكوردية بفترة قصيرة، وتخطط لذلك، لكنها تتمهل لحذرها من ردة الفعل الروسي والأمريكي، وبالتالي فما يتم من القصف ليست سوى رسائل لروسيا قبل أن تكون لأمريكا، وما أقذر الرسائل السياسية عندما تتم بالأدوات العسكرية، وكثيرا ما خلقت حروبا مدمرة طويلة الأمد.
روسيا صرحت أكثر من مرة وعلى لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف على أن الهدنة هي طريق الحل لقضية الجمهوريات القفقاسية، وأنها لن تأخذ جانبا في الصراع وطالبت تركيا بالمثل، إلى جانب معارضتها جلب المرتزقة من سوريا، كما وأنها صرحت أن اتفاقيتها مع أرمينيا مبنية على حالة الاعتداء على جغرافية الأخيرة، وناكورنيا كارباغ غير معترفة بها كجزء من أرمينيا، وعلى خلفية عدم امتثال أردوغان للطلب الروسي، أثارت الأخيرة قضية إدلب والتي هي في الواقع معلقة منذ آذار الماضي بعد اتفاقية سوتشي الأخيرة، فقد كان من المفروض أن تنهي تركيا إشكالية المعارضة في إدلب خلال ستة أشهر، وهو ما أدى بها إلى إرسال قسم منهم إلى ليبيا، بعدما تدخلت لفتح هذا المجال، كما وأرسلت قسم أخر إلى أذربيجان، ولا يستبعد أن تركيا افتعلت هاتين الجبهتين، من أجل هذه الغاية، فيما لو وضعنا جانبا استراتيجيتها المستقبلية بتحويل تركيا إلى دولة قوية عسكريا واقتصاديا منافسة للدول الكبرى في قضايا الشرق الأوسط:
أولا، عسكريا، عن طريق التدخل في المناطق الساخنة ضمن منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم فرض ذاتها كمتحكمة بعرض الحلول، كطرف موازي لروسيا وأمريكا، وهو ما أدى إلى تصعيد الصراع بينها وبين أوروبا التي تخسر على أثرها مراكزها في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وسلسلة خلافاتها مع روسيا نابعة من هذا التوجه.
ثانيا وفي البعد الاقتصادي، بعدما دخلت بين الدول العشرين الكبرى في العالم، كان لا بد لها من مصدر ذاتي للطاقة، للحصول على بعض الاستقلالية، والتحرر من التحكم الروسي أو الإيراني أو غيرها من الدول التي تمدها بموارد الطاقة، الغاز والنفط، وهو ما دفع بها أن تثير قضية شرق البحر المتوسط، والبحث عن الغاز الطبيعي، وتواجه كل من مصر واليونان وقبرص الجنوبية، والاتفاق مع حكومة الوفاق الليبية، للاستيلاء على المساحات الدولية المائية بينها وبين ليبيا مخترقة الحدود المائية اليونانية والقبرصية، وقد تتصادم في قادم الأيام مع سوريا وغيرها، ولا يستبعد أن يتم مثلها مستقبلا مع دول البحر الأسود.
ثالثا، أصبح واضحا لجميع المراقبين السياسيين والمحللين الإستراتيجيين، أن تركيا تبحث عن سيادة العالم الإسلامي، ومثلها عن ريادة شعوب الشرق الأسيوي، ذوي العرق الأصفر، تحت صفة التقارب العرقي، وهو ما حدا بها توسيع علاقاتها مع أذربيجان رغم الاختلاف المذهبي بينهما، ومع الدول الأسيوية الشرقية الأخرى وخاصة التي بينهم خلفيات عرقية. وقد ظهر هذين التوجهين على خلفية الرفض الأوروبي المتتالي لطلباتها بالانضمام إليها، وكانت الشروط الأوروبية هي التحلي بنظام ديمقراطي، وتطبيقها بشكل عملي، وهو ما لم تتمكن الحكومات السابقة لأردوغان القيام به، مثلما لم يلتزم أردوغان بالمنهجية الليبرالية عندما أضيف على المطلب الأول مواجهة الإسلام الراديكالي، وكانت القضية الكوردية والتعامل مع الحراك الكوردي من أهم أسباب عدم تمكن جميع الأنظمة التركية تطبيق النظام الديمقراطي المطلوب، والاستمرار في النهج الإسلامي الليبرالي.
رابعا، القوة الاقتصادية والعسكرية، المتصاعدة بوتيرة غريبة والتي أدت إلى ظهور الطموحات الأردوغانية في الاتجاهات المتعددة، ومن ضمنها التخطيط على إعادة الخلافة العثمانية، المتوقع أن يكون من عوامل تقويضها، وإعادتها إلى دولة تابعة لأمريكا وروسيا كما كانت عليها قبل نصف قرن من الزمن. فبناء على المصادر الاقتصادية المتعددة، تحصل تركيا ومنذ تولي أردوغان السلطة على ما يقارب ثلثي ميزانيتها من المساعدات الدولية، وكسيولة، والتي قدرت في بعض السنوات قرابة 450 مليار دولار، إلى أن بلغت الدخل الوطني في عام 2017م 950 مليار دولار، واحتلت المركز الـ 18 من بين دول العالم، ومعظم شركاتها العاملة في الخارج هي من هذا الدعم، وفي الواقع الشركات تركية برأسمال شركات أوروبية أمريكية، والتي بدأت بعمليات الانفكاك عنها بعد التوجه الراديكالي التركي، وهذه تحتاج إلى دورة اقتصادية متكاملة أي قرابة عشرة سنوات، والدعم كان لغاية مواجهة الإسلام المتشدد وحركاته الإرهابية. كما ونعلم تدرج كثاني أقوى الجيوش في حلف الناتو. ولكن وفي الحالتين قوتها حتى قبل سنوات قليلة كانت مبنية على المساعدات الخارجية، فأي حصار اقتصادي عسكري أوروبي أو أمريكي ستعيدها إلى دولة ضعيفة، وهو ما دفع بأردوغان في وضع متابعيه أمام خيارين، إما الرفاهية الاقتصادية؛ أو حماية القومية التركية.
هذه العوامل تدفع بنا كحراك كوردي التفكير بقادم المنقطة، ومقارنة ذاتنا بأعدائنا، والواقع السياسي المهيمن علينا. فتشتتنا يزيدنا ضعفا؛ وهي جدلية مفروغة منها، مع ذلك نعمل بالضد منها، مثلما ندرك أنه بدون اتفاق عل نقاط تقاطع بيننا، نكون قد فتحنا الأبواب كلها لتدمير ما نملكه من قدرة الإدارة لمنطقتنا، وبدون بديل كوردي مشترك، سنخسر كل المنطقة، أي أن جغرافيتنا عمليا من عفرين وحتى ديركا حمكو أمامها كارثة، وقد تؤدي المفاوضات مع الدعم الأمريكي إلى تجنبها، فنحن على حافة خسارة جنوب غرب كوردستان بكل أبعادها، فقد خسرناها ديمغرافية، ونأمل ألا نخسرها جغرافية وإداريا وسياسيا.
كتبنا ونوهنا مرارا، أنه من شبه المستحيل، تشكيل المرجعية، ومحاولات إدراج المفاوضات من أجلها هذا الهدف، فكرة شبه طوباوية. نحن هنا أمام طرفين متناقضين إيديولوجيا، وسياسيا، وفي العمل وفي المفاهيم.
لذلك كثيرا ما ذكرنا أنه بالإمكان الاتفاق على بعض النقاط المتقاطعة، ومن على متنها يمكن الاستمرار، حتى ولو كانت كمعارضة وسلطة، فقط عليهم خلق بنية ديمقراطية لعمل الأحزاب وبدون استخدام السلطة أو فرض شروط العمل والنشاطات السياسية والثقافية.
وعليه لا بد من طرح السؤال التالي: هل حقا اللجان المشرفة، الأمريكية والأوربية، وصلوا إلى قناعة أن الحوارات الكوردية الكوردية عقيمة، وفشلت؟
وهل ستتوقف المفاوضات كلياً، وسيتم الإعلام عن الفشل بعرض الحجج، ونأمل أن نكون مخطئين، وإن لم نكن، أليس الفشل هي نتيجة التدخلات الإقليمية، أو الإملاءات الخارجية؟ وبالتالي سنصبح شعبا وحراكا سياسيا، بين ناري السلطة المدعومة روسيا وتركيا.
لا أود ذكر أسماء الإخوة المتفاوضون، ولا الأحزاب المتحكمة بها، كما ولا يهم الشارع الكوردي، التوقف عنده، بقدر ما يهمه نتائج الحوارات التي أصبحت وكأنها مسيرة بلا نهاية، تتجه إلى اللا تعيين، والتأخر ترضي المتربصين بالقضية الكوردية، وشريحة غير قليلة من الكورد الذين يتمنون فشلها لا لخير الأمة بل للقول إن توقعاتهم كانت الأصوب.
وما نذكره، كرسالة للطرفين، وهي أن الشعب براء من الحجج المعروضة على الإعلام؛ والتي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تعلمون أكثر من الجميع، أنه لو خرجت أمريكا من المفاوضات، وعدتم إلى سابق مسيرة التخوين والاتهامات، وأدرجتم المجتمع الكوردي في الخلافات الحزبية، سترسلون الشعب والمنطقة إلى الكارثة، وستتهمون من على صفحات التاريخ كمساهمين في القضاء على الوجود الكوردي في جنوب غرب كوردستان، لأنكم فتحتم الأبواب للأعداء.
فانحراف درب الطرفين الكورديين من جلسات التفاوض، إلى تصعيد الخلافات، وتغطيتها بالحجج التي يعرفها الشارع الكوردي، لا مبرر له، بل تزيد من تعقيد المسيرة، وهنا الشعب يريد أن يعلم فيما لو كانت المفاوضات منذ البداية عن قناعة، أما أنها كانت عملية امتصاص لضغط الشارع الكوردي، أي كان خداع للشعب؟