الدكتور زاحم محمد الشهيلي
يعد الكورد مكونا أساسيا وفعالا من مكونات المجتمع العراقي التي تمثل طيفا ثقافيا جميلا ينصهر في بودقة واحدة لينتج المخزون الحضاري والفكري لبلاد ما بين النهرين، التي تعد مهد الحضارات الانسانية ومهبط الاديان السماوية والأنبياء والرسل على مر تاريخ العراق الموغل في القدم. عاش الكورد بسلام منذ زمن طويل جنبا الى جنب مع مكونات العرب والمسيح والتركمان والفرس والمكونات الاخرى بطوائفها ضمن الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية في الشرق الاوسط، حيث يمتد تواجدهم – حسب المؤرخين – من قرية دوين الواقعة على الحدود بين ايران والاتحاد السوفيتي السابق مرورا بغرب ايران وشمال العراق وسورية وجنوب تركيا، وكان لهم دورا بازا في محاربة الصليبيين واخراجهم من بيت المقدس بعد اعادة توحيد الدولة الاسلامية على يد القائد الكوردي المسلم صلاح الدين الأيوبي .
وبعد ان افل نجم الدولة الاسلامية في الشرق الأوسط نتيجة مرورها بعصور مظلمة نتج عنها سيطر الإنكليز والفرنسيين على المنطقة بداية القرن التاسع عشر، الذين عملوا على تقسيم الدولة الإسلامية في الشرق الاوسط الى دويلات مستضعفة بموجب اتفاقية سايكس – بيكو عام ١٩١٦ ابان الحرب العالمية الاولى لتسهيل فرض سيطرتهم عليها تحت شعار (فرق تسد)، حيث كان التقسيم يحمل في طياته غايات واهداف استعمارية لم يدركها المسلمون في حينه، اخذين بنظر الاعتبار التوزيع الجغرافي للمجتمعات البدائية في الشرق التي أعيتها الحروب والإهمال والفقر خاصة في الفترة الأخيرة من حكم الدول العثمانية.
لم تتضمن سايكس- بيكو اقامة دولة للكورد ضمن شريط تواجدهم في مرتفعات غرب ايران وشمال العراق وسورية وجنوب تركيا، ومنذ ذلك الحين احس الكورد بحيف وغبن كبيرين وقع عليهم سببه الدول العظمى التي قسمت المنطقة في تلك الفترة ورسمت حدودها الدولية، ونتيجة لذلك نمت بين صفوف الكورد النزعة القومية للمطالبة باقامة دولة لهم على حساب اراضي الدول التي حددتها سايكس- بيكو، حيث لجاوا الى الكفاح المسلح لاسماع صوتهم وتحقيق اهدافهم، وبدات المقاومة منذ ذلك الحين كر وفر إلى يومنا هذا، حيث ضحى الكورد بالغالي والنفيس من اجل تحقيق هدف اقامة الدولة الكردية التي ارتبط مصيرها بمصالح الدول العظمى، وعدم استعداد الدول التي يقطنون فيها استقطاع جزء من أراضيها لإقامة الدولة الكوردية، الامر الذي أوجد صراعا داميا راح ضحيته الكثير من ابناء الشعب الكوردي، وباتت المناطق الكوردية تعاني من الإهمال والفقر والتهميش بسبب هذه القضية التي استنزفت الموارد البشرية والاقتصادية لتلك البلدان وحرمت الشعب الكوردي من الحصول على حقوقه المشروعة في اطار الدولة الواحدة.
وعند اعادة قراءة القضية الكوردية بشكل “هادئ وعقلاني” نجد ان الدول العظمى لا تفكر بعواطفها كما نفكر نحن الكورد وغيرنا من الشعوب في الشرق الاوسط، وانما تفكر بعقل المصالح الجيوسياسة والاقتصادية ومردودها الايجابي على المدى القريب والمتوسط والبعيد حسب المتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم واستخدام بعض الدول والشعوب في تحقيق مآربها ومصالحها بغض النظر عما سيلحق بتلك الدولة والقوميات من ضرر جراء ذلك.
لذلك يمكن تفسير اتفاقية سايكس – بيكو عام ١٩١٦ في شقين، الأول: أما ان تكون هناك فكرة لدى الانكليز والفرنسيين مفادها خلق مناطق توتر دائمة في دول الشرق الأوسط التي استحدثتها، والعمل على تغذية الصراع بشكل دائم حسب متطلبات مصالحها في الوقت الذي تريد، من خلال اثارة النعرة القومية لدى الكورد مثلا على امل إقامة الدولة الكوردية مستقبلا، وهم غير صادقين بذلك حسب الوقائع، كما هو الحال في رسم الحدود البرية والبحرية بين العراق والكويت والعراق وايران التي كلفت العراق حروبا طاحنة يدفع ثمنها الأجيال المتعاقبة على مر تاريخ العراق الحديث.
ثانيا: او ان سايكس – بيكو – وبعد دراسة معمقة للجغرافية الجيوسياسة للمنطقة – رأت استحالة اقامة دولة للاكراد في المناطق الجبلية الوعرة ذات المجتمعات القروية البدائية آنذاك، وان اقامة الدولة يتطلب اضافة مناطق سهلية لإنشاء المدن كما هو الحال في الجزيرة العربية، وهذا الامر يتطلب ايضا توسيع المنطقة باتجاه الداخل التركي والداخل العراقي وهكذا مع ايران وسورية، وفي هذه الحالة ستتسع الرقعة الجغرافية للدولة الكوردية على حساب مساحات اراضي الدول المجاورة لها يقابلها كثافة سكانية قليلة يقطن اغلب سكانها على سفوح الجبال وفي الوديان حيث من الصعب توطينهم خارج مناطقهم التي اعتادوا العيش فيها، وان ذلك – بموجب الحسابات الاقتصادية – يحتاج الى جهد اداري ومالي كبير لإجراء تعداد سكاني لهم وتقديم الخدمات في تلك المناطق من قبل دول سايكس – بيكو، وعليه تم توزيعهم على الدول الاربعة لضمان نزولهم الى المناطق السهلية مستقبلا لممارسة حياتهم الطبيعية بسلام وضمن حدود الدولة التي يتواجدون فيها او رغبتهم في البقاء بمناطق تواجدهم الأصلية.
بذل الكورد قصار جهودهم وناضلوا من اجل “الدولة الحلم” وكان الاستفتاء في اقليم كوردستان العراق في ٢٥ ايلول ٢٠١٧ اخر خطوات العملية التي عول عليها الكثيرين لتكون النواة لتأسيس الدولة الكوردية، وكان من اهم اسباب فشل الاستفتاء تنصل ما يسمى بـ “حلفاء الكورد” من الدول العظمى وخاصة امريكا عن وعودهم، والذين كانوا وما زالوا يحققون مآرباً على حساب مصالح الشعب الكوردي الذي عانى كثيرا على مر التاريخ ومن الضروري ان يعيش بسلام مع المكونات الاخرى في البلدان التي يتواجد فيها الكورد.
وعليه نرى ان المواقف الدولية هذه كانت نتيجة طبيعية في اطار العلاقات الدولية، حيث ان الكثير من الدول الغربية تسعى إلى الاندماج سياسيا واقتصاديا مع بعضها لتكون قوة اقتصادية اكبر، وانها غير مستعدة ان تخسر حلفاءها من الدول ذات السيادة والثروات حتى لو كانت على خلاف مع انظمتها كما هي العلاقة بين تركيا وامريكا، وامريكا ودورها في العراق، والموقف الامريكي من النظام السوري المتفق عليه مع روسيا، وكذلك اولويات اهدافها في ايران. منطقيا، ان الدول العظمى غير مستعدة لان تدعم سياسيا واقتصاديا تاسيس دولة تمتدت مساحتها من عمق العراق الى عمق سورية مرورا بعمق تركيا وانتهاء بايران، لان ذلك لا يوفر لها جدوى سياسية ومردودا اقتصاديا حقيقيا على المدى المتوسط والبعيد، وان الدول العظمى ومنها امريكا – رغم العهود التي قطعتها على نفسها لبعض الساسة الكورد في اقامة الدولة الكوردية – لكنها غير صادقة وليست مستعدة لدعم قيام دولة سياسيا واقتصاديا بتوجهاتها الحالية والمستقبلية بغض النظر عن نوع الرئيس الامريكي سواء كان ديمقراطيا او جمهوريا ، انها ليست مستعدة لدعم دولة ناشئة محاطة بالاعداء ليس لديها موارد اقتصادية حقيقية يمكن الاستفادة منها مستقبلا، وعليه دولت القضية الكوردية وأصبحت راي عام دولي تتقاذفها مصالح القوى العظمى دون نتيجة تذكر.
ان المعطيات المشار اليها سلفا تحتم على الساسة الكورد “العراقيين خاصة” اعادة دراسة وتقييم القضية الكوردية (بهدون وبنفس طويل دون تشنج) لتحديد مصالح الشعب الكوردي في العراق على اقل تقدير، فإما ان تكون في الانفصال وتحمل اعباءه وعواقبه ونتائج تراكم المشاكل السياسية والاقتصادية وازدياد الويلات والفقر والأزمات الاقتصادية وتراجع الدعم الدولي المبرر سلفا للقضية الكوردية … او ان تكون المصلحة في الاندماج بالدولة العراقية وتحقيق مصالح الشعب الكوردي بتوفير الحياة الحرة الكريمة له بموجب الدستور والقانون العراقي الذي يجب ان يتساوى فيه كافة ابناء الشعب العراقي بالحقوق والواجبات والعيش بنعيم دون خوف في اية بقعة من بقاع هذا الوطن الذي يعد اغنى بلد في العالم وله تاريخ يمثل مهد الحضارات والأديان، فالكورد عراقيون ومكون اصيل من مكونات المجتمع العراقي، متصاهرين مع المكونات الأخرى، ولا احد يستطيع ان يزايد على وطنيتهم وانتماءهم، وهم اخوان في الدين وشركاء في الوطن والتاريخ، والكورد اليوم رجال دولة بعيدين عن الطائفية والحقد الاعمى، وهم ابناء هذا الوطن وان الحيف الذي وقع عليهم وقع على كل مكونات المجتمع العراقي دون استثناء سواء في الماضي او الحاضر بسبب سوء ادارة الدولة منذ تاسيسها عام ١٩٢١، فلا توجد حجة حقيقية او تبرير منطقي لكي ينفصل الكورد من جسد العراق ويذهبوا إلى المجهول، فالعراق وطن الجميع وليس وطن لمكون دون سواه.
فاليوم يعلو كعب الدولة باقتصادها القوى المنظم وامنها المستقر وعلاقاتها الخارجية الجيدة مع دول الإقليم المحيطة بها ومع الدول ذات الاقتصاديات المتطورة، فهناك دول متخلفة اقتصاديا في الشرق الاوسط وافريقيا وشرق اسيا يهاجر شعبها ويتحدى المخاطر والموت للعيش في اوروبا وامريكا سعيا وراء العيش الرغيد والامان لا سعيا وراء القومية والعرقية والطائفة، حيث يعيش المسيحي والمسلم واليهودي والكوردي والعربي جنبا الى جنب في دول الغرب التي يحكمها القانون لا المصالح القومية والشخصية والعرقية والطائفية والفئوية.
ومما لا شك فيه، فان شعبنا الكوردي في العراق، الذي نكن له كل الحب والاحترام والتقدير، يريد ان يعيش بسلام ويحيا حياته الطبيعية داخل دولة العراق التي يكون فيها القانون القاسم المشترك بين جميع أبناءه، فالعراق عراقهم كما هو عراق المكونات الاخرى ويجب الا يفرطوا به بسهولة، وان يعملوا على ان يكونوا مؤثرين ايجابا في الساحة السياسية التي يجب ان تكون خالية من التناقضات الفكرية والولاءات الخارجية، وليعلم الكورد ان جميع المكونات في العراق تحبهم لعراقيتهم ووطنيتهم وتاريخهم المشرف، وان عربون المحبة هذا يكمن في موافقة الجميع على تربع الكورد اليوم على قمة اعلى سلطة في العراق – رئاسة الجمهورية – وكذلك تواجدهم الفعال في المؤسسات العراقية التشريعية والتنفيذية والقضائية والمؤسسات والوزارات الاخرى، وان الإقليم يتمتع بحكم شبه مستقل على عكس الأقاليم الكوردية في الدول المجاورة.
لذلك نرى ان فائدة الكورد وسعادتهم تكمن في عراق موحد من شماله الى جنوبه وليس في دولة فوق قمة جبل تحيط بها النيران من كل جانب، فاليوم يتشرف الكورد بقيادة العراق رئيسا على مدى اكثر من عشر سنوات، وهذا الشرف يتمناه كل الشرفاء والوطنيين في العراق من ضمنهم الكورد، فجاءت الفرصة في الوقت الحاضر “الحرج” ليثبت الكورد لأنفسهم وللعراقيين وللعالم اجمع انهم خير من يمثل العراق ويحرص على تطوره وتقدمه واستقلاله وسلامة اراضيه ووحدة مكوناته، وانهم كانوا وما زالوا ابناء بررة، لذا من واجبهم الا يضيعوا هذا التشريف في مرحلة تاريخية مفصلية في حياة العراق كدولة والمجتمع العراقي بمكوناته الجميلة.
لذلك نرى ان على الساسة الكورد اليوم ان يخرجوا للشعب العراقي بمبادرات وطنية تحفظ لكل العراقيين حقوقهم بموجب دستور وطني وقوانين تحفظ لكل عراقي حقه بالعيش بسلام وامان بغض النظر عن اثنيته وعرقيته ودينه وطائفته، وتصون كرامته في حياة حرة كريمة، وكما تعيش القوميات والطوائف والعرقيات بسلام وامان في امريكا وأوروبا وبلدان اخرى دون تمييز ومشاكل، وكفانا متاجرة بالقضية الكوردية من قبل اللاعبين الكبار على حساب المساكين من ابناء الشعب الكوردي الذي اعيته المشاكل دون نتيجة، وهذا الامر يدمي كل القلوب ويؤنب الضمائر الإنسانية، مع جل احترامي وتقديري لكافة الآراء التي قد تطرح في هذا المجال.
20/12/2019