د.شاكر حسين الخشالي
منذ أنْ طال المجتمع العراقي دمار الحروب في الربع الأخير من القرن الماضي وحلت آثارها عليه تأثرت التنشئة الاجتماعية لناشئته , وأصبحت المشكلات الاجتماعية المتراكمة مزمنة فيه , وذلك هو النتاج الطبيعي لويلات الحروب , ثم اكتمل المشهد بمكائد الاحتلال وما تبعه من حرب أهلية خفية الاسم جلية الرسم , لقد تأثر البناء الاجتماعي للمجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي بشكل واضح , فأصيبت الروابط الاجتماعية بالتخلخل , وأخذت العلائق بين مكونات المجتمع طابعاً ابتعد عن تحقيق الرفاهية والطمأنينة والأمان , و تخلى البعض عن معاييره القيمية وسلك معايير لا تبت بصلة لثقافة هذا المجتمع الأصيلة المنبت والعميقة الجذور , ولو أمعنا النظر بدقة وعمق في تقييم سلوك بعض الأفراد والجماعات لتوصلنا إلى قناعة إنَّ هناك تعمُّد في رفض القيم وهناك مزاجية في تطبيق معاييرها , إنَّ جميع المشكلات الاجتماعية ترتبط بالقيم , فضياع القيم ليست من يؤدي إلى ظهور المشكلات الاجتماعية فقط لكنها أيضاً تعيق حلَّها إلى الحدّ الذي قد يشكل ذلك صراعاً بين نسقين أو أكثر من أنساق القيم .
وقبل ولوجنا بموضوع القيم لا بدَّ من التعريف بمفهوم البناء الاجتماعي , إنَّ مصطلح بناء مستعار من علم الأحياء ويعني تماثل بناء المجتمع في ترابطه العلائقي والوظيفي مع البناء العضوي لجسم الكائن الحي , فروابط البناء الاجتماعي ومادته حيَّة القوام وتتجدد , أما كيف تتأسس روابط البناء ؟ فالأسرة تحوِّل المولود إلى إنسان بتفاعله مع ثقافتها , والأقران وجماعة اللعب في الحي يجعلون منه عضواً في جماعة أولية , وفي المدرسة يصبح عضواً في تنظيم تربوي رسمي , وبتزايد نشاطه وانتماءه لنادي أو جمعية أو تنظيم وتفاعله مع أعضائها واكتسابه لخواصهم يصبح ذو شخصية اجتماعية , وبتوسع نشاطاته الرسمية والعرفية وتفاعله وترابطه مع التنظيمات الرسمية وغير الرسمية لتأمين احتياجاته عندما يصبح رب أسرة أو معلم في مدرسة أو رئيس دائرة ويصبح صاحب قرار وممثل للضوابط العرفية والرسمية عندئذٍ يصبح فاعلاً اجتماعياً , هذه العلاقات التي بناها الفرد من طفولته إلى كِبره هي مادة البناء الاجتماعي , عندئذٍ يخضع فعله الاجتماعي لضوابط اجتماعية عرفية وأدبية وخلقية ودينية وقانونية توجب عليه الالتزام والتقيُّد بها أي أصبحت علاقته بالبناء الاجتماعي تستلزم تبادل المنافع بين الطرفين , فالفرد يحتاج إلى إشباع حاجاته ومتطلباته والبناء الاجتماعي يقابله بحاجته إلى إخضاع الفرد لآلياته الضبطية من قيم ومعايير وقوانين .
لقد شغل موضوع القيم اهتمام الكثير من المفكرين والفلاسفة للأهمية التي تتميَّز بها في تكوين المجتمع , فأيُّ مجتمع لا يتكوَّن دون وجود بناء معياري وهو عبارة عن أفكار تنطوي على صوَر الحياة الاجتماعية والملاحظات التي تتعلق بها , وهذا البناء المعياري يحقق للفرد والمجتمع تصوراً للغايات التي يهدف لها , فهو يحتوي على قواعد ومقاييس وأنماط للسلوك تشكل معايير اجتماعية يُقاس أو يُحكم بها على السلوك الفردي أو الاجتماعي ويُقرر بقبوله أو رفضه , ويعتمد هذا التقويم على سلَّم من القيم ويقوم على نحوٍ معيَّن بحيث يعلو على التقديرات الشخصية المتغيرة للأفراد , فيجد الأفراد أنفسهم في حقيقة الأمر إزاء سلَّم من القيم على نحوٍ مقرر تماماً وفي وضع خارجي عنهم , فهو لا يعتبر ترجمة عن مشاعرهم , فهم لا يملكون الخيار إلا أنْ يُلاءموا أمرهم وفق هذا السلَّم القيمي الذي يُفرض عليهم فرضاً , من ذلك يتبيَّن ما للبناء المعياري من مقدرة على فرض نفسه على الأفراد بما يملكه من سلطة معنوية مستمدة من الأصول الجمعية أو من الدين فهو يقاوم كل ما يعترض سبيله , ولهذا تمتلك القيم القوة في توجيه أفعال الفرد نحو غايات ومصالح المجتمع فتساهم بالاحتفاظ للمجتمع بذاتيته الخاصة .
القيم الاجتماعية هي القواعد أو المقاييس التي يقوم على ضوئها السلوك الاجتماعي أو يُحكم عليه , وهي مصدر للمعايير الاجتماعية التي يُقصد بها الأحكام الملموسة والمحددة نسبياً والمعتمدة في تحديد أنواع السلوك المناسب في أوضاع وظروف معينة , إذن القيم هي مواصفات أو مبادئ أو أفكار عامة مجردة ونسبية تعبر عن طموحات الناس وتتضمن عدداً كبيراً من المعايير الاجتماعية التي توضح حدود السلوك الذي يتناسب مع صيغة القيمة الاجتماعية دون تحديد مقاييس مفصلة ودقيقة , وما تؤكده القيم والمعايير للمجتمع هو إنَّ السلوك الإنساني موجه معيارياً , أي جزء من عالم المحرمات والمحللات في ذلك المجتمع , فلولا القيم والمعايير التي ينشأ عليها الفرد منذ ولادته لأصبح من الصعب تصور أي سلوك إنساني إنه سلوك خيِّر أو شِرِّير أو سلوك مُنصِف أو جائر .
اختلفت الآراء في الوصول إلى تعريف القيم , وسبب ذلك لأنها تتناول تصورات الإنسان عن نفسه , ماضيه , مستقبله , نظرته للوجود , علاقته بالآخرين , وبتحليل هذه التصورات عِبرَ تاريخ البشرية نجدها تمتد إلى ما وراء الطبيعة من جانب أو بالقرب من المدركات الحسية من جانب آخر , وسبب آخر تباين الرؤيا بين من يجد إنَّ الاهتمام بالجوانب الفردية بما تحويه النفس الإنسانية من دوافع ورغبات يُضْعِف جانب المجتمع في التأثير في القيم , وتنعكس الصورة إذا ما كان الاهتمام بدور المجتمع والعقل الجمعي وتأثيره على تحديد القيم , فبرزت عدة رؤى فهناك من يرى إنَّ قيمة الشيء هي درجة نفعه المادي ويهمل الموضوعات الروحية فيُسقِط القيم الروحية والجمالية من نسق القيم , وآخر من يرى إنَّ القيم مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأشخاص وبكيفية الإحساس بها في لحظة الحكم على القيمة , وإنه لا وجود مجرد للقيم بدون ذلك الإحساس الفردي بها , ويعارضه من يجد أنَّ للقيم وجوداً خارجياً عن الأشخاص فالقيم بنظره تتصف بصفة مستقلة عن كيفية الإحساس بها في لحظة الحكم عليها وهي تطابق نوعاً من الحقائق الموضوعية خارج الذات , ورأيٌّ ثالث نقد الحالين ويرى إنَّ للقيم وجوداً مجرداً خارج الذات ويعتقد إنَّ الأحكام المعيارية للقيم لا تُستمد من شعور الأفراد بها من عدمه , ويستشهد بالقيم السماوية لدعم رأيه , ويدحض رأي من يريد إنكار دور الفرد وأحاسيسه ودوافعه وتفاعله مع الموقف في حكم القيمة ويرى إنَّ كثير من القيم مستمدة من الفطرة الإنسانية المهذبة والسليمة من الانحراف , ونورد تعريفين لأبرز عالمي اجتماع ونبين وجهتنا بكل منهما .
عالم الاجتماع المعروف دوركهايم قال في القيم , إنَّ مثلها ككل الظواهر الاجتماعية فهي من صُنع المجتمع ولها قوة مُلزِمة رغم إنها أمور مرغوب فيها , وأكد إنها تصورات تتميَّز بالعمومية والإلزام , فأفراد المجتمع يشتركون في قيم واحدة أو معايير متماثلة يفرضها عليهم المجتمع بما له من قوة القهر , وأنكر دوركهايم إمكانية تحرر الأفراد من قيم المجتمع واتخاذ موقف صريح من هذه القيم سواء بالرفض أو التمرد أو عدم القبول أو ألامبالاة وإمكانية إقرار الأفراد لقيم جديدة , كما رفض دوركهايم فصل عناصر القيم من البناء الاجتماعي , ونحن وآخرون نجد إن التمرد على القيم ظاهرة شائعة بين الشباب خاصة في العقدين الأخيرة , فوجدناهم ينبذونها ويتمردون عليها ويدعون إلى قيم جديدة غير مبالين لما أشار إليه دوركهايم وكأنه درس مضى عهده .
أما عالم الاجتماع كليد كلاكهون فقد قال في القيم إنَّ القيمة هي تصور واضح محكم أو مختلط عن الموضوع المرغوب فيه ويخص فرد أو جماعة ويتحكم في اختيار أساليب الفعل ووسائله وغاياته من بين الممكنات , وهذا التعريف يوازن بين الواقعية والموضوعية لكنه لم يتناول جانب انفصال القيم عن الأفراد أو المجتمع , كما إنه استبعد تصوراً للقيم من خارج نسق الشخصية أو النسق الاجتماعي , وهذا التعريف رغم توافقه في الجوانب التطبيقية والميدانية والواقع الفعلي للحياة الاجتماعية لكنه أغفل الجوانب المعيارية التي عني بها نسق القيم الدينية ففي المجتمعات الدينية عندما يصاب نسق القيم بعدم القبول من المجتمع فإن رجال الفكر الديني ينشطون على دفع المجتمع بشتى الوسائل للتطابق مع القيم الدينية وبناء القناعات من جديد بضرورة العودة إلى ذلك النسق الأصيل , أما في المجتمعات المدنية فيتجه قادة الفكر إلى إيجاد قيم جديدة تنال قبول المجتمع وإسقاط القيم الأولى التي فقدت القبول , ومن وجهة نظرنا نستطيع أن نضع تعريف إجرائي للقيم وهو (هي أحكام وأعراف معيارية تحصل على توافق مقبول تحدد السلوك وتقومه في الفرد والمجتمع) .
مصدر القيم : من الواضح إنَّ وجود القيم وكونها معايير يقاس عليها السلوك الإنساني وتُحَددْ الاتجاهات والأنشطة السلوكية أمر متفق عليه , إذ يجد الأفراد أنفسهم أمام بناء من المعايير يتعلق بنوع من التقويم يَعتمد على سلَّم القيم , ولكن ما هو مصدر هذه القيم ؟ الفلاسفة القدامى يصفونها بأنها أفكار مجردة في الذهن اهتمت مباحثهم بدراستها , فالمنطق يبحث في قيم الحقيقة , والأخلاق تبحث في قيم الخير , والجمال يبحث في القيم الجمالية , أما الدراسات الفلسفية الحديثة فلم تتعرض للقيم في الواقع الملموس إنما تدرسها كأفكار مجردة , في حين الفلسفة التجريبية المعاصرة تصدت للنظام التقليدي لمحاولة إقامة نظام جديد , مستهدفةً تدمير الأسس التي قام عليها نسق القيم القديم واستبداله بنسقٍ أكثر حيويةً , غايتها تحرير الإنسان من قيمه ومن أي نسق سابق أولي , فحاولت أنْ تقتلع الإنسان كلياً من تقاليده ومن أنساق اعتقاده ومجتمعه , فكانت النتيجة الحتمية مذاهب الشك , فاعتبر الفلاسفة القيم والتقييم خارج نطاق التفسير العلمي وتجنبوا كتابة أي عبارات واضحة عن مناهجهم , مما جعل مناقشة المناهج الفلسفية أمراً مستحيلاً وغير قابل للتحقق , ولم يحاول الفلاسفة بعدها استخدام ما توصلت إليه الدراسات الأخرى الحديثة لبعض العلوم لإثراء فهمهم عن القيم ونسق القيم , وبذا كانت معالجتهم للقيم معالجة أكاديمية وليس لها استخدام عملي في المجتمع , ومع هذا الاختلاف بين المذاهب الفلسفية القديمة والحديثة حول موضوع القيم وأسبقيتها وإطلاقها ونسبيتها نجد الخلاف في مصدرها يتفاوت تفاوتاً كبيراً , فالبعض يرى إنَّ مصدر القيم هو السماء , في حين يراها الآخر في العقل والخبرات الإنسانية وهؤلاء يختلفون مع بعضهم فيما إذا كانت القيم من صُنع الفرد أم من صُنع المجتمع , فالفرد في بعض الاتجاهات هو صانع القيم ومنشئوها , وما هي إلا ترجمة للمشاعر الفردية الشخصية , والمَلَكة الفردية في وسعها تصور الأمور وإدراك المُثُل العُليا , وبناءً على ذلك فإن قيم الأشياء يتعلق تقديرها بالمُثُل العُليا المُدرَكَة من قبل الأفراد , في حين يرى بعض علماء الاجتماع ومنهم دوركهايم إنَّ المجتمع هو صانع القيم وكل تراث الحضارة وقائماً على رعاية ذلك التراث , مما يجعل المجتمع سلطة آمرة وعون مرغوب فيه لتحقيق التوافق مع القيم الاجتماعية , أما القيم المقدسة فهي من وجهة النظر الاجتماعية جزء من قيم المجتمع العالمي لكن تتميز بطابعها الخاص , إنَّ الرؤيا القائلة أن المجتمع هو صانع القيم نراها قريبةً للواقعية والمنطق طالما إن للمجتمع قدرة على التأثير الواضح على الأفكار والثقافات بشكل عام , وما يمارسه العقل الجمعي من تأثير على قيم المجتمعات , لكن ذلك لا ينفي تأثير الفرد في القيم لأن العمليات النفسية الإنسانية المتفاعلة باستمرار في نفس الفرد بدءاً من التأثر بما حولها ووصولاً إلى الشروع بالفعل والاستجابة للمؤثرات الخارجية لا يمكن إغفال أثرها , فحقيقة السلوك الإنساني عموماً هو من هذه الاستجابات الفردية للمؤثرات المختلفة , ولا يمكن إبطال غرائز الفرد وفطرته بحجة إن المجتمع ينظم تلك الغرائز والدوافع , فالمجتمع يمارس نوعاً من التنظيم للغرائز لكنه لا يلغيها , والمجتمعات التي أرادت إحداث نظم اجتماعية تتعارض مع الغرائز الفردية واجهت فشلاً ذريعاً في استقرارها جراء التصادم الفطري بين نظمها وخصائص النفس الإنسانية , فتأثر القيم بما في النفس الإنسانية أمر لا يمكن تجاهله أو إغفاله , لكن لا يمكن اعتبار هذه الغرائز والدوافع الفطرية الإنسانية قيماً اجتماعية نهائية لا يمكن التدخل فيها أو ضبطها فلا يمكن أن تكون الدوافع الفردية مصدراً مطلقاً أصيلاً للقيم , لما نلاحظه من ضوابط وموجهات تحكم الأفراد في تصرفاتهم وتَحُد من سيطرة الغريزة والدافع الفطري وتوجهها لمصلحة الفرد والمجتمع , مهما اختلفت المجتمعات في أشكالها وتوجهاتها العقدية والفكرية .
رسوخ القيم : إنَّ صيغة رسوخ وانتقال القيم بين الأجيال تكاد تكون واحداً في معظم المجتمعات , ومن أبرز ما يثير اهتمام الباحث في هذا الموضوع هو دور عمليات التنشئة الاجتماعية في اكتساب واندماج ونقل القيم في مراحل الطفولة كمركب أساسي في ثقافة المجتمع , فالقيم هي لبّ الثقافة إلى الحد الذي بات يستخدم مصطلح الثقافة القيمية , كما إنَّ التوافق مع الفطرة الإنسانية له دور في رسوخ القيم .
التنشئة الاجتماعية ورسوخ القيم : إنَّ عملية اكتساب القيم هي جزء من عملية التطبيع بالثقافة فهي عملية تعلم , تبدأ مع نضوج الإدراك الحسي للطفل وتلازمه طيلة حياته , والقيم ظاهرة اجتماعية وليست وراثية , فالطفل يتوحد معها خلال تفاعله في مؤسسات التنشئة الاجتماعية مع والديه وأقرانه وفي المدرسة والمجتمع والمؤسسات الدينية , وتعتبر القيم من مقومات شخصية الطفل يكتسبها من الكبار في مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمؤسسات التي يعمل فيها بالكِبر في إطار المجتمع , ويعبر عنها في أحاديثه وكتاباته وتصرفاته ورغباته وأمنياته وميوله فتنمي شخصيته , أما كيف يكتسب الطفل خصائص قيم مجتمعه ؟ فإنه يكتسبها بالتعلم من خلال حكم المجتمع على سلوكياته , ولذلك فإنَّ اتساع مجال القيم التي يواجهها الطفل إثناء نشاطه يساهم في إنماء شخصيته إلى حدٍّ كبير , كما تساهم طبيعة البيئة الأسرية على إثراء شخصيته وصقلها بالقيم الاجتماعية , أما كيف يتكون النسق القيمي لدى الطفل ؟ إنَّ الطفل قبل نضوج إدراكه الحسي يتقبل المثيرات دونما مفاضلة , فهو لا يمتلك عمليات ذهنية بعد , ولكن مع نموه الذهني وبلوغ أثر التطبيع له واكتمال الركن التحويلي لعملية التنشئة الاجتماعية بإدماج ثقافة المجتمع في بناء شخصيته , ودمج طبيعته البشرية الخام بالنمط الاجتماعي والثقافي لمجتمعه ينضج إدراكه , ويبدأ يمتص المثيرات الحسية البيئية التي تحيط به بحالة من الوعي ويستخلصها ويربطها ببعض المعاني المناسبة لها ويختزنها في ذاكرته , فهو يشتق شخصيته من المجال الاجتماعي الكلي للشخصية وفقاً لقانون الصفات والمشتقات مع بقاء تميُّز شخصيته بفرديتها على أرضية قوامها للطبيعة البشرية , فنمو الشخصية في جوهره عملية تميُّز وفقاً لقانون التميُّز بالفردية وبذلك سيتضمن مخزونه المعرفي الثقافي نسقاً قيمياً , وخلال عملية التنشئة الاجتماعية التي يتم فيها نقل التراث الثقافي والاجتماعي المرغوب فيه لصالح الفرد والمجتمع بعد تنقيته من مفاهيم الماضي واتجاهاته غير المرغوب فيها تنتقل القيم الاجتماعية بأنساقها من جيل إلى جيل .
إنَّ التنشئة الاجتماعية كلما أدت دورها بشكل جيد تمكنت قيم المجتمع من شخصية أفراده بشكل أفضل , واستطاعوا امتصاص عناصر الحياة الاجتماعية والتوحد معها بشكل أكبر , ويلعب الوالدان دوراً هاماً في توحد الطفل مع القيم الاجتماعية من خلال حثه على قبول قيم محببة ونبذ قيم أخرى مرفوضة , فالطفل يلاحظ خلال سلوكه اليومي مع والديه مجموعة من القيم تعلن عن نفسها إثناء تفاعله معهما وتُلقَّن له على شكل مجموعة من قواعد السلوك يبدأ التوحد معها , بيد إن الطفل لا يتوحد مع مجموعة القيم كلها في آن واحد بل هناك درجات متتالية لتوحد القيم تتم تدريجياً إثناء عملية التنشئة وفق مراحل النمو المختلفة , وثمة نتائج اجتماعية ايجابية تتحقق للطفل عند اكتسابه للقيم منها مثلاً , إن القيم المتوحد بها تساعد على فهم الفرد لأدوار السلوك فهماً واضحاً وأدائها أداءً ناجحاً , إن نسق توجيهات القيم المتوحد بها يساعد على استقرار نسق السلوك , أي تكامل أهداف الشخصية مع أهداف الجماعة , إن اكتساب القيم يساعد على الارتباط بالجماعة وتكوين شعور بالتماسك الجماعي وإيمان الشخص بالمعايير والسنن الاجتماعية .
إنَّ عملية اكتساب القيم لا تقتصر على مراحل الطفولة فقط , لكن القيم المكتسبة خلالها تكون قيم راسخة لأن الطفل يتوحد مع القيم السائدة والمتغيرة في الأسرة , وهي الأساس الذي يقوم عليه نسق القيم فيما بعد , ومع ذلك تبقى أهمية اكتساب الشخص للقيم في كل مراحل عمره قائمةً , فهي لا تقتصر على مجال الأسرة بل تسهم الجماعة التي ينتمي إليها الطفل عند خروجه إلى المدرسة ثم إلى المجتمع وتفاعله مع أعضاء جدد في مواقف متعددة ومواجهته لقيم مستجدة كلها تسهم في اكتسابه لقيم جديدة , وهذه قد تدعِّم القيم الأسرية , أو قد تضعها موضع الشك والنقد , أو قد تعارض القيم التي ينادي بها البناء الاجتماعي , ومن المؤكد إنَّ القيم المتوحدة داخل الأسرة إذا كانت مُحكَّمة تحتل الأفضلية لدى الطفل في حالة تصارعها مع أي قيم أخرى , خاصة إذا كانت تلك القيم لا اختلاف بين الوالدين عليها ولا تُخالف قيم الأسرة , أما إذا اختلف الوالدان في أسلوب تنشئتهم لطفلهم , أو اصطدمت قيم المدرسة مع قيم الأسرة , أو تعرض الطفل خلال مراحل الطفولة إلى انساق متضاربة من القيم , فانه سيفشل في تكوين نسق عام محكم متكامل للقيم والتوقعات المرتبطة بسلوك الآخرين , ويعجز الطفل عن تحقيق التوحد الكامل مع قيم الجماعة , ويخفق في إدراك التعميمات , وسيعاني من غموض الرؤيا أمامه , والتخبط في سلوكه لجهله بالقيم التي تحكم المواقف ولن يستطيع تكوين تصور عام عن المواقف المتعارضة في حياته اليومية , وسوف لن يرقى إلى مستوى السلوك المجرد إلا بصعوبة بالغة , فيتسم سلوكه بالانحراف عن السلوك المألوف في مجتمعه , مما يجعل فشله مستقبلاً أمراً متوقعاً , وأمام هذه المشكلة لابدَّ وأن يتحقق التنسيق الدقيق وتتفق وجهات النظر بين هذه الجهات أجمع (الأسرة , المدرسة , المجتمع ) ليتوحد المصدر في تقديم القيم الموحدة الأصيلة للطفل ليستقر وجدانه ويستقيم سلوكه بما يتفق مع قيم المجتمع .
أما دور الفطرة في رسوخ القيم فمن الثوابت التي لا تتغيَّر ولا يمكن أن تُغيِّر الفطرة الإنسانية هي جوهر الإنسان , أما الصورة التي تتحقق بها الرغبات الفطرية فقد تتغيَّر بتغيُّر الإمكانات المادية والعلمية وتطوُّر قدرات الإنسان العقلية والفنية تطوراً مهتدياً على قاعدتها الإنسانية وعلى خطها الأصيل , إنًّ علاقة القيم بالفطرة تمنحنا الإيمان واليقين والعقل إن خالق الغرائز والدوافع الإنسانية هو الذي وضع الضوابط والأوامر والنواهي بما يصلح للإنسانية ويتفق مع مصالحها , مدركين إن أي نسق قيمي لا يهتدي بهدى الله لا يمكن أن يوفق , فالفطرة أساس أوجده الخالق في كل نفس , وهذه الطبيعة التي خلق عليها الإنسان خُلِقت متناسبة مع ما أريد له من امتثال لتوجيهات الخالق , وبالتالي فمن المؤكد لا تعارض بين سلوك الفطرة وبين متطلبات الإنسان .
ألقيم والتغيير الاجتماعي : من الواضح إنَّ القيم كانت وما تزال موجودة في المجتمعات سواء كان مصدرها فلسفي اجتماعي أو فقهي إلهي , وإنَّ الناس يتعاملون وفق المرغوب والممنوع من السلوك على هديّ وحدود النسق القيمي , فالقيم تؤلف في مجموعها تركيباً يطبعُه التكامل والتوازن لكي تؤدي وظيفتها الكبرى المتمثلة باستمرار الثقافة والمجتمع , هذا التكامل والتوازن تعتمد درجاتُه على مقدار الاستقرار الاجتماعي , ويزداد اختلال التوازن والتكامل بين قيم النسق القيمي للمجتمع كلما زاد تعجيل التغيير الاجتماعي , وتبرز هذه الحقيقة بجلاء عندما يكون التغيير مصحوباً بدخول قيم جديدة تتسم بدرجات عالية من عدم الانسجام والتوافق مع ما هو سائد من قيم المجتمع , مما يولد حالات متنوعة من الصراع والتناشز بين الاثنين , ويعبر التناقض بين القيم القديمة والقيم الجديدة عن نفسه بأشكال عديدة ومختلفة , كما يمكن بحثه من زوايا متعددة لكل منها منظوراته الخاصة .
فقد يُبحث من الزاوية الثقافية , أي يجري تفسيره على ضوء ما يُلاحظ من انسجام أو عدم انسجام بين العناصر والمركبات الثقافية المتناظرة في كل مؤسسة من المؤسسات الرئيسية والفرعية في المجتمع , أو قد يُبحث من الزاوية الاجتماعية , وذلك بدراسة تغيُّر القيم من زاوية التفكك ومن زاوية التكامل للوحدات والفئات والجماعات الاجتماعية المتعددة في المجتمع , وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة بينها , وتأثر تلك العلاقات بعملية التغيير في كلٍ منها , وما طبيعة هذا التأثر في تركيب المراكز أو المنزلات الاجتماعية في كل وحدة من هذه الوحدات وفي تركيب المجتمع ككل , فالقيم تتفاوت من حيث فائدتها الاجتماعية فتكون صالحة أو فاسدة تبعاً لدرجة قدرتها أو عدم قدرتها على إشباع الحاجات الأساسية , فهذا التفاوت في مقدرتها يحدد ثباتها أو الثبات عليها من قبل الأفراد أو الجماعات , أو قد يُبحث من الزاوية النفسية , أي الكيفية التي تتأثر بها اتجاهات ومواقف الأفراد تحت تأثير التحولات التي تطرأ على قيم الثقافة والمجتمع , وفي هذه الحالة ولكي تتبلور صورة التغيير القيمي الحاصل في الشخصية لا بدَّ من تقسيم المواقف السلوكية حسب القيم التي تحفزها , وهذا يؤدي بالضرورة إلى الحصول على مجموعات من المواقف ” الاتجاهات ” موزعة على جوانب الثقافة المعروفة السياسية والاقتصادية والدينية والأسرية والتربوية والترويحية بما ينطوي عليه من نقاط الانسجام والتناقض بين القيم التقليدية والجديدة وفي الميادين التي يراد بحثها , ومن هذه المقارنات يتم التوصل إلى صورة نفسية ثقافية اجتماعية عن واقع التكامل أو التفكك في القيم الاجتماعية كما تنعكس على الشخصية .
إنَّ القيم شكلين قيم مقدسة وقيم نفعية ومن خصائصها إنها ذاتية فتقديرها يعود لمتعاطيها , وإنها غير قابلة للقياس لأنها إنسانية وغير محددة , وإنها قائمة على الاعتقاد لأنها شيئاً مجرداً مستقلاً في ذاته عن سلوك الشخص , وهي نسبية تختلف من شخص لآخر ومكان لآخر وثقافة لأخرى ومجتمع لآخر وتختلف حتى عند الشخص نفسه على ضوء حاجاته ورغباته وظروفه , فلا يوجد قياس للقيم يعمم على المجتمعات , والقيم لها ترتيب هرمي فبعضها يهيمن على الآخر وهذا يخضع لترتيب قبول الناس لها ولفرديتها أو لجمعها ولحراكها مع حراك المجتمع , وترتيبها مع قيم الأشخاص وقيم المواد وتتوقف على الوعي بقدرها , فالقيم هي قمة الهرم لعناصر الثقافة وهي الأساس الذي تشيَّد عليه ثقافة الإنسان في كل المجتمعات , وهي التي نتج عنها تطور الإنسان اجتماعياً وحضارياً لأنها أعتقته من قوقعة الغرائز وكونت ذاته الاجتماعية , والقيم هي مصدر تفسير كل ظواهر وحقائق حياة الإنسان الاجتماعية بكل أبعادها وجوانبها , وأمام هذه الخصائص فإن القيمة نفسها لا تتغيَّر وإنما يتغيَّر تفسير الناس لها وتطبيقها , فالرموز والمعتقدات والخير والصدق والأمانة وحرمة الدم البشري وحرمة الجار وحرمة المال والعرض وغيرها قيم موجودة أصلاً , لكن إذا حوِّرت وأصبحت نسبية عند بعض الناس فهذا لا يعني إنها تغيرت , إنما الذي تغيَّر هو تفسير البعض في المجتمع لها ونسبية التمسك بها .
ولهذا يتوجب على جميع المثقفين والمصلحين والشخصيات الأساسية في هكذا مجتمعات والتي شخَّصت بوضوح ما أصاب بعضاً من قيمها من سوء تفسير أو فقدان لقوة الإلزام أو تشويه لحقيقتها أو المزاجية في تطبيق معاييرها , كانعكاس ونتاج لعملية التغيير المركبة المتعجلة التي مرَّت بها , والتي لا يمكن تصنيفها ضمن عمليات التغيير الاجتماعي لكنها أحدثت تغييرات سلوكية واسعة المساحة في المجتمع , مما سبب للناس الكثير من المشاكل في حياتهم اليومية بتفاصيلها , وهذا أمر طبيعي يطفو على السطح كظاهرة ترافق عمليات التغيير المركبة الغير مخطط لها بإحكام كما تشير لذلك نظريات التغيير في علم الاجتماع , واعترافهم الصريح بالوقوع بخطأ إغفال عدم التحسب لِما سيصيب قيمهم إثناء عملية التغيير , إزاء ذلك يتوجب عليهم البحث والتحري والتجريب في مختلف مجالات الحياة الإنسانية للخروج بمبادئ عملية لضمان الاتصال والتفاهم بين مكونات المجتمع أفراداً وجماعات بشكل يحقق التوافق والانسجام على القيم التقليدية والتفاهم على ما يستجد من تعديل معايير تتطلبها عملية التغيير , لأن معالجة مشكلات البشر المادية لا تضمن رفع البؤس والإحباط عن كاهلهم , بل إنَّ الأمر يستدعي أيضاً مراعاة احتياجاتهم النفسية وهي بطبيعتها ترتبط بشكل وثيق بقيمهم الاجتماعية .
انعكاسات تغيير القيم على النُظُم الاجتماعية : إنَّ المجتمع عبارة عن شبكة من العلاقات التفاعلية , تنتظم في نظم رئيسية هي النظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الثقافي , وكل نظام من هذه الأنظمة يُسيِّر أنشطته المتعددة بنظم فرعية مصاغة ضمن إطار نظامه العام , والنظام الثقافي هو الأشمل في الأنظمة الثلاثة الرئيسية , وأوسع ما ينضوي ضمن إطاره هو النظام الاجتماعي , والنظام الاجتماعي هو عبارة عن تدبير اتَفَقَ عليه أفراد المجتمع لغرض السيطرة على النشاطات المختلفة فيه , ويقوم على مبدأ أو جملة مبادئ , وهو الذي يعين مكان كل فرد في الجماعة ويبين مجال النشاط الفردي ومجال المصلحة العامة , وهو الذي يحدد التفاصيل التي تنظِّم حياة الفرد اليومية في المجتمع وما يجوز للأفراد أن يقوموا به من نشاط وما يحرم عليهم القيام به , فالنظام الاجتماعي هو ليس غاية وإنما هو وسيلة لخدمة المصلحة العامة في المجتمع وعبرها مصلحة الفرد .
إنَّ من العوائق التي تواجه عمليات التغيير عندما تتحرك لإحداث التغيير في البناء الاجتماعي , هو مقاومة النظم الاجتماعية القائمة لعمليات التغيير , وعند التحري عن الدافع وراء ذلك تجد إنَّ القيم والمعايير تشكل ركيزة أساسية فيه , وسبب ذلك هو قيام النظم الجديدة والنظم القديمة على قيم ومعايير متباينة ومختلفة , إن الوظائف والأدوار الاجتماعية تستمد تصوراتها من الميراث الثقافي في المجتمع والذي أساسه القيم والمعايير , فالنظم القديمة لا تختفي بمجرد ظهور نظم جديدة يستحدثها التغيير الحادث في نشاطه التنموي , إنما تبقى جنباً إلى جنب مهما كانت قوة التغيير , والأمر مرتبط بخصائص النظم الاجتماعية التقليدية , حيث تختلف من مجتمع لآخر من حيث مرونتها أو سعة مجالها وضيقه , وهذه الخاصية تتيح إمكانية أكبر لحدوث التغيير , أضف إلى ذلك يجب أن تسير مراحل التغيير بخطوات متعاقبة متداخلة هدفها النهائي تحقيق الإيجابية بعملية التغيير الاجتماعي , مما يستدعي الأخذ بالحسبان كيفية تغيير القيم والمعايير لتتواكب مع الواقع الجديد للتغير الاجتماعي , وتتكيَّف بصورتها الجديدة مع تغيير النظام الاجتماعي , وقد أشار إلى ذلك واضع أسس علم الاجتماع ابن خلدون في مقدمته الشهيرة فشدد على أهمية التحول الاجتماعي القيمي أو المعياري التي ينبغي أن تواكب المراحل المتعاقبة والمتصلة لدورة الحياة الحضارية التي شبَّهها بدورة حياة الإنسان , كما أشار إلى نفس الموضوع العالم أوكست كونت الأب المؤسس لعلم الاجتماع إذ يرى إنَّ لكل نمط من التنظيمات الاجتماعية أطراً فكرية تناسبه وتبقى معه للفترة التي يبقاها ثم تتغير , فتنعكس آثار التطور التاريخي الاجتماعي على تحولات النظام الفكري القيمي أو المعياري من شكلٍ إلى آخر , وهنا يبين أوكست كونت الترابط بين نوع القيم التي تسود وبين نوع الجماعة , فيقول “حيث يسود السحر يكون التركيب الاجتماعي خرافياً طقوسياً , وحيث يسود العلم الحقيقي الموضوعي يكون المجتمع علمانياً ” , ولما كانت القيم والمعايير ليست سوى تعديلات وتهيؤات وتوافقات يجريها الناس في تفاعلاتهم مع بعضهم البعض ومع بيئتهم , وما القيم إلا توافق مع مشكلة متكررة النشوء , والمعيار لا يصبح جزءً من ثقافة الجماعة إلا بعد أن يصاغ ويبدو انه قابل للتطبيق بطريقة تجعله يوفر بعض الحماية أو الشعور بالكسب لتلك الجماعة , أو أنه يسهل لها عملية التواصل الاجتماعي , وبذلك يظهر إنَّ التنظيمات الاجتماعية تنطوي على نوع من عملية الاختيار الطبيعي , ويمكن أن يصنفها المرء على أساس القيم المتغيرة وتأثيرها على التنظيم الاجتماعي , وهنا تكون عملية التكيُّف والتطابق بين القيم وبين النظم الاجتماعية المرافقة لعملية التغيير أمراً مطلوباً , مما يستدعي أن تتضمن عمليات التخطيط للتغير كيفية تكييف القيم القديمة لتقبل التزاوج مع المتغيرات الجديدة لقيم التغيير في النظم الاجتماعية , إنَّ الأمر منوط بيد المخططين للتغيير ومدى معالجتهم للموضوع في مراحل التخطيط , ومقدار الفائدة والتعارض والتضرر في المصالح بين فئات المجتمع , وكذلك رغبة واندفاع الناس لتقبل التغيير .
تبدل القيم وزوالها : عرضنا فيما سبق موضوع القيم تفصيلاً , ونتناول الآن جانب عنها يشغل تفكير البعض , وهو فيما إذا كانت القيم ثابتة أم تزول شأنها شأن الأشياء الأخرى , إنَّ القيم هي لب ثقافة المجتمع وما دامت أحوال المجتمعات تخضع لسنن ونواميس اجتماعية فإن القيم تتأثر بما يتأثر به المجتمع , يقول ابن خلدون ” إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستمر , وإنما هي على اختلاف على مر الأيام والأزمنة وبانتقال من حالٍ إلى حال” , إن الذي لا جدال فيه إن القيم خاضعة لهذه السُنة الاجتماعية فهي تتبدل وتزول في بعض الأحيان , وحتى قمة القيم والتي هي العقائد قد يقع عليها التبدل لكنه ليس من حيث المدى والزمن كما مثل بقية مكونات البناء الاجتماعي , وإلا لما ظهرت عقائد متعددة ومتنوعة على مر العصور , والقيم بسبب شمولها لمعاني كثيرة من الاهتمام والاعتقاد والرغبة والسرور واللذة والإشباع والنفع والاستحسان والاستهجان والقبول والرفض والمفاضلة والاختيار والميل والنفور , لذلك وبسبب هذا التنوع فإنها تتفاوت وتختلف فيما بينها في التأثر بالتغيُّر أو الزوال , كما إنَّ تفاوت القيم من حيث فائدتها الاجتماعية ومقدرتها على إشباع الحاجات الأساسية من عدمها يحدد وجوه ثباتها أو الثبات عليها من قِبل الأفراد والجماعات .
إنَّ القيم المرتبطة بالمصالح الكبرى لمختلف الثقافات تكون على درجة أكبر من الثبات ويصعب زوالها أو استبدالها ما لم يهتز النسق القيمي كله , كما إنَّ إحساس الأفراد بمقدرة النسق القيمي الذي ينتمون إليه على إشباع حاجاتهم والتوافق معها وتعمُّق هذا الإحساس في شعورهم بالمعرفة النظرية والنتائج العملية المبنية على تلك المعرفة يزيد من ثبات قيم ذلك النسق في نفوسهم وإيمانهم بها ودفاعهم عنها , ومن أسباب ثبات القيم هي الأصالة التي سبق وأن تطرقنا لها , فالقيم المستمدة من أصول ثابتة كالقيم الدينية تختلف في ثباتها عن القيم التي يعترف المجتمع إنها من صنعه , فالقيم المقدسة تتميَّز بالثبات أكثر من القيم النفعية , والقيم الغير مادية تتميَّز بالثبات أكثر من القيم المادية , فالقيم المادية تتصف بكثرة التغيُّر نتيجةً لتغييرات المادة نفسها وعليه أصبحت إمكانية التغيير في القيم المرتبطة بها واردة , ومن أسباب التمايُّز بين مستويات الثبات في القيم هو درجة الإلزام لتلك القيم , فالقيم الآمرة الناهية التي تحدد الحلال والحرام تختلف عن قيم المباح وعن المستحب وعن المكروه , وإنَّ الفرق الذي يميِّز القيم الإلزامية عن القيم التفضيلية هو درجة الإلزام والقهر الاجتماعي المتصل بكل منهما , فمن الممكن أن يخرج الفرد أو ينحرف عن القيم التفضيلية ومع ذلك يستمر كعضو له مكانته الاجتماعية في جماعته , أما إذا تعارض سلوك الفرد مع القيم الإلزامية وما تأمر به أو تنهى عنه فإن مجتمعه ينبذه , فالاختلاف في الثبات هو من حيث إلزام الفرد نفسه بهذه القيم لشعوره بالزاميتها وهو ما يسمى بالضبط الداخلي أو للا شعوري , بالإضافة إلى إلزام المجتمع للأفراد الخارجين على قيمه بما يشرعه من وسائل ضبط خارجية أو الشعوري , ومع إنَّ القيم والمعايير هي ثقافة مكتسبة إلا أن منها ما يصبح جزء من اللاوعي لدرجة قد تبدو فيها تعبيراً عن ردة فعل آلية نتيجةً لتأصلها وثباتها في الفرد والمجتمع , بينما بعض القيم بطبيعتها سريعة الزوال وهذه القيم هي التي تلتصق وقتياً وإلى حين ببعض الأشياء أو بعض الأعمال , فالتفاوت بين القيم في ثباتها أو إمكانية زوالها واضح , لكن يمكن القول إنها كلها معرضة للزوال إذا تحققت أسبابه مع اختلاف تلك الأسباب في قدرتها على تحقيق الأثر المستهدف في ثبات القيم .
خلاصة القول وغايته : لقد رأيت أن أكتب في هذا الموضوع هذه الحلقات الست لقناعتي إنه الأكثر أهمية في كشف الأسباب الخفية للانحراف السلوكي الذي يشكل ظاهرة في المجتمع العراقي أتمنى أن لا أكون مبالغاً إذا رأيتها تقترب من أن تصبح سمة ثقافية مع الأسف , إن القيم التي توجه سلوك الأفراد بما هو مقبول أو مرفوض من أنماط السلوك بهديِّ ما يضعه المجتمع من معايير وقواعد تعد من المؤشرات المهمة لنوعية الحياة ومستوى التحضُّر أو الرقي الاجتماعي في أي مجتمع من المجتمعات , وما مِن جماعة تستطيع البقاء والعمل بصورة فعالة إذا لم تعتنق وتمارس مجموعة من القيم التي يقبلها المجتمع , أما المجتمع الذي يرمي قيمه خلف ظهره ويبتدع أفراد أو جماعات منه معايير على هواهم ليقيِّموا بها سلوكهم لا يمكن أن يمتلك مقومات المجتمع , فالإلزام الذي يعطي للقيم سطوتها على الفرد لا يرتكز على ضغوط اجتماعية خارجية فقط , بل على قبول داخلي له أيضاً يعدُّه الفرد مناسباً ومشروعاً , لقد أسهبت بتوضيح كل ما يتعلق بالقيم لأضعها بين يدي القراء الكرام وأملي بالله ثم بهم أن يتبصروا بمضمونها ويحاولوا إهداء من انحرف عن قيم مجتمعنا العراقي الذي نال ما نال من المشاكل ومن الله التوفيق .